يتحوّل السلوك غير المتوقع للائتلاف الحاكم في ألمانيا، إلى مصدر للتأثير الهدّام والتوتر في أوروبا. وأحدث مثال على ذلك، الخطوة التي اتخذتها برلين الشهر الجاري لعرقلة محاولة الاتحاد الأوروبي التخلص تدريجياً من مركبات محركات الاحتراق الداخلي التقليدية.
قضايا عديدة، بدءاً من المساعدات المالية لأوكرانيا ووصولاً إلى إصلاح الدعم الحكومي وقواعد الموازنة، يزداد معها إحباط شركاء ألمانيا في الاتحاد الأوروبي والمسؤولين في بروكسل من ائتلاف الوسط بقيادة المستشار أولاف شولتس، وهو الائتلاف الذي يضم تحالف حزبه الديمقراطي الاجتماعي اليساري، مع حزب الخضر الألماني، والحزب الديمقراطي الحر صاحب الرؤية الصديقة للأعمال.
طبيعة غير مرنة للائتلاف الحاكم
قال أشخاص مطلعون على عملية صناعة القرار داخل الاتحاد الأوروبي، إن الطبيعة غير المرنة لائتلاف الأحزاب الثلاثة، جزء من المشكلة.
أضاف الأشخاص، الذين طلبوا عدم الكشف عن هوياتهم لسرية المفاوضات، أن أعضاء حكومة شولتس يستغرقون في بعض الأحيان وقتاً طويلاً للاتفاق فيما بينهم على أبسط العناصر الأساسية في التشريعات المقترحة، وعندما يتفقون في أحيان أخرى، يكون التشريع إما غامضاً للغاية أو متأخراً للغاية.
في الوقت الذي يحرص فيه الاتحاد الأوروبي على إظهار موقف موحد حول الحرب في أوكرانيا، ويبذل جهوداً حثيثة للتكيف مع الاضطرابات الناجمة عن الغزو الروسي، يُنظر إلى سلوك ألمانيا على أنه غير مفيد على الإطلاق، كما أنه يتناقض مع التصريحات العامة التي أدلى بها شولتس ووزراؤه، والذين يصوّرون ألمانيا على أنها ركيزة من ركائز وحدة الاتحاد الأوروبي وتكامله.
قالت سودها ديفيد ويلب، المديرة الإقليمية لمكتب برلين في "صندوق مارشال الألماني": "ترسل ألمانيا رسائل مختلطة حول مصالحها الخاصة، وكذلك المصالح الأوروبية الأوسع نطاقاً". سلّطت ديفيد ويلب الضوء على "التصدعات داخل التحالف" الحاكم، والتي ظهرت بعد عام وثلاثة أشهر من توليه المنصب.
أضافت: "تقول ألمانيا في كثير من الأحيان إنها تفعل أشياء جيدة لمصلحة أوروبا، وإنها جزء لا يتجزأ من الاتحاد الأوروبي، لكن في العادة، تكون القرارات متعلقة بالمصالح الألمانية التي لا تخدم فعلياً المصالح الأوروبية".
ألمانيا تنفي فكرة الجمود الحكومي
عندما سُئل عن علاقات العمل بين ألمانيا وأوروبا، والحديث عن أنها تعيق شركات الاتحاد الأوروبي في بعض الحالات، قال متحدث باسم شولتس، إن الحكومة "بشكل عام لا تعلق على مثل هذه التقييمات والتصريحات".
بدوره، رفض وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابك، وهو عضو في حزب الخضر ونائب المستشار، فكرة أن الائتلاف الحاكم مصاب بالجمود وربما وصل إلى أقصى حد من الفائدة التي يمكن أن يأتي بها. وقال إن الاجتماع الحكومي الذي استمر يومين شمال برلين وانتهى يوم الإثنين، قد يساعد في إعطاء الحكومة زخماً جديداً.
قال هابيك، يوم الخميس: "يعمل الائتلاف مع بعضه البعض جيداً جداً بمهنية.. كما أن هناك تفاعلاً جيداً جداً بين المسؤولين".
كان الخلاف حول حظر محركات الاحتراق الذي أثارته ألمانيا الشهر الجاري، مصدراً خاصاً للإحباط في بروكسل وغيرها.
قبل أيام من التصويت النهائي، عرقل وزير النقل والعضو في الحزب الديمقراطي الحر، فولكر فيسينغ، بفاعلية الاتفاقية التي تم التوافق عليها بشق الأنفس لإزالة الكربون من قطاع السيارات، والتي كانت مكوناً رئيسياً لمبادرة الاتحاد الأوروبي لتحقيق الحياد الكربوني بحلول 2050.
سابقة تضر بعملية صنع القرار
كشرط للموافقة الألمانية، أصر فيسينغ على أن تتعهد المفوضية الأوروبية بتقديم مقترح حول كيفية تسجيل سيارات محركات الاحتراق الجديدة بعد الموعد النهائي في 2035، وهي المركبات التي تعمل حصرياً بما يُسمى بالوقود الاصطناعي المركب (e-fuels) المصنوع من الكهرباء المتجددة والكربون المحتجز من الغلاف الجوي.
اتهم المنتقدون الحزب الديمقراطي الحر، الشريك الأصغر في تحالف شولتس، باستغلال الموقف لمحاولة جذب الأصوات الحكومية وتحسين صورته لدى الحكومة بعد سلسلة من الأداء الضعيف في الانتخابات الإقليمية.
من جانبها، قالت تيريزا ريبيرا، نائبة رئيس الوزراء الإسباني، إن تعديل المقترح في مثل هذه المرحلة المتقدمة قد يشكل سابقة سلبية، ويضرّ بالطريقة التي يصوغ بها الاتحاد الأوروبي السياسات الرئيسية في المستقبل، كما يهدد بإرسال إشارات مربكة للمستثمرين والصناعات التي تخطط للانتقال إلى الطاقة النظيفة.
شولتس.. "الرجل الذي قتل الاتفاقية الخضراء"
يوم الأربعاء، قالت ريبيرا في مقابلة مع "بلومبرغ": "ماذا لو قررت حكومات أخرى أن تفعل مثل هذا الأمر بشأن أي قضية؟ القواعد الإجرائية متاحة للجميع".
أما باسكال كانفان، الليبرالي الفرنسي الذي يترأس لجنة البيئة في البرلمان الأوروبي، فكان أكثر صراحة، حيث حذّر شولتس من أنه قد يُسجل في التاريخ بأنه "الرجل الذي وأد الاتفاقية الخضراء".
قال متحدث باسم شولتس عند سؤاله عن نزاع محركات الاحتراق: "الحكومة حالياً في تواصل وثيق مع المفوضية الأوروبية حول قضية الوقود الاصطناعي".
بخلاف النزاع حول الوقود الاصطناعي، كانت ألمانيا أقل تعاوناً في جهود إصلاح القواعد المالية المنصوص عليها في ميثاق الاستقرار والنمو، بحسب مسؤولين ودبلوماسيين أوروبيين.
قال المسؤولون والدبلوماسيون الذين طلبوا عدم الكشف عن هوياتهم، إن وزير المالية الألماني، كريستيان ليندنر، وهو رئيس الحزب الديمقراطي الحر الذي يُعتبر نفسه وصياً على استقرار الأوضاع المالية، قلق من محاولات تخفيف قواعد الديون والعجز، ولم يشارك لأسابيع في جهود الإصلاح.
يُعقّد تصلب برلين الواضح التحرك نحو وضع إطار عمل جديد بحلول أوائل العام المقبل، قبل إعادة تفعيل قيود الموازنة بعد تعليقها للتعامل مع تداعيات جائحة كورونا.
قال يورغ كوكيز، كبير المستشارين الاقتصاديين لشولتس، يوم الخميس في منتدى في باريس: "فيما يتعلق بالقواعد المالية، فإن الحكومة الألمانية لديها موقف.. لذلك قدمنا مساهماتنا إلى المفوضية بشأن المقترحات الخاصة بميثاق الاستقرار والنمو، والتي حظيت بإجماع كامل الحكومة الألمانية".
أقرّ البعض في الائتلاف الحاكم بأن ألمانيا سيتعين عليها إظهار درجة من المرونة مع الشركاء في الاتحاد الأوروبي الذين يسعون إلى تخفيف قواعد ميثاق الاستقرار، إذا أرادت تخفيف لوائح الدعم الحكومي، وفق مسؤولين حكوميين.
جدّدت حكومة شولتس جهود تخفيف القيود على الدعم الحكومي استجابة لحزمة المناخ التي أعلن عنها الرئيس الأميركي، جو بايدن، لكن الخلافات الداخلية في الائتلاف حالت دون تقديم الحكومة مقترحاتها عندما طلبت المفوضية في البداية من الدول الأعضاء تقديم مساهماتها، وفق أشخاص مطلعين على الأمر.
وبينما أراد الحزب الديمقراطي الحر أن تشمل الاستثناءات المشروعات غير البيئية -مثل توسيع الطرق السريعة- لم يرغب حزب الخضر في تأييد تخفيف قواعد الدعم الحكومي إلا إذا كان ينطبق على الاستثمارات المستدامة الخضراء.
أمور سياسية عادية
أيضاً اصطدم ليندنر، مع الشركاء الأوروبيين بشأن ما إذا كانت المساعدات المالية لأوكرانيا ينبغي أن تأخذ شكل قروض أم منح.
جادلت ألمانيا لصالح تقديمها كمنح، لكن أعضاء آخرين ضغطوا لأن تكون في صورة قروض. وتسبب الخلاف في تأجيل دفع جزء من مبلغ 9 مليارات يورو تعهد الاتحاد الأوروبي بتقديمه لحكومة كييف العام الماضي.
قال المتحدث باسم شولتس: "فيما يخص المزيد من الدعم لأوكرانيا، فإن الاتحاد الأوروبي متحد أكثر من أي وقت مضى.. سيواصل الاتحاد الأوروبي دعم أوكرانيا سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ومالياً وإنسانياً، طالما لزم الأمر".
قلل كوكيز من شأن أي خلافات داخل الائتلاف الحاكم ومدى تأثيرها على عملية صنع القرار في الاتحاد الأوروبي، مؤكداً أنها جزء من "الأمور السياسية العادية".
قال: "كل من يقرأ البرامج الانتخابية للأحزاب التي تشكل الائتلاف الألماني، يعرف أن هناك اختلافات في طرق تناول القضايا الأوروبية".