كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يحظى بتأييد سياسي هائل طوال سنوات في منطقة جنوب شرق تركيا ذات الطابع الديني والريفي بشكل عام، إذ فاز بثلثي الأصوات المُدلى بها بانتخابات 2018. استناداً لجذوره التي تعود لحركة سياسية إسلامية، منح أردوغان فرصة وقروضاً رخيصة لـ"جيل متدين" بالمنطقة، وهي طبقة دنيا من المحافظين الإسلاميين قدموا له التأييد مقابل منحهم طريقاً للازدهار.
بعد ذلك، في 6 فبراير الماضي، دمر زلزالان هائلان منطقة جنوب شرقي تركيا، ما أدى لمصرع ما يفوق 50 ألف شخص وإجبار ما يُقدر بـ3.5 مليون آخرين للنزوح. هيمنت مشاهد لمبانٍ سكنية سويت بالأرض وأشخاص يصرخون طلباً للمساعدة الحكومية على الشاشات، وواجهت حكومة أردوغان صعوبات في التعامل مع المأساة.
هناك أقل من 3 أسابيع متبقية على توجه الناخبين لصناديق الاقتراع بالانتخابات الوطنية المقبلة التركية. ويتعرض أردوغان لأصعب سباق انتخابي في ثلاثة عقود من حياته المهنية؛ نظراً لعدم توافر استجابة قوية للإغاثة عند وقوع الكوارث؛ وهو وضع يأتي وسط ظروف تشهد صعوداً صاروخياً لأسعار المواد الغذائية والإيجارات عبر كافة أنحاء البلاد. وهذا يوجد فرصة حقيقية لخسارة أردوغان التصويت الشعبي، أو الأغلبية بالبرلمان.
يدير الزعيم التركي حملة انتخابية قوية ذكر أنها تسببت له باضطراب بالمعدة في أثناء مقابلة تلفزيونية على الهواء مباشرة بوقت متأخر من يوم الثلاثاء. في حين قُطعت المقابلة بعد شعور أردوغان بالمرض فجأة على الهواء، أكد المتحدث باسمه في وقت لاحق أن الرئيس التركي بصحة جيدة. أوضح أردوغان بمنشور على موقع "تويتر"، أنه سيلغي الفعاليات الخاصة به المزمعة اليوم الأربعاء وسيبقى في المنزل عملاً بنصيحة أطبائه.
رحلة إلى الأنقاض
تكشف رحلة برية مدتها 3 أيام على طول طريق سريع يمتد لـ500 كيلومتر عبر منطقة وقوع الزلزال وجود حالة من الحنق متفاقمة بين مؤيدي الرئيس التركي الأشد إخلاصاً له. وفي حين ترفع آلات البناء الأنقاض من مراكز المدن، ما زال السكان الذين فقدوا ذويهم ومنازلهم وشركاتهم غاضبين من تأخر الحكومة في مواجهة ما وصفه أردوغان بـ"كارثة القرن".
الغضب في تركيا يتحول إلى أردوغان لتأخر الاستجابة لتداعيات الزلزال وضعف المباني
تمتد حقول القمح الأخضر على جانبي الطريق الواصل لمقاطعة كهرمانماراس البالغ تعداد سكانها 1.2 مليون نسمة، وهي منطقة زراعية هادئة معروفة بصناعة المثلجات من حليب الماعز. تعيش يوكسل أوزونغوندر في خيمة وسط الضواحي الصناعية للمدينة مع أطفالها الخمسة منذ تدمير الزلازل لمنزلها.
رغم كونها مؤيدة منذ أمد طويل لأردوغان وحزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه، إلا أن أوزونغوندر تقول إنها تشعر بتخلي رئيسها عنها.
لم تواجه الحكومة فقط صعوبات في جمع وإرسال الخيام والبطانيات والمدافئ المطلوبة بشدة وسط طقس الشتاء الجليدي، فعندما وصلت التعزيزات أخيراً، وُزعت بطريقة عشوائية. تسلمت أوزونغوندر بطانيات وموقد بعد انتظار عدة أيام، لكنها تعتقد أن العمدة الموالي لأردوغان وزع المساعدات وفقاً للمحسوبية .
تقول أوزونغوندر: "لن أصوت لأردوغان ولا لحزبه في انتخابات 14 مايو المقبل رغم أن عائلتي تدعمهم بالكامل لأنني أريد حالياً حكومة جديدة تعاملنا باحترام".
يشترك معها كثيرون في الغضب. في حين ألقى الرئيس التركي باللائمة لاستجابة البلاد غير الكافية على القوة غير المتوقعة للهزات الأرضية الهائلة البالغة 7.8 و7.6 درجة، إلا أن منتقديه حملوه المسؤولية حيث يدعون أنه أخفق في إصلاح منظومة فاسدة تراقب سلامة المباني وعمليات البناء، وأنه عيّن موظفين بيروقراطيين تنقصهم الكفاءة بوكالات الإغاثة التركية.
أوضاع متردية
يمكن العودة بهذه النقطة من الكارثة لبداية فترة تولي أردوغان منصبه حيث صعد لسدة الحكم على وقع زلزال سنة 1999 أودى بحياة ما يزيد عن 17 ألف نسمة ونجم عنه أزمة مالية، ومن ثم استخدم أردوغان قطاع البناء باعتباره وسيلة لتنمية الاقتصاد التركي وتعزيز قاعدة شعبيته السياسية.
البنك الدولي يقدّر خسائر زلزالي تركيا بـ34 مليار دولار
يُعزى الفضل في نمو البلاد بطريقة مشابهة للصين إلى أردوغان الذي قدم القروض الرخيصة لمناطق على غرار كهرمانماراس بجانب توفير أموال ساعدت الشركات الصغيرة على تحقيق طفرة بالربحية، وأوجدت شعوراً مرغوباً به بالاستقرار السياسي.
رغم ذلك، نقض وقوع الزلازل الأخيرة هذه الاستراتيجية. ليس هذا فحسب، بل توجد مباني عديدة اكتملت بفترة حكم أردوغان كانت سيئة البناء، ولم يكن بمقدوره ضخ الأموال في عمليات البناء للحفاظ على نمو اقتصاد البلاد الذي كان نشطاً بوقت من الأوقات.
تفشّت معدلات التضخم العالية في تركيا منذ 2018، عندما نصب أردوغان زوج ابنته بيرات البيرق إمبراطوراً على الاقتصاد. ارتفعت الأسعار إثر جهود البيرق (وزير الخزانة والمالية السابق) الخائبة قي جلها للتحكم في قيمة الليرة التركية مع تفادي زيادة أسعار الفائدة، ما التهم بصورة متنامية القدرة الشرائية للمستهلكين ودمر الاقتصاد.
حتى في ظل مستويات مرتفعة من التضخم مستويات بلغت 85.5% السنة الماضية (تجاوزت 100% في بعض المدن منها إسطنبول)– مارس أردوغان ضغوطاً على البنك المركزي للاستمرار بتقليص أسعار الفائدة، متحدياً المعتقدات الاقتصادية الراسخة.
حدا ذلك، علاوة على جهوده المتواصلة لإسكات المنتقدين وإحكام السيطرة على النظام القضائي بالبلاد، بالكثير من الناخبين إلى مراجعة ولائهم.
لماذا تشكل الانتخابات التركية اختباراً كبيراً لأردوغان؟
أشار محمود أوردو (39 سنة)- مدير متجر للأسمدة في مقاطعة أديامان جنوب غرب البلد، إلى أن ذلك لا يعود للاقتصاد، فقد لاحظ أن صعود أسعار الوقود والمبيدات الحشرية والكيماويات أثقل كاهل المزارعين لأعوام.
أَضاف أوردو، الذي صوّت دائماً لأردوغان في السابق، أنه عوضاً عن ذلك كان الزلزال هو السبب في التروي والتفكير فيما إذا كانت ردة فعل الدولة غير الفعالة جزءاً من صورة أكبر.
أوضح أوردو من متجره ببلدة عربان: "أخفقت الحكومة في توصيل المساعدات لكافة أرجاء منطقة حدوث الزلزال، لكنني أنتقد بشدة الرجل الذي يحاول حماية سلطته. بلغ السيل الزبى، لا يُعد اتخاذ رجل واحد كافة القرارات دون أي رقابة أمراً صائباً".
تتفاقم المخاوف إزاء الانحراف السلطوي في تركيا على الأقل منذ 2013، عندما قيّد أردوغان حرية التعبير وأمر قوات الشرطة بقمع الاحتجاجات المناوئة للحكومة. في أعقاب ذلك، أفضت محاولة انقلاب فاشلة خلال 2016 لتعديل دستوري واستفتاء جرى خلال 2017 سمح لأردوغان بتوطيد حكم الفرد.
تؤكد المعارضة أنها نجحت في الوصول للحكم فإن إحدى أولى إجراءاتها ستكون إلغاء نتائج الاستفتاء.
لوم أردوغان
عبر عبد الرحمن كارا أوغلو صاحب مطعم في وسط أديامان، مدينة أخرى تضررت بشدة مجاورة لكهرمانماراس، عن قلقه من أن أردوغان جعل رئاسة تركيا التي كانت يوماً ما شرفية مركزاً لبسط نفوذه.
رغم ذلك، تسبب الاقتصاد في قلب موقفه أخيراً نحو معارضة الرئيس. ويقول: "بدأ غضبي من تأخير إيصال المساعدات للمناطق المنكوبة بالزلزال يتبدد، لكنني من المنتقدين بشدة لأسلوب إدارة الاقتصاد". اشتكى من تفاقم تكاليف اللحوم والخضراوات ما قلّص فعلاً من الأرباح، وليس بإمكان زبائنه دفع أسعار أعلى.
في حين استعد لإعادة افتتاح مطعمه بأول يوم من شهر رمضان الماضي، نوه كارا أوغلو إلى أنه كان يعتمد على أفراد أسرته للعمل في خدمة الزبائن باعتبارهم نُدُلاً. أشار أثناء إمعانه النظر في مبنى منهار بالجهة المقابلة بالشارع من مطعمه، إلى أن موظفيه الذين لم يموتوا خلال المأساة حيث لجأوا للهجرة.
ويقول حنفي أوكسوز إن "التعافي يعتمد على الدعم المقدم من الحكومة بعد أن غادر 40% من السكان المدينة".
زلازل تركيا تفاقم أزمة الإسكان مع بحث الناجين عن مأوى
خسر أوكسوز، الذي توظف شركته "أوكسوز هولدينغ" 14 ألف عامل تقريباً لديه بمصانع الورق والأسمنت والمنسوجات في منطقة كهرومان مرعش، بعد أن لقي 100 عامل بالمصنع وأفراد أسرهم مصرعهم في الزلازل، علاوة على مئات آخرين اختاروا الهجرة نتيجة لها.
قال أوكسوز، يتطلب إعادة المنطقة لسابق عهدها "منح قروض رخيصة وطويلة الأجل للمصانع وإقرار إعفاءات ضريبية بهدف زيادة الرواتب لإقناع العمال بالعودة".
رغ عدم رضاه، يعتزم أوكسوز منح صوته للرجل الذي حازه دائماً وهو أردوغان.
انتخابات مايو
يحظى الرئيس التركي بميزة هائلة بهذه المنطقة، إذ ما يزال المعارضون والناخبون المترددون يمثلون أقلية وسط الناخبين. تصدّر حزب العدالة والتنمية جميع الانتخابات منذ بدء سيطرة أردوغان على الأوضاع السياسية التركية قبل عقدين.
في ظل قرب موعد الانتخابات المقررة 14 مايو المقبل، أثارت أحزاب المعارضة الستة ضجة هائلة حول الزيادة شبه اليومية في الأسعار وشنّت حملة على وعود حكومية بالعودة لسياسات اقتصادية تقليدية أكثر.
بينما تتمتع المعارضة بفرصة أفضل لهزيمة أردوغان عبر تصويت شعبي أكثر من أي شخص آخر خلال العقدين الماضيين، فإن غالبية استطلاعات الرأي والمحللين يشكون في إمكانية حدوث ذلك. لكن السؤال المهم ليس ما إذا كان أردوغان سيخسر بشكل مطلق، ولكن ما إذا كان سيخسر التأييد بما يكفي لقلب موازين البرلمان لصالح المرشح المنافس كمال كيليغدار أوغلو.
المعارضة التركية تتعهد بجذب 100 مليار دولار استثمارات إذا فازت بالانتخابات
في حال ظفر أردوغان بانتخابات الرئاسة لكنه خسر أغلبية برلمانية، فقد يحاول جذب حزب قومي من داخل تكتل المعارضة، أو إدارة البلاد بواسطة إصدار مراسيم رئاسية. بينما ستكفل السلطة التنفيذية التي تركزت بيده بقاءه زعيماً قوياً، فإن حدوث توترات مع برلمان قد يؤدي لحالة من عدم الاستقرار ويفاقم اضطرابات الأسواق التركية التي تعاني منها فعلياً.
بصرف النظر عما سيقع، فإن النتيجة ستعتمد بطريقة جزئية على مدى إقبال الناخبين الجدد. وسط 61 مليون ناخب يحق لهم التصويت في تركيا، ربما يدلي ما يفوق 5 ملايين نسمة بأصواتهم للمرة الأولى. يأتي من بين هؤلاء سراب دوغان، وهي سكرتيرة (21 سنة)– مقيمة بمدينة سانليورفا جنوب شرق البلاد، حيث فاقمت الفيضانات المفاجئة الأخيرة من الأوضاع المأسوية للسكان الذين ما زالوا بمرحلة التعافي من الزلازل.
كانت دوغان، التي ترعرعت وسط عائلة متدينة محافظة، تشعر بالحماس للمشاركة في انتخابات قد تساهم بتغيير حياتها للأفضل.
أوضحت في أثناء سيرها بشوارع يغطيها الطين لدى توجهها للعمل: "أردوغان هو زعيم البلاد منذ مولدي، وأريد العيش في ظل أجواء أكثر حرية وعدالة، وتفكيري يؤيد أردوغان، لكن قلبي يدعم كيليغدار أوغلو".