سيفاقم المشهد الاقتصادي الصعب في تركيا الكارثة الإنسانية التي لحقت بالبلاد جراء تعرضها لمجموعة زلازل، إذ تشير تقديرات مبكرة للأضرار الناجمة عنها إلى تصاعد مخاطر التضخم والميزانية.
بينما من المبكر للغاية قياس تأثير الهزات الأرضية بالضبط التي وقعت الاثنين الماضي في اقتصاد البلاد الذي تبلغ قيمته 819 مليار دولار، فإن تراجع أسعار الأسهم والقفزة التي شهدتها عوائد السندات تدل على وجود مخاوف من تعرض الناتج المحلي الإجمالي لخسائر جسيمة، علاوة على إضعاف الموقف المالي للبلاد.
علقت تركيا عمليات التداول في بورصتها الرئيسية الأربعاء عقب هبوطها 16%.
قرن المسؤولون سياسات اقتصادية غير تقليدية تستهدف كبح معدلات التضخم وتقليص تكاليف الاقتراض مع تدابير تستهدف تعزيز سعر صرف الليرة التركية، ما وفر الحماية لها حتى الآن.
خسائر الزلزال
قال نيك ستادميلر، رئيس وحدة المنتجات المالية بشركة "ميدلي غلوبال أدفايزرز" (Medley Global Advisors) في نيويورك: "يتلقى الاقتصاد التركي خسارة جراء تكاليف الكارثة الحالية في وقت يعاني فيه من ضعف الثقة فعلاً، ما يفاقم مخاطر وقوع انهيار آخر بالسوق مع الأخذ في الاعتبار مظاهر الضعف القائمة بالعملة والحساب الخارجي".
تجاوز عدد القتلى على مستوى تركيا وجارتها سوريا 11600 حتى مساء أمس الأربعاء، بجانب آلاف آخرين من الأشخاص العالقين تحت أنقاض المباني المهدمة جراء الزلازل الذي وقع قبل يومين.
وبينما ينصبّ التركيز في الوقت الحالي على إنقاذ الأرواح، فإنّ الحاجة إلى وضع خطط إعادة البناء قُبيل إجراء الانتخابات المزمعة بمايو المقبل تضع على الأرجح حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان تحت ضغوط أكبر للإعلان عن خطط إنفاق معززة.
برزت فعلاً يوم الأربعاء مع زيارة أردوغان المناطق المنكوبة مؤشرات لتعديلات ستطرأ على السياسة الاقتصادية، وهو ما يرجح إقرار زيادة ضخمة بطريقة واضحة في عمليات الإنفاق.
قال الرئيس التركي إنّ حملة إعادة البناء في أنحاء المقاطعات الـ10 ستكتمل خلال سنة واحدة، وأعلن عن صرف 10 آلاف ليرة (531 دولاراً) لكل أسرة منكوبة، مضيفاً أن الناجين المقيمين بخيام ومساكن مؤقتة أخرى يمكن نقلهم إلى فنادق ساحلية.
مخاطر الميزانية
كتبت خبيرة الاقتصاد في "بلومبرغ" سيلفا بهار بازيكي: "وضعنا تقديراً تقريبياً مبدئياً بأن الإنفاق الحكومي على زلازل يوم الاثنين قد يمثل 5.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وقد تزيد خطة ائتمان محتملة بدعم حكومي هذه النسبة"، ما يمثل خرقاً لأهداف الميزانية.
تتسم مهمة وضع تقدير دقيق لتأثير الزلازل بالتعقيد نظراً إلى دور المنطقة المحدود بالاقتصاد التركي. ظاهرياً، تشكل المقاطعات الـ10 الأشد تضرراً من الزلازل مجتمعة جزءاً صغيراً نوعاً ما من الناتج المحلي الإجمالي.
رغم ذلك، يُعَدّ بعض هذه المقاطعات أيضاً ظهيراً صناعياً وزراعياً يسهم بدور مهمّ في رخاء إسطنبول والمدن الكبرى الأخرى. أشارت شركة "أكسفورد إيكونوميكس" (Oxford Economics) إلى أن اضطرابات النشاط في الأجل القريب بالمقاطعات الـ10 ستقلص مجتمعة الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تتراوح بين 0.3% و0.4%.
الحساب الخارجي والليرة
أوضح حسنين مالك، وهو خبير استراتيجي بشركة "تيليمر" (Tellimer) في دبي: "قد تكون فيضانات باكستان سابقة وثيقة الصلة بالكوارث الطبيعية الأخيرة، التي ربما قوضت نسبة تتراوح بين 5% و10% من الناتج المحلي الإجمالي، كان تأثيرها السلبي في ضعف الحساب الخارجي جلياً، لكن التأثير سيكون أقل كثيراً على الأرجح في تركيا على صعيد الناتج المحلي الإجمالي، لكنه سيفاقم الضغوط الحالية الواقعة على حسابها الخارجي وسعر صرف عملتها".
قد يحدّ ذلك من توافر الغذاء ويزيد معدل التضخم في بلد يُحلّق لديه مؤشر أسعار المستهلكين قرب 60%، وهو من بين أعلى المعدلات على مستوى العالم. قد تفاقم المأساة الإنسانية سوء هذا الوضع، خصوصاً مع الأخذ بالاعتبار تأييد أردوغان لسياسة نقدية أكثر مرونة.
كان تأثير الزلازل على الليرة خافتاً، إذ ما زال سعر صرف العملة يتحرك في نطاق محدود، إذ تتبنى السلطات تدابير داعمة لاحتواء أثر السياسة النقدية التي يعتبرها مستثمرون كثيرون تيسيرية بدرجة هائلة.
ذكر بيوتر ماتيس، كبير محللي شركة "إن تاتش كابيتال ماركتس" (In Touch Capital Markets): "لا تُعَدّ الليرة المقياس الأكثر دقة لثقة السوق نحو تركيا، نظراً إلى أنها ما زالت مدعومة بتدخلات خفية، وسيتعرض البنك المركزي التركي على الأرجح لضغوط أشد من قِبل إدارة أردوغان لتخفيض أسعار الفائدة لتمويل جهود التعافي من الأزمة".
التحوط من التضخم
على صعيد مستثمري أسواق الأسهم، يسلب تراجع مؤشر "بورصة إسطنبول 100" التحوط الأساسي ضد التضخم. كان المشترون المحليون يحولون أموالهم لسوق الأسهم لتخطي نمو الأسعار الجامح الذي فاق 85% على أساس سنوي في أكتوبر الماضي. توقف الانتعاش الأسعار على مدى 3 أعوام المدفوع بهذا الطلب المُلِحّ في 2023، ما دفع المقياس إلى تسجيل أسوأ أداء على مستوى العالم.
قال نيناد دينيك، محلل أسواق الأسهم بمصرف "بنك جيوليوس بير": "يضخم الزلزال النغمة الهبوطية الكلية للأسهم التركية".
أضاف أن التوقعات طويلة الأمد لسوق الأسهم بالبلاد ستعتمد على معدل التضخم و"سياسات أردوغان غير التقليدية" والانتخابات المقررة مايو المقبل.
شدد سيمون كويجانو إيفانز، كبير خبراء الاقتصاد بشركة "جيمكورب كابيتال مانجمنت" (Gemcorp Capital Management)، قائلاً: "سيتطلب الأمر عدة شهور للتعرف على مدي تأثر الاقتصاد، نظراً إلى الخسائر المباشرة وغير المباشرة غير المعلومة جراء الزلزال، وفي الأجل القريب ستكون البلاد بحاجة إلى تدابير طارئة على صعيد السياسة المالية والنقدية، بدعم دولي ضروري لتوفير الاستقرار بالمنطقة عموماً".