في العاصمة الأرجنتينية بوينس أيرس، احتفلت غريرغوينا فيكتوريكا، العجوز البالغة 86 عاماً، بفوز منتخب بلادها بكأس العالم لكرة القدم، في إنجاز حلّق بالروح المعنوية بالدولة الواقعة في أميركا الجنوبية، وأدخل الفرح إلى قلوب أشخاصٍ أوجعها ارتفاع الأسعار وتوعُّك الاقتصاد.
لكن رغم وهج النصر في مباراة نهائية مشوقة ضد فرنسا، يلقي الواقع الاقتصادي المرير بظلال قاتمة على الأرجنتين، مع ارتفاع التضخم إلى نحو 100%، والقيود الشديدة على حركة رأس المال، وبلوغ الفقر نحو 40%، في وقتٍ يلوح فيه شبح الخوف من مغبة التخلُّف عن سداد الديون.
تقول غريرغوينا: "كأس العالم بهجة غامرة تنعشنا بعد معاناتنا من أزمة اقتصادية طويلة... لكن سرعان ما سيتعين علينا العودة إلى الواقع ومواجهة المواقف التي تثقل كاهلنا كل يوم".
أدّى فوز الأرجنتين، وهو الأول منذ أن رفع دييغو مارادونا الكأس عام 1986، إلى نزول الملايين للشوارع لتشجيع المنتخب الوطني بقيادة النجم ليونيل ميسي، كنوع من التنفيس عن الإحباط من زعماء فشلوا في السير بالاقتصاد على الطريق الصحيح لسنوات.
لكن بعد "سَكرة" الفوز واحتفالاته، جاءت "الفكرة" وعاد الأرجنتينيون إلى الواقع وحقائقه المؤلمة. حيث سجلت الدولة، التي كانت ذات يوم إحدى أغنى دول العالم، تضخماً سنوياً بلغ 92.4% في نوفمبر، ومعدل فائدة قياسياً بلغ 75%.
تتفاقم قضايا طباعة النقد، والمغالاة في القيمة المرتفعة للعملة المحلية البيزو، وانخفاض الاحتياطيات الأجنبية. ويشعر المستثمرون بالقلق من أن وزير الاقتصاد سيرجيو ماسا، الذي عُيِّن لإصلاح الأمور في أغسطس، لا يقوم بإصلاحات كافية وسط ترقب انتخابات عامة أواخر العام المقبل.. تخشى الحكومة خسارتها.
تيد مان، كبير محللي الأسهم في الأسواق الناشئة في "ألاينس بيرنشتاين"، يرى أن ماسا "يحاول فقط معالجة كل مشكلة تطل برأسها، هو حريص كل الحرص على عدم إجراء أي درجة من الإصلاحات المهمة قبل انتخابات 2023.. تحت قيادة ماسا، الأرجنتينيون استثنائيون في ركل المشكلات أمامهم.. إنهم أفضل في ركلها من ركل ميسي للكرة".
المباراة الأهم
لكن بعض الأرجنتينيين أكثر تفاؤلاً، إذ يَعتر أوزفالدو حسن (62 عاماً)، وهو تاجر في العاصمة بوينس آيرس، أن "كأس العالم تمنحنا الأمل.. قد تكون هذه هي الدفعة التي نحتاجها لبناء توافق ودفع الاقتصاد قُدُماً".
بينما ترى كاميلا غوتيلي (25 عاماً)، والتي تعمل في مجال التسويق، أن الفوز "التاريخي" قد يعزز اقتصاد البلاد بتوطيد مكانتها عالمياً، وبجذب المزيد من السياحة، وتوفير فرص عمل.
توصلت ورقة بحثية من جامعة "سري" البريطانية إلى أن الفوز بكأس العالم يمكنه إعطاء دفعة صغيرة لاقتصاد أي بلد في الأشهر التالية للفوز، ما يساعد على زيادة الصادرات.
أمّا على المدى القصير، فقد يعطي أيضاً دفعة للرئيس اليساري ألبرتو فرنانديز، والذي تراجعت شعبيته بسبب تأثير جائحة كورونا والمشكلات الاقتصادية، رغم إبرامه صفقة جديدة بقيمة 44 مليار دولار مع صندوق النقد الدولي هذا العام.
بنظر كارلوس زاراتي (63 عاماً)، وهو تاجر في العاصمة، فإن الفوز بكأس العالم سيكون في صالح الحكومة لبضعة أيام "لأنه سيشتت انتباه الناس". لكنه أضاف أنه بمجرد انتهاء الصيف في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية "ستأتي ضربة الواقع".
في الشهر الماضي، انتقدت وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني الأرجنتين، مشيرةً إلى ارتفاع ديون البنك المركزي باعتبارها خطراً على الاستقرار المالي.
بدورها، خفّضت "ستاندرد آند بورز" تصنيفها لسندات العملة المحلية المتعثرة بالفعل في الأرجنتين إلى درجة "غير مرغوب فيها".
يتوقّع غراهام ستوك، كبير المحللين الاستراتيجيين في "بلوباي أسيت مانجمنت"، حدوث تغييرات اقتصادية إيجابية نتيجة انتخابات العام المقبل، حيث أصبح تغيير الحكومة وراداً، بعد أن مُني الائتلاف الحاكم بهزيمة نكراء في التجديد النصفي العام الماضي.
ترى ماريا بيلين بيريرا (32 عاماً)، وهي معلمة في مدرسة ابتدائية، أن التغييرات الاقتصادية لن تحدث بين عشية وضحاها، وتحتاج إلى مشاركة الجميع وليس فقط فريق كرة القدم. مُضيفةً: "نحتفل لأن المنتخب يمثلنا كدولة، لكن هذا يمثل تضحية 30 شخصاً تقريباً.. أما لكي يتغيّر الاقتصاد، فيتعين علينا جميعاً المشاركة".