يفقد صندوق الثروة الكويتي -أعرق صندوق سيادي في العالم ومن الأكبر حجماً- بريقه حالياً، بينما يلمع نظراؤه الطموحون في الشرق الأوسط كأقطاب استثمار في أكبر الصفقات.
خلال العام الماضي، رحل عن الهيئة العامة للاستثمار الكويتية، المسؤولة عن إدارة الصندوق البالغة قيمته 700 مليار دولار، العديد من كبار المديرين، بما في ذلك رؤساء لأقسام رئيسية، وفقاً لأشخاص مطلعين أوضحوا أن بعض هذه المناصب ما تزال شاغرة حتى الآن.
وفقاً لمؤسسة صناديق الثروة السيادية العالمية (Global SWF)، وهي كيان مستقل للاستشارات المالية، استثمرت الهيئة الكويتية 2.8 مليار دولار فقط خلال العام الماضي، مقارنة بـ25.9 مليار دولار ضخّها جهاز أبوظبي للاستثمار، و20.7 مليار دولار من قِبل صندوق الاستثمارات العامة السعودي.
رغم صعوبة تتبع صفقات الصناديق التي غالباً ما تكون محاطة بالسرية، إلا أن خافيير كابابي، المتخصص في دراسات الكيانات السيادية في جامعة "آي إي"، ومقرها إسبانيا، قدّم تقديرات مماثلة، ملقياً الضوء على هذا التباين.
استثمارات "الكويتي" مكبّلة
تأتي التحديات التي تواجه الصندوق الكويتي على خلفية تقلبات أوسع نطاقاً في البلاد، حيث تمّ تغيير 5 حكومات في غضون عام واحد فقط. كما خضعت بعض استثمارات الصندوق لتحقيقات، وأشار الأشخاص المطلعون إلى تدخل الوزراء بشكل متزايد في عملية اتخاذ القرار فيه. وتابعوا أنه رغم مواصلة الصندوق مسيرة الاستثمار، إلا أن الافتقار للتوجيه والخوف من التعرض للتدقيق من قِبل المشرّعين جعل أيادي الصندوق مكبّلة جزئياً عند إبرام الصفقات.
دييغو لوبيز، المدير الإداري لمؤسسة صناديق الثروة السيادية العالمية، اعتبر أنه "نظراً لحجم ميزانيته وتاريخه كمستثمر عالمي، يمكن القول إن الصندوق الكويتي يفقد بريقه مقابل صناديق الثروة السيادية الإقليمية الأكثر استقراراً ونشاطاً. وأحد الأسباب الرئيسية وراء ذلك هو التغييرات السياسية العديدة التي مرّت بها الكويت مؤخراً، وخيّمت بدورها على مجلس الإدارة والقيادة التنفيذية في كل من هيئة الاستثمار والمؤسسة العامة للضمان الاجتماعي". والأخيرة هي الجهة المسؤولة عن مخصصات التقاعد في الكويت، وتقدّم مجلس إدارتها باستقالته تحت ضغوط ولم يُستبدل حتى الآن.
هيمنة الصناديق الخليجية
يستهدف العديد من صانعي الصفقات حول العالم التعاون مع الكيانات السيادية في المنطقة، التي تسيطر مجتمعة على ما لا يقل عن 3 تريليونات دولار من الأصول، مشكلةً قوة ضاربة في عالم التمويل بينما يتراجع الآخرون.
خلال الأشهر الأخيرة، أبرمت مؤسسات مثل صندوق الاستثمارات العامة السعودي –البالغ حجم أصوله 700 مليار دولار- وشركة "مبادلة للاستثمار" -بحجم أصول 276 مليار دولار- صفقات في مختلف القطاعات، من الطيران إلى السياحة والرياضة وحتى ألعاب الفيديو. فيما لا يتوافر لدى مؤسسة صناديق الثروة السيادية العالمية ولا جامعة "آي إي" أي بيانات عن صفقات أبرمتها الهيئة العامة للاستثمار الكويتية منذ بداية العام حتى الآن.
لم تتمكن بلومبرغ من الاتصال بمسؤولي الهيئة للتعليق. لكن المطلعين على استراتيجية الصندوق أكّدوا أن استثماراته الحالية تؤتي ثمارها، وأنه يفضل البقاء بعيداً عن الأضواء مع اتباع نهج محافظ بإطلاق تصريحات.
وأبلغ "صندوق الأجيال القادمة" عن ارتفاع عوائده بنحو 33% للسنة المنتهية في مارس 2021، وهي أحدث بيانات متاحة للعموم. وجنى مكتب الاستثمار الكويتي -ذراع الهيئة في لندن- منفرداً نحو 38% من هذه العوائد.
ريادة استثمارية تاريخياً
تمثل ندرة الصفقات الكبيرة تحولاً جذرياً في استراتيجية الصندوق الكويتي، الذي كان فيما مضى بين الأكثر نشاطاً بين صناديق المنطقة. فحتى وقتٍ قريب، كانت مكانته محجوزة بين نخبة المستثمرين العالميين، ولديه حصص في شركتي "بلاك روك" و"مرسيدس بنز". وفي خضم الأزمة المالية العالمية عام 2008، استحوذ الصندوق على حصص في بنوك بما في ذلك "سيتي غروب". واقتنص مكاسب كبيرة في الماضي، حيث تخارج من حصته في "سيتي غروب" خلال 2009 مقابل 4.1 مليار دولار، بأرباح تجاوزت مليار دولار. وكان مكتب الاستثمار الكويتي مستثمراً رائداً كذلك، حيث شارك في إدراج شركة الأسهم الخاصة "تي بي جي" في الولايات المتحدة.
وفقاً لمؤسسة الصناديق السيادية العالمية، فإن مبلغ 2.8 مليار دولار الذي استثمرته الهيئة الكويتية في 2022، يشكّل ارتفاعاً كبيراً مقارنةً بـ100 مليون دولار فقط في العام السابق. فيما تُبيّن أبحاث جامعة "آي إي" أن الهيئة استثمرت 670 مليون دولار في 2021، و4.4 مليار دولار خلال العام الماضي، معظم هذا المبلغ في صفقة بقيمة 3.6 مليار دولار استحوذت فيها على شركة "دايركت كلاسيس لينك" (Direct ChassisLink) المتخصصة في الخدمات اللوجستية للموانئ الأميركية. وهذه الصفقة إحدى أحدث وأكبر الاستحواذات المعروفة التي شاركت فيها الهيئة دون تعتيم إعلامي.
تأثير الأجواء السياسية
تشهد الكويت في الآونة الأخيرة اختلافاً سياسياً نجم عنه تكرار إجراء الانتخابات البرلمانية. ومرّت البلاد بتطورات سياسية لافتة خلال العامين الماضيين، لا سيما على صعيد تغيّر قيادتها العليا، حيث خلف الشيخ نواف الأحمد الصباح أخاه غير الشقيق كأمير للبلاد. منذ ذلك الحين، طرأت تغيرات كبيرة على الكيانات الحكومية الأساسية. وفي يونيو الماضي أبصرت البلاد حكومة جديدة هي الخامسة في أقل من عام.
روبرت موجيلنيكي، وهو باحث أول مقيم يعمل في معهد دول الخليج العربية في واشنطن، يرى أن "نقاط الضعف المعوّقة للاقتصاد الكويتي، والقيود السياسية التي تكبّل صناعة السياسات الاقتصادية، تؤدي جميعاً بالتأكيد إلى تذبذب الصورة المعهودة للهيئة العامة للاستثمار الكويتية، لا سيما لناحية الثقة بقدرتها على المشاركة في إعطاء دفعة اقتصادية للبلاد".
اضطرابات بمكتب لندن
تأسس مجلس الاستثمار الكويتي في لندن عام 1953، قبل 8 سنوات من استقلال البلاد، وكان الهدف الأساسي من ورائه هو استثمار فائض عائدات النفط، والمساهمة في تنويع الاقتصاد. وتغير اسم المجلس بعدها إلى "مكتب الاستثمار الكويتي". وفي 1982 أُنشئت الهيئة العامة للاستثمار الكويتية ككيان أم، وهي تدير أيضاً صندوق الاحتياطي العام وهو بمثابة (الخزينة العامة) للبلاد.
كان مكتب الاستثمار الكويتي تحت المجهر العالمي عندما أُطيح فجأة برئيسه صالح العتيقي. ورغم مرور عام تقريباً على قرار الإقالة، لم يخلفه أحد حتى الآن في المنصب. ويُدار المكتب إلى حد كبير عن بعد من الكويت، حيث يباشر استثماراته في الأسهم العامة وأدوات الدخل الثابت.
كما لفت الأشخاص المطلعون إلى أن عدداً من الموظفين غادروا مناصبهم في فرع لندن خلال الأشهر الأخيرة، ومن حينه يعاني المكتب لتوظيف مواهب جديدة.
محفظة متضائلة للصندوق
منذ انتشار جائحة كورونا، تمّت معظم استثمارات الهيئة العامة للاستثمار الكويتية عبر نافذة شركات البنية التحتية التابعة لها، إضافة إلى بعض الاستثمارات المحدودة في الاكتتابات العامة الأولية، أو من خلال شراء حصص في الشركات المدرجة بالفعل، إضافة إلى الالتزامات في شركات إدارة الأموال التي يملك الصندوق حصصاً منها بالفعل، مثل "إنفسكو" (Invesco) و"بلاك روك" (BlackRock) و"نورثرن تراست" (Northern Trust)، وفقاً لما أكده لوبيز من مؤسسة صناديق الثروة السيادية العالمية.
لوبيز تابع أنه على مدى السنوات الثلاث الماضية، ركّزت الهيئة بشكلٍ متزايد على التخارج من الأصول عوضاً عن صفقات الاستحواذ، حيث باعت حصصاً في شركات مثل "فيسغو" (Viesgo) في إسبانيا، و"ريالتو" (Rialto) و"ترانس غريد" (Transgrid) في أستراليا، و"تايمز ووتر" (Thames Water) في المملكة المتحدة.
وبعدما استثمر الصندوق في "مرسيدس بنز" منذ 1974، باع أسهماً بالشركة مقابل 1.4 مليار يورو. وأشار المطلعون بهذا الصدد إلى أن هناك توترات داخلية تشوب بعض القرارات الاستثمارية. فيما علل الصندوق بيعه لأسهم "مرسيدس بنز" بأنه "جزء من محاولته لتنويع محفظته". رغم هذا، أثار قرار البيع وتوقيته علامات استفهام كبيرة بحسب الأشخاص.
خلال شهر يونيو الماضي تم تعيين سعد البراك وزيراً للدولة للشؤون الاقتصادية والاستثمار ووزيراً للنفط، ما يجعله رئيساً لهيئة الاستثمار العامة الكويتية، وفقاً لموقع الهيئة. ويُعد هذا خروجاً عن البروتوكول المتبع خلال السنوات السابقة، حيث كان وزير المالية هو من يرأس عادة الهيئة. ورغم أن البراك قد يحرك المياه الراكدة في الصندوق، إلا أن موجيلنيكي يشك في ذلك، قائلاً: "لا أتوقع حدوث تحول جذري في نهج الاستثمار والأولويات في الصندوق الكويتي بين ليلة وضحاها".
هذا التقرير من إعداد: فيونا ماكدونالد، وأرتشينا ناريانان، ونيكولاس باراسي/ بلومبرغ