لو أن هناك استثماراً يثبت زيف الافتراض السائد عن الأصول عالية المخاطر، فهذا الاستثمار يتجسد في ديون الجمهورية اليونانية، التي حققت عائداً بنسبة 14% على مدى الأعوام الخمسة الماضية، وهو أعلى عائد على القروض السيادية بين الدول التي تحظى بتصنيف ائتماني من الدرجة الاستثمارية.
وجه الغرابة في ذلك هو أن اليونان لم يتحسن تصنيفها الائتماني إلا مؤخراً من جانب مؤسسة "إس آند بي غلوبال ريتينغز"، التي رفعت تقييمها في أكتوبر إلى "BBB-"، أو أدنى درجة في سلم ما تعتبره المؤسسة الدرجات الاستثمارية العالية.
خلاصة ذلك أن اليونان هي أفضل دولة تبرهن على عبثية استخدام التصنيفات التقليدية للجدارة الائتمانية باعتبارها تمثل شيئاً سوى أنها مؤشر عكسي.
كذلك رفعت وكالة "فيتش ريتينغز" للتصنيف الائتماني تقييم البلاد في ديسمبر من حالة عالية العائد وعالية المخاطر، بينما لا تزال وكالة "موديز" لخدمات المستثمرين، لسبب ما، تعتبر أوضاعها المالية عالية المخاطر.
رغم هيمنة تصنيفات الجدارة الائتمانية باعتبارها حكماً مفترضاً في مسألة أمان الاستثمار وأمنه، تكشف البيانات التي جمعتها "بلومبرغ" عن أن اليونان جمعت أموالاً على مدى السنوات الماضية بتكلفة تقل عن متوسط التكلفة في البلدان التي تحظى بتصنيف من الدرجة الاستثمارية.
بعد أكثر من عقد.. "إس آند بي" تعيد تصنيف اليونان للدرجة الاستثمارية
كذلك تكشف هذه البيانات أن سنداتها بيعت في شهر مايو، ولأول مرة منذ 10 سنوات، بأسعار مرتفعة وعوائد منخفضة بما يكفي لاعتبار اليونان من الدول المقترضة التي تحظى بتصنيف ائتماني من الدرجة الاستثمارية "A"، وفقاً للحكمة الجماعية السائدة بين المستثمرين في أسواق السندات، وهو ما يعلو بخمسة مستويات على تصنيفها الائتماني في ذلك الوقت.
سوق السندات ترفع اليونان فوق بريطانيا
تظهر أسعار السوق أن اليونان تستطيع الآن أن تقترض بأسعار فائدة تقل بنحو 18 نقطة أساس عن أسعار الفائدة على قروض دول تحظى بتصنيف ائتماني بدرجة "AA"، أو تفوق تصنيفها الائتماني الرسمي بسبعة مستويات.
يجري تداول السندات اليونانية لأجل 10 سنوات حالياً بعائد يقل بمقدار 50 نقطة أساس عن أوراق الدين المعيارية الصادرة عن المملكة المتحدة، وما تجدر ملاحظته هنا أن المملكة المتحدة هي إحدى الدول التي تحظى بتصنيف ائتماني لديونها من فئة "AA".
بعبارة أخرى، قررت سوق السندات بوضوح أن التصنيف الائتماني للمملكة المتحدة قد تدهور مقارنة باليونان منذ التصويت في عام 2016 على مغادرة الاتحاد الأوروبي، أكبر كتلة تجارية في العالم.
أجري الاستفتاء على خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، الذي يندم عليه الآن أغلب الناخبين البريطانيين أشد الندم، بعد عام من تزايد التكهنات بشأن خروج اليونان من الاتحاد –أو الـ"غريكسيت" (Grexit)، وهي الكلمة التي استخدمتها وسائل الإعلام البريطانية في ازدراء لخروج اليونان من الاتحاد الأوربي الذي كان متوقعاً على نطاق واسع، ولكنه لم يحدث على الإطلاق.
من يكلف نفسه عناء النظر إلى سوق السندات في ذلك الوقت ربما سيعرف أن اليونان لم تكن تتحرق شوقاً إلى العودة الحتمية إلى الدراخما التي كانت ستصاحب خروجها من الاتحاد الأوروبي، ذلك لأن العائد على ديونها آنذاك كان أقل بكثير من الذروة التي وصل إليها في عام 2012 خلال ذروة أزمتها المالية، وفقاً للبيانات التي جمعتها "بلومبرغ". إن اليونان ما كانت لتغادر الاتحاد الأوروبي في عام 2015، وهي التي لم تفعل ذلك في عام 2012 أثناء ذروة أزمتها المالية.
اليونان تتحدى موقف المعلقين
تحدت اليونان موقف الصحافة البريطانية التي تستخف بها، وكذلك آراء المعلقين، ومن بينهم المستثمر الملياردير جورج سوروس ورئيس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي السابق ألان جرينسبان، اللذان قالا لتلفزيون "بلومبرغ" في عام 2015 على الترتيب إن اليونان "في طريقها إلى الضياع" و"إنها مسألة وقت فقط" حتى تغادر الاتحاد الأوروبي. ومنذ عام 2016، تفوقت الدولة الواقعة في جنوب أوروبا على المملكة المتحدة بنمو سنوي في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 6%.
اليونان.. من "غريكست" في 2015 إلى "معجزة" اقتصادية في 2023
مع ذلك، إذا توقعت آنذاك أن المملكة المتحدة ستصبح صاحبة التصنيف الائتماني الأدنى بعد ثماني سنوات، فربما نبذوك ساعتها بوصفك ممن يعبدون إله الغباء كوالموس. ذلك لأن اليونان شهدت تخفيضاً في تصنيفها الائتماني بشكل مطرد من مستوى "A" في عام 2009 إلى مستوى "CCC" في عام 2015 من قبل "إس آند بي غلوبال"، وهو مستوى تحتفظ به الوكالة للدول المدينة التي تعتبرها عرضة حالياً لمخاطر عدم سداد التزاماتها.
ديون أميركا تفند الحكمة التقليدية
كانت تلك السنوات هي سنوات الأزمة المالية و"الركود العظيم" الذي أعقبها – وهما حدثان نتج عنهما كثير من الحكمة التقليدية التي ثبت أنها مضللة في نهاية المطاف. والدليل الأول على ذلك هو ديون الولايات المتحدة. فقد مرت أكثر من 12 سنة على إقدام وكالة "إس آند بي غلوبال" على خطوة غير مسبوقة حرمت أميركا من تصنيفها الائتماني عند مستوى "AAA" الذي لا تشوبه شائبة.
قالت الوكالة آنذاك إن سياسة حافة الهاوية في الكونغرس جعلت أكبر اقتصاد في العالم أقل استقراراً، وأضعف فاعلية مع تدهور إمكانية التنبؤ بأدائه.
على النقيض من ذلك، زادت ثقة معظم المستثمرين في سندات حكومة الولايات المتحدة، وتراجعت تكلفة اقتراض الحكومة بنحو 0.14 نقطة مئوية خلال مائتي يوم أعقبت تخفيض وكالة "إس آند بي" تصنيف الولايات المتحدة في 5 أغسطس 2011، مع ارتفاع سندات الخزانة وفقاً للأرقام التي جمعتها "بلومبرغ". خلال السنوات العشر اللاحقة، لم يحدث سوى أن ثقة المستثمرين في ديون الولايات المتحدة زادت مع تزايد قوة الاقتصاد الأميركي، الذي استمر جاذباً للاستثمار الأجنبي.
"فيتش" تخفض تصنيف الولايات المتحدة الائتماني ويلين تصف الخطوة بـ"التعسفية"
ظاهرة متكررة
حتى لا يظن أحد أن تجربتي الولايات المتحدة واليونان من التجارب الاستثنائية، تكررت ظاهرة تجاهل المستثمرين تخفيض التصنيف الائتماني السيادي مع النمسا وفرنسا واليابان ونيوزيلندا، وفنلندا مؤخراً.
في كل واحدة من تلك الحالات، ارتفعت أسعار السندات وانخفضت عوائدها أثناء المائتي يوم اللاحقة لخفض التصنيف الائتماني.
في عام 2015، الذي كان يفترض أن يشهد خروج اليونان من الاتحاد الأوروبي، تفوق أداء سندات اليونان على جميع فئات الأصول بعائد إجمالي (الفائدة + الزيادة في السعر) بلغ 101%.
مازالت اليونان هي الهدية التي لا تتوقف عن العطاء، بتحقيق عوائد إجمالية بنسبة 8% و14% و73% خلال العام الماضي، أو ما يعادل العائد على الدولار لمدة 5 سنوات و10 سنوات، وما يتفوق على عوائد سندات المملكة المتحدة التي بلغت 1%، وسالب 22%، وسالب 19%، وفق "مؤشر بلومبرغ للسندات". ربما لو علق أفلاطون على التصنيف الائتماني لقال: "إن أغنى الناس من يرضى بالقليل".