أثارت البيانات الاقتصادية التي تصل من الصين الكثير من المخاوف في الآونة الأخيرة بشأن مستقبل ثاني أكبر اقتصاد في العالم، خصوصاً بعدما عكست كبريات البنوك توقعاتها إلى التشاؤم تجاه الاقتصاد الصيني، وزيادة الانتقادات بشأن حدوث "تباطؤ حكومي" في التعامل مع هذا الموضوع.
بدأت مؤشرات الأزمة بعد فترة بسيطة من فتح الاقتصاد الصيني أبوابه بعد فيروس كورونا، إذ كانت التوقعات تشير إلى حدوث انتعاش بعد التخلص من سياسة "صفر كوفيد". وتعزز هذا الرأي بعد حدوث نشاط في السفر الداخلي في البلاد.
لكن نمو الاقتصاد كان مخيباً. فإن صحت التوقعات، سيشهد النمو الصيني تراجعاً حاداً لثلاث سنوات متتالية، وهي المرة الأولى التي يحدث ذلك منذ وفاة ماو تسي تونغ. كما شهد نشاط التصنيع انكماشاً في يوليو، تزامناً مع تباطؤ نشاطات الخدمات.
ورغم موجة رفع أسعار الفائدة السائدة عالمياً لمواجهة التضخم، يواجه الاقتصاد الصيني انكماشاً في الأسعار، إذ انخفضت أسعار المستهلكين والمنتجين في يوليو للمرة الأولى معاً منذ 2020، بالإضافة إلى تراجع كبير في الصادرات والواردات في يوليو بأكثر من التوقعات، فضلاً عن الأزمة التي يشهدها القطاع العقاري الضخم في البلاد.
حاول بنك الشعب الصيني (المركزي) تخفيض أسعار الفائدة، في محاولة لتشجيع الأسر على الاقتراض والاستهلاك، ولكن ذلك لم يعط النتائج المرجوة.
كل هذه العوامل مجتمعة، تسببت في نزوح الأموال خارج الاقتصاد الصيني، وهو ما ظهر جلياً في سوق الأسهم الذي يشهد أطول سلسلة بيع للمستثمرين الأجانب.
بطء في التحرك
ومع هذه البيانات، أثيرت الكثير من الانتقادات خلال الأيام الماضية بشأن "بطء" تحرك السلطات المالية الصينية وبنك الشعب.
واعتبر راجات أغاروال استراتيجي الأسهم لمنطقة آسيا في "سوسيتيه جنرال" في مقابلة مع "اقتصاد الشرق"، أن السلطات "تتحرك ببطء لسبب". إذ رأى أنه خلال السنوات الماضية، وتحديداً آخر 8 سنوات، كنّا أمام 3 جولات من عمليات تخفيف المديونية: الأولى من خلال تخفيض الفائض المعروض من السلع، ثم محاربة صيرفة الظل من أجل احتواء مخاطر العدوى، وصولاً إلى المرحلة الثالثة وهي القطاع العقاري.
هذه المرحلة أكثر صعوبة وإيلاماً، نظراً لأن القطاع ليس معزولاً عن باقي القطاعات، بل شديد التكامل والاندماج مع القطاعات الأخرى مثل المصارف. وهذا ما يبرر التباطؤ الحكومي في التعامل مع الأزمة، إذ تريد أخذ وقتها خطوة بخطوة، عوضاً عن أن تتحرك مرة واحدة.
حزم التحفيز
جرت العادة في حالات مماثلة في الاقتصادات العالمية، أن تلجأ الحكومات إلى ضخ كميات كبرى من حزم التحفيز النقدي بهدف إنعاش الاقتصاد. ولكن ريدموند ونغ استراتيجي الأسواق في "ساكسو بنك"، اعتبر أن الصين لن تقوم بهذا الأمر، بل ستستغل هذه الأزمة لإعادة هيكلة قطاع العقارات وقطاع صيرفة الظل، على طريقتها.
وأضاف في مقابلة مع "اقتصاد الشرق" أن الصين بدأت هذه المبادرة لتخفيف المديونية في الاقتصاد، وتحسين مستوى الإنتاجية. فتخصيص رأس المال بكفاءة، من أحد العناصر المهمة لزيادة الإنتاجية في البلاد.
وأضاف أنه اعتباراً من 2008 و2010 وبعد الأزمة المالية العالمية، أنفقت الصين الكثير على شكل سندات حكومية محلية، وبالتالي ارتفعت ديون الحكومات المحلية. وفي 2016 كان هناك دعم لنظام مصارف الظل، ولكن السلطات بدأت بمحاربة نشاط هذه المؤسسات التي اعتبرت بسبب مستويات الانكشاف على القطاع العقاري، محركاً رئيساً له.
الحكومة الصينية أرادت أن تحل الروابط، والتخلص من المخاطر التي تطال النظام المصرفي، وبالتالي فإن الحكومة الصينية لن ترفع المديونية بهدف زيادة المستوى الاقتصادي لربع أو ربعين، لذلك هي متأنية وتريد الحفاظ على الاستقرار المالي.
إعادة الهيكلة
نوّه أغاروال إلى أن السلطات الصينية رغم أنها لا تلجأ إلى حزم التحفيز الضخمة، إلا أنها تتبع نهجاً قائماً على استهداف واضح، ولا تقف مكتوفة الأيدي، بل تريد التركيز على القطاعات والإجراءات المهمة، حسب قوله.
وأضاف أنه "إذا نظرنا إلى الأسر بالمجمل، فهي غير معرضة لضغط كبير، وبالتالي لا تريد الحكومة تعزيز الاستهلاك من خلال تقديم شيكات للناس"، مشيراً إلى أن السلطات تريد تخفيض المديونية والديون في القطاع العقاري. ونبّه إلى أن القطاع المالي حالياً قادر على حل المشكلة ببطء وتدريج، وطلبت السلطات من البنوك أن تعمل على إعادة الهيكلة حين تقتضي الضرورة، وتقدم القروض من أجل استكمال مشاريع القطاع العقاري الحالي. و"هذا يدل على أنها تتدخل هنا وهناك، ولكنها لا تريد تدخلاً سريعاً"، وفقاً لاستراتيجي الأسهم لمنطقة آسيا في "سوسيتيه جنرال".
وجهة النظر هذه أيدها ونغ، الذي اعتبر أن السلطات ستضخ السيولة وتساعد في استقرار السوق في المحصلة، ولكنها تريد أن يكون هناك عمليات إعادة هيكلة، وإجبار البنوك على شطب بعض الديون أو إعادة هيكلتها، لذا سنرى الكثير من هذه العمليات على مدار السنوات المقبلة، مشدداً على أن المؤكد أن السلطات الصينية ستقدم السيولة في وقت ما للحيلولة دون وجود خطر يطال القطاع بأكمله.
من جهة ثانية، أشار مدير مكتب "الشرق" في سنغافورة وشرق آسيا معن فاضل في مقابلة مع "اقتصاد الشرق"، إلى أن القطاع المصرفي في الصين حالياً "بصحة جيدة، ويمكن استخدامه لشطب جزء من القروض التي كانت منكشفة على القطاع العقاري". وأضاف أن السلطات تحاول حماية هذه البنوك على مصلحة بنوك الظل، كون الأخيرة غير مرتبطة بالسلطات الصينية، وليس هناك رقابة قاسية عليها، معتبراً أنها قد تكون فرصة جيدة لكي تقوم السلطات بتنظيم هذا القطاع الذي يصل حجمه إلى 3 تريليونات دولار.
تحفيز موجّه
نبّه أغاروال إلى أن الإدارة الصينية ليس لديها إحساس بأنها في حالة انهيار نظراً إلى أن توقعات النمو عند 5% بدلاً من المستهدفات السابقة عند 6%، وتدرك أن النمو بطيء، ولكنه ثمن يجب سداده من أجل إدخال التحول على محفزات النمو الاقتصادي المختارة.
وأشار إلى أن السلطات تريد الابتعاد عن الاستثمار باتجاه الاستهلاك، والتوجه نحو التصنيع فائق التكنولوجيا، وأشباه الموصلات. وتابع: "هم يضخون الأموال في المجالات التي يريدون تحقيق النمو فيها، بينما لا يمانعون بحصول انكماش في الأماكن التي لا يريدونها. إذاً إلى حد كبير، لدى الحكومة والبنك المركزي الذخيرة الكافية للسيطرة على الضرر، ولا يريدون التحرك بشكل متسرع وسريع، لذلك هم مستعدون لدفع ثمن من خلال نمو أقل".
فاضل من جهته، أشار إلى أن طرح حزمة تحفيز ضخمة خارج المعادلة حالياً، وأفاد بأن مشكلة القطاع هي ديمغرافية، وأي أموال يتم ضخها في هذا القطاع لن تجدي نفعاً. لذلك فإن السلطات الصينية توجه جهودها إلى قطاعات واعدة، مثل أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي والاتصالات، التي لا تعتبر ضخمة، ولكن "لديها فرص للنمو، وقادرة على تقديم الكثير للاقتصاد".
ونغ اتفق أيضاً مع هذه الفرضية، مشيراً إلى أن تعزيز النمو يتطلب إعادة هيكلة بعض القطاعات مثل مصارف الظل والقطاع العقاري، وهناك محاولة للتركيز على القطاعات المثمرة والمنتجة كما أن الصين بحاجة للتركيز على تطوير التكنولوجيا والابتكار من أجل زيادة الإنتاجية، هذا ما سنراه في السنوات الخمس المقبلة. وأضاف: "في 2024، أعتقد أن معدل النمو سيظل قريباً من 3.5 إلى 5%، وليس من السهل رفع الرقم فوق هذه النسبة قريباً، بل أنه يحتاج إلى 3 أو 5 سنوات".
إجراءات أخرى
من المتوقع أن تقوم الحكومة الصينية باتخاذ إجراءات أخرى عوضاً عن حزم التحفيز الضخمة، منها شطب جزء من الديون، وتحميل خسائر لبنوك الظل وأصحاب السندات، وفقاً لما رآه فاضل.
ولفت إلى أنه في ما يتعلق بالسياسة النقدية، فإن بنك الشعب الصيني، لم يخفض الفائدة بشكل كبير رغم وجود المساحة لديه للقيام بذلك، معتبراً أنه يفضل حماية هوامش ربحية البنوك، نظراً إلى أن معظم هذه البنوك تابعة للحكومة".
وبشأن التضحية ببنوك الظل المنكشفة على الشركات العقارية والخسائر المحتملة لهكذا خطوة على الأسر، اعتبر فاضل أنها تضحيات متوقعة، فالسلطات تحمي البنوك المحلية التي قدمت 48 مليار دولار كتوزيعات نقدية في 2022، وأي خفض بأسعار الفائدة بنحو 10 نقا
ط أساس، يعني تكبيدها خسائر قبل حسم الضرائب بنحو 30 مليار دولار.
الطلب على السلع والنفط
تعتبر الصين من أكبر الدول التي تطلب السلع والمواد الخام في العالم. وأي تباطؤ في اقتصادها من شأنه أن يحدث هزة في هذه الأسواق حول العالم، وقد يغير مشهد الطلب العالمي لفترة طويلة من الزمن.
رئيس قسم الاستثمارات في "المال كابيتال" فيصل حسن، أشار في مقابلة مع "اقتصاد الشرق" إلى ضرورة قبول أن الصين لم تعد من محركات النمو في الاقتصاد العالمي كما كانت قبل 10 أو 15 عاماً، منبهاً إلى أنها أكبر مستهلك للنفط ولكن اقتصادها لم يبل بلاء جيداً بسبب السياسات الحكومية.
ولكن بشأن تأثير هذا الواقع على سعر النفط، أشار حسن إلى أن الديناميكية في العرض والطلب، بسبب إجراءات "أوبك+" لتخفيض الإنتاج، ونمو الطلب من أماكن أخرى في العالم، فضلاً عن تراجع المخزونات بشكل كبير، ستدعم أسعار النفط المرتفعة، متوقعاً أن تبقى الأسعار مرتفعة على المدة المتوسط.
وأشار إلى أن نمو الطلب على الطاقة يمكن أن يأتي من أسواق متقدمة، فالولايات المتحدة الأميركية قد لا تدخل في ركود، وهناك بعض مناطق النمو مثل الهند، منبهاً إلى أن الطلب على النفط يرتفع حتى في الخليج.
وفي ما يتعلق بالسلع، نوّه ماركوس غارفي رئيس استراتيجية السلع في "ماكواري بنك" في مقابلة مع "اقتصاد الشرق"، إلى وجود تغير بنيوي في الطلب من القطاعات الصينية، مشيراً إلى أن الطلب الصيني على النحاس على سبيل المثال، لن يكون خلال السنوات الـ25 المقبلة، كما كان في السنوات الـ20 الماضية، ولكن يمكن أن نرى نمواً كبيراً في الطلب عليه بسبب التغير في المحفزات، بعدما كان مطلوباً في الصناعة والتوسع المدني، ليصبح الطلب عليه في إطار التحوّل إلى الطاقة النظيفة.
هل تتفوق الهند على الصين؟
في خطاب لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، في أغسطس الماضي، حث رئيس الوزراء شعبه على السعي للسيطرة على العالم، وليس أقل من ذلك، على حد تعبيره، معرباً عن أمله في جعل الهند دولة متقدمة خلال 25 عاماً من الآن، ما يمكن أن يكون هدفاً في متناول اليد، خصوصاً وأن الرياح المعاكسة تعصف بجارتها الصينية.
تشير الأرقام والبيانات إلى أن الهند نجحت بانتزاع لقب أسرع الاقتصادات الكبيرة نمواً، متفوقة على الصين، وتجاوز نمو اقتصادها النمو في الصين على مدى العامين الماضيين.
وخلال هذا العام، نما الناتج المحلي للهند بنسبة 6.1% في الربع المنتهي في مارس، مقارنة بنمو بلغ 4.5% فقط للصين خلال الفترة ذاتها. أيضاً، على صعيد النظرة المستقبلية، تتوقع "إس أند بي غلوبال" أن تحتفظ الهند بمكانتها كأسرع اقتصادات دول العشرين نمواً هذا العام، كما من المتوقع أن تتجاوز اليابان لتصبح ثالث أكبر اقتصاد في العالم.
وبينما تنشغل الصين بجهودها لتجنب التباطؤ الاقتصادي وتنخرط في صراع جيوسياسي مع الولايات المتحدة، يتجه المصنعون العالميون نحو الهند التي تتمتع بسوق استهلاك ضخمة للغاية بحثاً عن طلب بديل للسوق الصيني المتباطئ.
هذا التوجه العالمي نحو نيودلهي يرشحها لقيادة خمس النمو العالمي خلال هذا العقد، بحسب "مورغان ستانلي"، ما يجعلها واحدة من ثلاث دول فقط يمكنها تحقيق نمو في إنتاجها السنوي يتجاوز 400 مليار دولار.
إذاً الإحصاءات والتوقعات تبدو واعدة. ولكن هل تكون كافية لدفع "المهراجا" للتفوق على "التنين"، وتولي دور المحرك الأكبر للنمو في العالم؟
وفقاً لـ"بلومبرغ إيكونوميكس"، تحتاج الهند إلى التقدم في عدد من المحاور الأساسية كي تستفيد من ديموغرافيتها وتعيد تشكيل الاقتصاد العالمي. أول هذه المحاور هي التمدن، ووفق "هيئة الطاقة الدولية"، من المتوقع أن تضيف الهند 270 مليون شخص إلى سكانها الحضريين حتى عام 2040.
بالمقارنة مع الصين، فإن الهند تتخلف بشكل واضح في نسبة السكان في المناطق الحضرية، حيث ما يزال عدد كبير منهم في الريف.
العامل الثاني الذي يجب أن تولي الهند اهتماماً له هو البنية التحتية، فعند مقارنتها بالصين، تتفوق الأخيرة عليها في معظم معايير تطور البنية التحتية، سواء من حيث وصول السكان إلى الكهرباء أو حركة الحاويات في الموانئ أو حتى نسبة المستخدمين للإنترنت من إجمالي السكان.
يضاف إلى ذلك قطاع الصناعة. فقبل 40 عاماً، كانت كلّ من الصين والهند تعتمدان على الزراعة بشكل كبير. أما اليوم، فيشكل التصنيع أكثر من ربع الاقتصاد الصيني، مقارنةً بـ14% فقط في الهند، ولكن التنافس المتزايد بين بكين وواشنطن يعطيها الفرصة لزيادة حصة التصنيع إلى مستهدف 25% من ناتجها المحلي الإجمالي.
من جهته، يشير ميلان فيشناف مؤسس "جيمستون إيكويتي ريسرتش" في مقابلة مع "اقتصاد الشرق"، إلى أن الهند قادرة فعلاً على أن تحل مكان الصين، ففي العقدين الماضيين تقدمت الهند وتفوقت في مجالي الخدمات والبرمجيات، في حين تفوقت الصين في القطاع الصناعي.
تركز الهند حالياً على التحوّل إلى مصنع العالم، وهذا أمر سيتقدم مع مرور الوقت، لتبرز الهند بوصفها مركزاً أساسياً للتصنيع على المستوى العالمي.
وأشار فيشناف إلى وجود أمرين يدعمان الهند في خطتها، الأول أن الحكومة المركزية لديها برنامج منذ خمس سوات لزيادة التصنيع المحلي، بالإضافة إلى التباطؤ الحاصل في الصين.
وشدد على أهمية برامج الإصلاح الحكومية التي تدعم إنشاء صناعات على نطاق واسع، في وقت هناك الكثير من المؤسسات الرئيسية التي تعمل في مجالي الإلكترونيات وصناعة السيارات بدأت بإنشاء مصانع لها في الهند، وتجعل منها مركزاً أساسياً لتصدير منتجاتها.
ورغم هذه الآمال، إلا أن فيشناف اعترف بأنه في المستقبل المنظور لن تصل الهند إلى اقتصاد تبلغ قيمته 3 تريليونات دولار، ولكنها تتجه بالتدريج إلى هذا المستوى.