الاقتصاد المزدهر يحتاج إلى أساس من القواعد القانونية والأعراف الاجتماعية والأخلاق الشخصية

القواعد لا تعرقل الرأسمالية إنما تساعد على نجاحها

محاكمات ساحرات "سالم"، ما الدافع وراءها؟ - المصدر: بلومبرغ
محاكمات ساحرات "سالم"، ما الدافع وراءها؟ - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

- مقال رأي

كنت مهووسة في صباي بمحاكمات ساحرات مدينة "سالم" الأميركية. ليس بالساحرات نفسهن، رغم أن هناك أوجهاً عديدة يمكن تناولها حول نساء استخدمن السحر في تحديد مصائر أشخاص آخرين. لكن ما استهواني وأرعبني، في نفس الوقت، كانت الهستيريا الجماعية التي دفعت مجتمعاً بأكمله لتصديق أمر كان زيفه جلياً؛ وهو أن السحر حقيقي.

لو كنت أكثر اهتماماً بسبل التلاعب بمعتقدات بعض الأشخاص لأصبحت مختصة في علم النفس. لكن ما أردت اكتساب معرفة أكبر حوله كانت الدوافع وراء رغبة البعض في التلاعب بمعتقدات الآخرين.

الإجابة تكمن في علم الاقتصاد، حيث يرى المحللون الاقتصاديون -مع أخذ القيود في الحسبان- أن الناس تميل إلى اتخاذ قرارات ترفع جودة حياتهم إلى أقصى درجة ممكنة، وليس من الضروري أن تصب تلك القرارات في صالح المجتمع. بصيغة أخرى؛ الدوافع قد تقود شخصاً إلى اتهام غيره بممارسة السحر.

هل هناك دافع آخر؟

أوضح المحللون الاقتصاديون الذين درسوا قتل الساحرات أن الصدمات الاقتصادية التي أثرت سلباً على الدخل، نتيجة سوء الطقس، ربما تكون الدافع لمقتل الساحرات. وجادل آخرون بأنها كانت منافسة دينية، فيما أشار المؤرخون إلى الحقيقة البسيطة، وهي أن الاتهام بممارسة سحر كان ممتزجاً بنزاعات مريرة على الأراضي، حيث كان الدافع للاستيلاء على أرض الغير أو غذائه واضحاً، وكان يُفترض وجود قوانين تمنع ذلك.

اقرأ أيضاً: موديز ترفع تصنيف سلطنة عُمان إلى Ba1 وتخفض نظرتها إلى مستقرة

نادراً ما يتحدث المحللون الاقتصاديون عن كيف قد لا يؤدي السعي المجرد إلى تحقيق المصالح الشخصية بالضرورة إلى خلق مجتمع تتحسن فيه قدرة الكل على تلبية احتياجاتهم، وذلك له سببه المحمود، فتصور أن بمقدور القوى الاقتصادية تنسيق استغلال مجتمع كامل لموارده بأكبر قدر ممكن من الكفاءة، كما لو كانت يد خفية توجهها، هي فكرة لها وزنها وتأثيرها. وهنا يكمن الجمال في قول آدم سميث: "لا نحصل على عشائنا إحساناً من الجزار أو صانع الشراب أو الخبّاز، بل بسبب اهتمامهم بمصالحهم الشخصية".

مع ذلك، أدرك آدم سميث أن الناس يسعون لتحقيق مصالحهم في مجتمع شكّلت قوانينه وتوقعاته أخلاقهم، وبالتبعية سلوكهم. يتحدث المحللون الاقتصاديون في الفترة الحالية عن تحقيق الناس لمصالحهم الشخصية في ظل القيود. وتلك القيود هي ما يحدد ما إذا كان سعي هؤلاء الأشخاص سيحقق نتائج نافعة للمجتمع أم لا.

هل تؤثر القوانين وحدها على الاقتصاد؟

هناك اختلاف بين قولنا إن السوق الحرة "قد تحقق" نتائج أفضل، وإنها "ستحقق" نتائج أفضل في العالم الواقعي. والأهم أن معظم المحللين الاقتصاديين المُفضلين للسوق الحرة يدركون أن السوق لا يمكن أن تكون حرة في الحقيقة، فهي تحتاج إلى قوانين، وحكومة تسنها وتنفذها. فإذا زاد تركيز الأرباح والملكية بدرجة أكثر من اللازم، سيكبحان قوى المنافسة، ويقوضان السوق الحرة.

اقرأ أيضاً: إسرائيل تحقق بتعاملات "مشبوهة" على الأسهم سبقت أحداث 7 أكتوبر

التأثير في الاقتصاد لا يقتصر على القوانين التي تصدرها الحكومة فحسب، فالقيود التي يواجهها كل منا خلال السعي إلى تحقيق مصالحنا الشخصية تؤدي دوراً جوهرياً في بناء اقتصاد مزدهر. وتلك القيود رسمية وغير رسمية في نفس الوقت، فهي القوانين والأعراف الاجتماعية والقواعد الأخلاقية التي تنظم سلوكنا.

لننظر إلى مسألة بسيطة كالسرقة، ماذا يمنعنا عن سرقة ما نرغب فيه؟ أشار المحللون الاقتصاديون إلى أن العامل المهم في ذلك ليس احتمال الإمساك بالسارق، لكنها العلاقة بين ذلك الاحتمال وعواقبه. وقد تكون تلك التبعات رسمية، مثل السجن، أو غير رسمية، كالحرمان من دعوات العشاء بعد ذلك. قد تكون شخصية، كعدم التمكن من النوم، ومجتمعية أيضاً. النقطة المهمة هي إذا كانت العواقب شديدة بالقدر الكافي لن يقع الكثير من السرقات.

ما الأساس اللازم لبناء اقتصاد مزدهر؟

على الجانب الآخر، إذا كانت العواقب أقل مما يجب سيسرق الناس. لهذا يعد علم الاقتصاد كئيباً في الحقيقة. فمن يسعون إلى تحقيق مصالحهم الشخصية لا يسببون دوماً بناء مجتمع يكون كل من فيه أفضل حالاً.

اقرأ أيضاً: أسعار النفط تقترب من أدنى مستوى في 5 أشهر بسبب مخاوف التخمة

في نفس الوقت، تجدر الإشارة إلى أن المشكلة لا تكمن في السعي نفسه، بل انهيار منظومة القوانين والأعراف التي تحكمه. يخفق منتقدو الرأسمالية في رؤية هذه النقطة في الأغلب، فعوضاً عن مخالفة قواعد الرأسمالية، يحمّلونها مسؤولية العلل الاجتماعية بكل أنواعها.

أظهر بحث أن الأشخاص الذين يظنون أن الآخرين يكذبون، ويغشون، ويسرقون، أكثر استعداداً للكذب والغش والسرقة. كما كشفت دراسة أن الاستبيانات عن الثقة تتكهن بالسلوك المُوحي بالثقة بدرجة أكبر من الجدير بالثقة.

أُعلّم تلاميذي أن الثقة وفعل الصواب منفعة عامة، فعندما تكون أكثر جدارة بالثقة وإيحاء بالثقة، تسهّل على الآخرين الحذو حذوك. وعندما نعيش في مجتمع نزيه ومحل ثقة، يمكننا إيلاء اهتمام أكبر لتحسين الاقتصاد لكل المواطنين. وعندما يصبح الشك في مخالفة الآخرين للقوانين منطقياً، سنهدر أغلب مواردنا في التأكد من عدم وقوعنا ضحية للغش أو الكذب.

يظن عدد كبير جداً من الناس أن أحد مبادئ علم الاقتصاد هو أن التصرف لتحقيق المصلحة الشخصية يضر بمصالح الآخرين، أي أن التصرف الاقتصادي المنطقي غير أخلاقي بطبيعته. وهذا سوء فهم جوهري لعلم الاقتصاد. ففي الحقيقة، يحتاج النظام الاقتصادي الناجح إلى أساس من القواعد القانونية، والأعراف الاجتماعية، والأخلاقيات الشخصية. ومتى بدأ هذا الأساس في الانهيار، عندما نتهم بعضنا بممارسة السحر أو نحرق بعضنا أحياءً؛ سيتداعى النظام الاقتصادي أيضاً. ما نحتاج إليه ليس تقديم الرأسمالية في ثوب جديد، بل تجديد عقدنا الاجتماعي.

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
هذا المقال لا يعكس موقف أو رأي "الشرق للأخبار"وهو منشور نقلا عن Bloomberg Mediaولا يعكس بالضرورة آراء مجلس تحرير Bloomberg أو ملاكها
تصنيفات

قصص قد تهمك

الآراء الأكثر قراءة