يحظى القبطان جي كيبلينغ "كيب" لوتيت بأفضل موقع بين قلة من المراقبين لمشاهدة وباء كورونا يخنق ببطء -ثم يحرر حالياً- أحد أكبر شرايين التجارة العالمية.
في مثل هذا الأسبوع قبل سنتين، عندما تكدست سفن الحاويات كاملة الحمولة قبالة ساحل جنوب كاليفورنيا، بدأ فريق لوتيت من مديري المرور البحري لميناءي لوس أنجلس ولونغ بيتش الاحتفاظ بسجلات يومية في جدول للبيانات يضم حالياً 736 سطراً و13 عموداً. وتمثّلت مهمة الفريق في ترتيب منظومة انتظار في صفوف لضمان أن سفناً مماثلة لارتفاع ناطحة السحاب "إمباير ستيت" تجتاز خليج سان بيدرو بطريقة آمنة ومنظمة.
عودة للوضع الطبيعي
بدأت حالة الاختناق بخمس سفن في 15 أكتوبر 2020، ثم تجاوزت 40 بحلول فبراير 2021 إذ تهافت الأميركيون على البضائع مع حبسهم في المنازل بسبب تفشي مرض كوفيد. وانخفض عدد الصف إلى 9 سفن بيونيو 2021، ثم تضخم لما يزيد عن 60 في نفس هذا الوقت من السنة الماضية قبل أن يصل ذروته عند 109 سفن بيناير الماضي. لكن على غرار مقاييس عديدة لضغوط سلاسل التوريد مؤخراً، فإن هذا المقياس يتضاءل، وكان هناك 8 سفن فقط في قائمة الوصول في أواخر الأسبوع الماضي.
حتى موظفو لوتيت بدأوا يشعرون بالراحة من الضغوط.
قال لوتيت، وهو ضابط خفر السواحل السابق والمدير التنفيذي لشركة "مارين إكستشينج أوف ساذرن كاليفورنيا" (Marine Exchange of Southern California) وشركة "فيسل ترافيك لوس أنجلس أند لونغ بيتش" (Vessel Traffic Service Los Angeles and Long Beach): "تدير القوى العاملة لدينا حالياً مستويات معقولة، ومستوى الضغط منخفض. نحن نعود لنكون في موقف جيد".
في دوائر سلاسل التوريد التي عانت من الفوضى لعامين، تتسلل كلمة "طبيعي" إلى توقعات عام 2023، وبحسب أحدث مؤشر لمديري الخدمات اللوجستية، "تشير التوقعات المستقبلية الصادرة في سبتمبر المنصرم إلى عودة الأمور لطبيعتها والعودة إلى العمل بصورة معتادة خلال السنة المقلبة".
لا يعني هذا أن كافة أمور الاقتصاد العالمي ستجري بسلاسة، فما زالت الشركات تعاني من نقص قطع الغيار والعمالة، وتدخل سلاسل التوريد الهشة لموسم عطلات آخر عرضة للصدمات التي تتراوح من الطقس السيئ وإضرابات عمال الموانئ إلى عمليات الإغلاق في الصين جراء تفشي مرض كوفيد وحرب روسيا بأوكرانيا.
اقرأ أيضاً: سفن الشحن العالمية تبحر في أسوأ مخاطر مناخية
"مازالت الأمور سيئة"
قال جيسون ميللر، الأستاذ المساعد في قسم إدارة سلاسل التوريد في "جامعة ولاية ميشيغان"، محذراً من الإفراط في التفاؤل إزاء سرعة التعافي: "تحسّنت القدرة الاستعابية للنقل الدولي بطريقة ملحوظة". أضاف أنه بالنسبة للشركات الأميركية التي تسعى للحصول على المواد الخام ومكونات التصنيع، "ما زالت الأمور سيئة ولم تتحسن بصورة ملموسة".
تكشف الرسوم البيانية التالية عن مدى التقدم المحرز باتجاه إنهاء حالة الجمود، بداية من المحللين بشركة "سي إنتلجينس" (Sea-Intelligence) ومقرها كوبنهاغن، والذين ذكروا في تقرير الأسبوع الماضي أنه جرى تصريف نصف تكدّس النقل البحري، ويقدّر أحد المقاييس "أن تحدث العودة الكاملة للوضع الطبيعي في مارس 2023". يقارن نموذج آخر من "سي–إنتليجنس" الوضع الراهن باضطرابات وقعت خلال 2015، ووجد أن "الحالة الطبيعية" يمكن بلوغها أوائل 2023، مع استبعاد أي اضطرابات أخرى غير متوقعة.
كما تتضح أدلة على الهدوء في قطاع الشحن في أرقام حركة المرور الأسبوعية في أكثر الموانئ الأميركية ازدحاماً بلوس أنجلس، إذ رست 17 سفينة حاويات الخميس الماضي، بالمقارنة مع نحو 30 سفينة في أوائل 2022. وكان التراجع تدريجياً وما زالت المستودعات القريبة متعددة وسائل النقل تنهي الأعمال المتراكمة، لكن أحجام الواردات الأسبوعية في الفترة الماضية كانت أقل من مستويات السنة السابقة. يمكن إلقاء اللائمة جزئياً على تصاعد حجم المخزون بوقت أبكر من المتوقع خلال صيف العام الجاري، علاوة على إعادة توجيه البضائع عبر موانئ الساحل الشرقي لتفادي إضراب عمالي محتمل.
ضعف الطلب
يتعافى تكدّس الموانئ أيضاً في ألمانيا، بحسب قراءة مؤشر التجارة الصادر عن معهد "كيل"، ويرتبط السبب بالطلب بنفس قدر ارتباطه بالتحسينات بجانب العرض. اتسمت تجارة سبتمبر بضعف الطلب على البضائع من الصين بأنحاء أوروبا وأميركا الشمالية، بحسب فنسنت ستامر، رئيس المؤشر التجاري في "كيل". لكن ما زال يوجد جهد يتوجب بذله لتصريف البضائع المعطّلة على مستوى العالم على متن السفن المنتظرة، إذ تُبيّن بعض أرقام "كيل" أن سفن شحن عديدة ما زالت عالقة.
ويُبيّن مؤشر اضطراب آخر، من وكيل الشحن السويسري "كونا + ناغل إنترناشيونال" (Kuehne + Nagel International)، نمطاً مشابهاً، إذ كان تكدّس الشحنات المنقولة بحراً أقل من ذروته في أوائل 2022، لكن التأخيرات ما زالت عالية بالأوقات الاقتصادية المتقلبة.
كانت "بلومبرغ إيكونوميكس" من بين عدة مجموعات من متنبئي القطاع الخاص الذين نشروا مؤشراً لمراقبة ضغوط العرض، وتُبيّن خريطة التمثيل الحراري أن الضغوطات التي كانت تعطي إشارة تحذيرية تومض باللون الأحمر في بداية السنة الجارية أصبحت أهدأ. انخفضت مقاييس مثل مؤشرات أوقات التسليم وأسعار المنتج عن مستويات ذروتها، وأصبحت غالبيتها مكتسية باللون الأخضر أو عند درجة تحذيرية باللون الأصفر.
مسار أفضل
بطريقة مشابهة، وصل مؤشر أكسفورد إيكونوميكس لقيود الإمداد في الولايات المتحدة الأميركية لذروته بفبراير الماضي وتحسّن ببطء ولكن بثبات خلال سبتمبر الماضي. يساعد في ذلك تقييد المستهلكين عبر اقتصادات الدول المتقدمة لإنفاقهم، وقال أورين كلاشكين، كبير خبراء الاقتصاديين الأميركيين بأكسفورد: "من المفترض أن تسير ظروف سلاسل التوريد في مسار أكثر تحفيزاً بالفترة النهائية لسنة 2022 وخلال 2023، ومن مزايا ضعف الطلب أنه سيخفف الضغط على سلاسل التوريد".
حتى الأوصياء على النظام المالي العالمي يترقبون الموقف، إذ أطلق بنك الاحتياطي الفيدرالي بنيويورك مؤشر ضغوط سلاسل التوريد العالمية الخاص به في يناير الماضي. بيّن هذا المقياس أن سبتمبر الماضي يشكل الشهر الخامس على التوالي من التراجعات، وهو تحسن واسع النطاق يقوده هبوط أسعار تأجير سفن الحاويات. يدلل المسار العام للمؤشر خلال السنة الجارية على "أن ضغوط سلاسل التوريد على مستوى العالم بدأت تنحسر لتواكب المستويات التاريخية.
بحسب بعض المقاييس، يجري تفكيك بعض أزمات النقل بنفس سرعة تعقد النظام السنة الماضية. هذه أخبار غير مرحّب بها بالنسبة للشركات التي انتعشت أثناء الفوضى إذ هبطت الأسعار الفورية لحاويات الشحن نحو 60% للسنة الجارية مع معاناة شركات النقل في مواجهة مشكلة معاكسة لتلك التي واجهتها قبل سنة، وهي فائض الطاقة الاستيعابية، وعلى غرار شركات الطيران التي تلغي الرحلات التي لا تكتمل فيها حمولة الطائرة، تقلل شركات النقل من عدد الرحلات الفردية في ممارسة تُسمّى "الإبحار الفارغ" -أو إلغاء خطوط الخدمة الاحتياطية بالكامل– لمطابقة المساحة المتاحة مع الطلب، بحسب أرقام من شركة "دروري" (Drewry).
نهاية عصر مربح
بالنسبة لأصحاب الشحنات، فإن تراجع الأسعار يخفف من حدة الأسعار العالية التي بلغت مستويات قياسية خلال السنتين الماضيتين. لكنه أيضاً يُنهي فترة أكثر ربحية في تاريخ شحن الحاويات. خفضت وكالة "موديز إنفستورز سيرفيس" الأسبوع الماضي نظرتها للقطاع إلى سلبية من مستقرة إذ تعمل اختلالات العرض والطلب ضد مصلحة شركات النقل في ظل اقتصاد عالمي أكثر ضعفاً.
ربما تُسرّع السفن الحديثة التي ستُطلق خلال 2023 و2024 من انقلاب حظوظ القطاع. تُعدّ نسبة دفتر الطلبات إلى حجم الأسطول البالغة 28% هي الأعلى منذ 2010، بحسب "موديز"، وستتجاوز هذه الزيادة في السعة التوقعات الخاصة بأحجام التجارة العالمية. أوضح تقرير "موديز": "رغم أن مشكلات موثوقية الخدمة وأسعار الشحن العالية ستتواصل على الأرجح حتى 2023 نتيجة خوض النظام البيئي لقطاع النقل عملية تصحيح ذاتية، فإننا نعتقد أن أرباح شركات النقل البحري بلغت مستويات ذروتها حالياً خاصة وأن معروض السفن الزائد يقابله طلب ضعيف". يستعرض الرسم التالي كيفية ظهور عدم التطابق خلال السنة الحالية والمقبلة.