يلتقي كبار مسؤولي الشؤون المالية العالميين في واشنطن بعد ما يزيد على عام بقليل من الغزو الروسي المفاجئ لأوكرانيا، ولكنهم يتوصلون لاستنتاجات متباينة للغاية حول أكبر المخاطر التي تتهدد التوقعات، وهو انقسام يبرز التأثير المتنامي للصراعات الجيوسياسية على الاقتصاد العالمي.
يمكن استخلاص نتيجة أساسية من البلدان الغنية الديمقراطية: تتمثل في وجود حاجة أكبر إلى "المرونة" فيما يخص سلاسل التوريد، بما يضمن فصل اقتصاداتها بطريقة أفضل عن المخاطر التي تتراوح من الحرب والأوبئة وصولاً إلى محاولات القمع من قبل الأنظمة السلطوية. لكن جهات أخرى، بما فيها صندوق النقد الدولي، تحذّر من "تشتت" الاقتصاد العالمي إلى كتل متنافسة تلحق الضر بالنمو.
رؤى مختلفة للمرونة
استخدم وزراء المالية ومحافظو البنوك المركزية في مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى عبارتي "مرن" و"المرونة" ما يصل مجموعه لـ15 مرة في بيانهم المشترك بعد اجتماع الأربعاء الماضي.
صرح وزير الخزانة البريطاني جيريمي هانت للصحفيين أمس الخميس: "ستحتاج كافة البلدان لسلاسل توريد أكثر مرونة وسط عالم أقل استقراراً، والدرس المستفاد من أوكرانيا هو أن الاعتماد على مصادر الطاقة الروسية ربما كان خطأ، ونريد ضمان أن الأمر لا يقتصر فقط على الاعتماد على الطاقة فحسب، بل والاعتماد على التكنولوجيا، والمعادن الحيوية، وباقي أنواع الاعتماد على الغير".
من جانب آخر، وصف زميل هانت بمجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، وزير المالية الألماني كريستيان ليندنر، الخطر بأنه "كتلة مخاطر"- إذ هناك اعتماد مفرط بمجالي التجارة والاستثمار على مكان واحد. وأوضح للصحفيين أمس الخميس أن العلاقات التجارية مع الصين، كمثال، "يتعين ألا تمثل كتلة من المخاطر، وهو ما يجعل من التنويع مسألة ضرورية".
لكن مخاطر سعي الاقتصادات الديمقراطية الجديدة لجعل سلاسل التوريد أقرب منها -وهو ما تسميه وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين "التقاسم مع الأصدقاء"– يُعد تقسيماً للاقتصاد العالمي إلى تكتلات، ما يحد من الكفاءة ويخفض التنمية في النهاية.
أمن الإمدادات
يجسد هذا تحذيرات كريستالينا غورغييفا، مديرة صندوق النقد الدولي، الذي سيستضيف مع البنك الدولي اجتماعات الربيع لصُناع السياسة الاقتصادية العالمية الأسبوع الجاري بالعاصمة الأميركية.
صرحت غورغييفا للصحفيين أمس الخميس أن أمن سلاسل التوريد العالمية بدأ "يأخذ أولوية جديدة أعلى" أثناء المناقشات الاقتصادية وعملية صنع القرار. وتابعت: "يكمن السؤال في: هل بإمكاننا أن نصبح أشد تصميماً لتعزيز أمن الإمدادات ولكن دون دفع العالم إلى حد يدخلنا في حرب باردة ثانية".
بينما باتت "المرونة" هي شعار الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الجديد، فإن "التشتت" هو النتيجة المخيفة وسط المراقبين بمن فيهم غورغييفا. قالت مديرة صندوق النقد الدولي الأسبوع المنصرم: "يحقق السير في طريق اقتصاد عالمي أقل تشرذماً مصلحة للجميع".
مخاوف "التشتت"
تُعد التوترات المتفاقمة باستمرار بين الولايات المتحدة والصين، أكبر اقتصادين بالعالم، المصدر الأساسي لخطر التشتت.
قال راغورام راجان، كبير خبراء الاقتصاد السابق في صندوق النقد الدولي، لتلفزيون بلومبرغ أمس الخميس على هامش الاجتماعات: "هذه هي العلاقة الأساسية على مستوى العالم، وبدأت في التكسر، والأمر مهم بالنسبة لبقية العالم، لأنه إذا توجب عليك الاختيار بين الطرفين، فستصبح الدول في موقف صعب تماماً".
أدركت وزيرة المالية المغربية نادية فتاح العلوي هذا الموقف.، وقالت أمس الخميس: "بلدان على غرار المغرب ستواجه مصاعب بسبب التشتت، ويتعين أن نبذل الجهود لتفادي ذلك".
تعطّل محرك الصين
ما زاد من سوء الأوضاع هو تراجع اتجاه معدل نمو الاقتصاد العالمي كثيراً. ويُعزى ذلك جزئياً إلى أن بلداناً كبرى بما فيها الصين واليابان وبعض الدول الأعضاء منطقة اليورو تعاني من انكماش تعداد السكان في سن العمل. هبطت معدلات نمو الإنتاجية مقارنة بالعقود الماضية. حذّر أيضاً صندوق النقد الدولي الأسبوع الجاري من أن مستويات الديون المرتفعة تجعل العالم أكثر هشاشة.
بينما سيعطي إعادة فتح اقتصاد الصين العام الجاري دفعة قد تسهم في تدعيم النمو العالمي، فإن وتيرة اتجاهها على المدى المتوسط عند 5% أو أقل تُعد أدنى كثيراً من معدلات ما قبل تفشي وباء كورونا.
أوضحت غيتا غوبيناث، التي تتقلد حالياً منصب كبير مساعدي غورغييفا بعد أن تقلدت في السابق منصب كبير خبراء الاقتصاد في صندوق النقد الدولي، على تلفزيون بلومبرغ: "لم نعد نرى الصين تنمو بمعدلات كبيرة للغاية ولذا لم يعد لدينا محركات نمو ضخمة بالنسبة للاقتصاد العالمي ككل".
أضاف راجان: "صندوق النقد الدولي محق تماماً، إذ يبدو النمو على الأجل الطويل أسوأ كثيراً".
الأسوأ من ذلك أن صندوق النقد الدولي يشير إلى أن توقعات الأعوام الخمسة على مستوى العالم هي الأبشع على الإطلاق وفق بياناته التي تعود لعام 1990والذي كان بمثابة النهاية الفعلية لفترة الحرب الباردة الأخيرة: أي قبل انهيار الاتحاد السوفييتي بعام واحد، ما ساهم في الاندماج السريع للبلدان الشيوعية السابقة في اقتصاد جديد سريع التعولم.
بالوقت الراهن، تبرز المنافسة الجيوسياسية المتصاعدة أيضاً في معركة السعي إلى السيولة الدولارية الاستثمارية والخلافات حول الديون.
لم تحقق اجتماعات واشنطن تقدماً ملحوظاً بخصوص تسوية أعباء الديون المتراكمة على زامبيا والاقتصادات الحدودية الأخرى، في ظل عدم موافقة الصين -أكبر دائن رسمي لدول العالم النامي- على الشروط التي يصر عليها أعضاء مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى.
تحركات الصين
عوضاً عن ذلك، تركز الصين على تقوية سلاسل التوريد وروابطها المالية مع بلدان العالم النامي- وهي جهود تجلت الأسبوع الحالي في استضافتها للرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا.
وفي ظل جمود محادثات الديون في واشنطن، شهدت شنغهاي أداء اليمين الدستورية لأحد أسلاف لولا دا سيلفا، ديلما روسيف، كرئيسة لـ"بنك التنمية الجديد"، والذي يُعد واحداً من مؤسسات متعددة الجنسيات كثيرة بنتها الصين بحيث تركز بصورة أقل على المنظمات القديمة التي أُنشئت خلال عصر هيمنة الولايات المتحدة الأميركية.
مع العودة إلى العاصمة الأميركية، برز أيضاً تشتت النظام العالمي في إخفاق وزراء مالية مجموعة الدول العشرين الكبرى في إصدار بيان مشترك، ما يأتي استمراراً للخلاف الذي شهدته المجموعة منذ الغزو الروسي لأوكرانيا.
يستحضر بعض صُناع السياسات الاقتصادية بدول العالم المتقدم في أذهانهم المخاطر حتى في سعيهم لتحويل سلاسل التوريد. نوّه وزير المالية الفرنسي برونو لو مير قائلاً: "نحتاج لاستراتيجية مشتركة لتفادي هذا التشتت وترك الباب مفتوحاً أمام تعاون قوي".
لكن اتسم آخرون بوضوح أكبر إزاء التهديدات التي يتوقعونها. أكدت وزيرة المالية الكندية كريستيا فريلاند في خطاب ألقته الأربعاء الماضي أن "أوجه الضعف الاستراتيجية هذه أمام الاقتصادات السلطوية تُعرّض أمننا للخطر".