بعد إغداق الأموال على مواطنيها لزيادة الطلب خلال الجائحة.. الدول المتقدمة تركّز مجدداً على أهمية زيادة العرض لإنعاش الاقتصاد

الاقتصاد العالمي يحتاج إلى ثورة في جانب العرض

رئيسة الوزراء البريطانية ليز تروس تتابع  وزير الخزانة كواسي كوارتنج (ليس في الصورة)  وهو يلقي خطابا في اليوم الثاني من المؤتمر السنوي لحزب المحافظين في 3 أكتوبر 2022 في برمنغهام ، إنجلترا. - المصدر: بلومبرغ
رئيسة الوزراء البريطانية ليز تروس تتابع وزير الخزانة كواسي كوارتنج (ليس في الصورة) وهو يلقي خطابا في اليوم الثاني من المؤتمر السنوي لحزب المحافظين في 3 أكتوبر 2022 في برمنغهام ، إنجلترا. - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

- مقال رأي

هناك عقيدة جديدة في صناعة السياسات الاقتصادية. وهناك رؤية أكثر حداثة لاقتصاديات جانب العرض، تحوّلت إليها واعتنقتها شخصيات من اليمين ومن اليسار على حد سواء. على أنَّ ما يعنيه ذلك وكيف سيتحقّق؛ هو ما يثير الانقسام بين المسؤولين عن وضع هذه السياسات.

قد تسلط المسارات المختلفة التي اتخذتها المملكة المتحدة وأوروبا بعض الضوء على هذه العقيدة الجديدة.

يتم تحديد الأسعار ومقدار النشاط الاقتصادي بحسب العرض والطلب. فالعرض هو ما ينتجه الاقتصاد، بينما يمثل جانب الطلب شهية الاقتصاد وإقباله على السلع والخدمات. والاثنان، يمكن العبث بهما وإدخال تغييرات عليهما من قبل صنّاع السياسات الاقتصادية.

أصبح من المعتاد أن تكون لاقتصاديات جانب العرض سمعة سيئة. كانت الفكرة في الثمانينيات من القرن الماضي، هي أنَّك إذا خفّضت الضرائب بدرجة كافية، فسوف تحفز النمو الاقتصادي كثيراً، لدرجة أنَّ التخفيضات الضريبية ستغطي تكاليفها. قد يكون ذلك صحيحاً إذا كانت الضرائب الهامشية مرتفعة جداً - أكثر من 95% مثلاً - ولكن عند المستويات الطبيعية أكثر، يكون الأمر بمثابة التفكير الحالم. خفض الضرائب ليس وجبة مجانية. فعلى الرغم من أنَّ هذه الخطوة يمكن أن تزيد النمو، لكنْ هذا النمو لا يكفي عادة للتعويض عن الإيرادات الضريبية المفقودة.

من هنا، أصبحت اقتصاديات جانب العرض بمثابة نقطة فاصلة. حظيت المخاوف التي تواجه العرض، مثل ما يمكن للاقتصاد أن يحققه من خلال مهارات العمال والقيود المفروضة على بدء أو إقامة عمل تجاري، باهتمام أقل، أو بتهكّم صريح.

معهد التمويل الدولي يقلِّص توقعاته للنمو العالمي إلى 2.3% العام الجاري

لقد توارى هذا النهج عن الأنظار تماماً خلال فترة الركود العظيم الذي أنهك ميزانيات الأسر ودفع الأفراد إلى خفض الإنفاق. بالأحرى، اعتقد واضعو السياسات أنَّهم يستطيعون تحفيز الاقتصاد من خلال زيادة الطلب وإعطاء الناس الأموال لإنفاقها، أو عن طريق إنفاق الحكومة المزيد من الأموال.

تغيير فرضته الجائحة

يمثل الاستهلاك جزءاً كبيراً من الاقتصاد، ولذلك كانت الفكرة أنَّه إذا طلب الناس أو الحكومة المزيد من السلع؛ فسيؤدي ذلك إلى مزيد من النمو. جادل بعض الاقتصاديين بأنَّ الطلب كان ضعيفاً في كل مجالات الاقتصاد حتى أثناء فترات الازدهار، مما يعني ضرورة أن تنفق الحكومة الكثير من الأموال.

لذلك، أصبح تعزيز الطلب هدف السياسات الاقتصادية إلى أن ظهر وباء "كوفيد"، حيث تسببت الجائحة في تقييد العرض. وقد قوبلت محاولات زيادة الطلب في عامي 2020 و2021 بالتضخم، ليعود الاهتمام لاحقاً إلى العمل على جانب العرض.

هذا الأمر أحيا من جديد التفكير في "الوجبة المجانية"، والذي يفيد أنَّ عوامل توفر المزيد من السلع والإنتاجية والسكن الأرخص، ستدفع التضخم إلى التراجع.

من المؤكد أنَّ القلق بشأن العرض قد تأخر كثيراً. ففي قطاع الإسكان مثلاً؛ هناك العديد من القيود على البناء التي تحدّ من العرض، وهو ما يعتبر أحد أسباب ارتفاع الأسعار (الأسعار مرتفعة أيضاً لأنَّ الحكومة تدعم الطلب، لكن هذا شائع من الناحية السياسية، ولا يرغب أحد في الحديث عنه).

التضخم في منطقة اليورو يسجل 10% لأول مرة على الإطلاق

لكنْ، هناك بالفعل خلاف حول أفضل طريقة لزيادة العرض. يميل الليبراليون أكثر إلى السياسة الصناعية، مما يعني أنَّ الحكومة تختار الصناعات المرغوب فيها وتمنحها الإعفاءات الضريبية والإعانات لزيادة الإنتاج، بينما يتّبع المحافظون التقليديون نهجاً يقوم على تذليل العقبات أمام المستثمرين عبر تبسيط الإجراءات وخفض الضرائب.

يكمن الاختلاف فيما إذا كنت تعتقد أنَّ النمو يتحقق بشكل أفضل عبر المبادرة الفردية، ومن بدء تأسيس الشركات والسماح للأسواق بتوجيه استثماراتها الخاصة، أو إذا كنت تعتقد أنَّه من الأفضل للحكومة أن توجه الموارد.

يعتبر النهج الحكومي منطقياً إذا كنت تعتقد أنَّ الأسواق توجّه رأس المال إلى الأماكن الخطأ، أو عندما يحتاج الاقتصاد إلى مشاريع تتطلب الكثير من الاستثمار الثابت الذي تحتاج إليه الحكومة لاتخاذ الخطوة الأولى.

نهج إدارة بايدن

اتبعت إدارة بايدن في الغالب هذا النهج الحكومي، والذي يصف العديد من البنود الواردة في مشروع قانون إعادة البناء بشكل أفضل (على الرغم من أنَّ غالبية الخطة الأصلية لم يوافق الكونغرس عليها)، والذي على الأرجح سنرى الكثير منه. ويشار إلى أنَّ المحافظين في أميركا أيضاً أصبحوا من مؤيدي السياسة الصناعية.

الآن، لدينا مقومات تجربة العالم الحقيقي في الخارج. تريد رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة ليز ترَس الخوض في تجربة النهج المتمثل في إزالة العقبات أمام المستثمرين عبر التخفيضات الضريبية وتحسين اللوائح التنظيمية، على أمل أن يقلل ذلك من مثبطات العمل والابتكار وتأسيس شركات جديدة. لم تكن الأسواق شديدة التجاوب حتى الآن، على أقل تقدير. ويرجع ذلك جزئياً إلى أنَّ التوقيت يشير إلى أنَّ الحكومة لا تجعل التضخم أولوية، لأنَّها تعتزم تمويل التخفيضات الضريبية المقترحة من خلال تحميل الموازنة عجزاً أكبر. وهناك سبب وجيه للاعتقاد بأنَّ أي نمو يتم تحقيقه، سيواجه زيادة أسعار الفائدة من جانب بنك إنجلترا في حربه ضد التضخم.

"فيتش" تخفض النظرة المستقبلية لاقتصاد المملكة المتحدة إلى "سلبية"

خطة ليز ترَس

كان النقاش بشأن التخفيضات التي اقترحتها حكومة ليز ترَس حامياً، كما يشير كلايف كروك، الكاتب في "رأي بلومبرغ". لكن هناك مبالغة في بعض الانتقادات ورد فعل السوق، فالتخفيضات الضريبية ليست كبيرة في الواقع -حوالي 45 مليار جنيه إسترليني (52 مليار دولار) من إجمالي خطتها البالغة 160 مليار جنيه إسترليني- وتم التراجع عن حوالي 2 مليار جنيه إسترليني من الإجمالي، علماً أنَّ جزءاً كبيراً من الأموال يذهب لدعم الطاقة. إنَّ الفكرة العامة سليمة للسماح بأن يكون هناك نمو شامل عن طريق إزالة العقبات الاقتصادية والمثبطات.

مؤشرات سريعة على فشل "مغامرة" ليز ترَس التاريخية مع اقتصاد المملكة المتحدة

في غضون ذلك، تولي أوروبا اهتماماً أقل بكثير بتجربة النهج الذي تقوده الحكومة، وبإنفاق مبلغ مماثل من الأموال بالنسبة إلى ناتجها المحلي الإجمالي. لقد خصص الاتحاد الأوروبي، الذي لم يلتزم بأي قواعد تنظيمية لا يحبذها، 806 مليارات يورو (804 مليارات دولار) لأشكال مختلفة من السياسة الصناعية، بما في ذلك البنية التحتية الرقمية وإنتاج البطاريات، فضلاً عن 1.2 تريليون يورو إضافية للصفقة الخضراء الجديدة في أوروبا (الحرب في أوكرانيا قد تغيّر هذه الخطط)، حيث تقوم كل دولة منفردة ببعض الإنفاق الإضافي لتحقيق هذه الأهداف.

إذا أخذنا فرنسا كمثال؛ فإنَّ لديها نسبة دين إلى الناتج المحلي الإجمالي أكبر من المملكة المتحدة، لكنَّها تخطط لإنفاق 100 مليار يورو (40% عبر تمويل من الاتحاد الأوروبي والباقي بالديون) على المبادرة. كذلك؛ فإنَّ الحكومات الأوروبية تنفق بدورها مبالغ كبيرة على دعم الطاقة.

أبرز العوامل تأثيراً على أسواق السلع في الربع الأخير من العام

إذاً، ما هو النهج الذي يحقق نتائج أفضل لنمو الاقتصاد؟ تتوقف الإجابة على أمور عدة، لكنَّ العامل الأساسي للنمو المستقبلي من جانب العرض، هو الابتكار. فهذه هي الوجبة المجانية الوحيدة، لأنَّك عندما تبتكر يمكنك صنع المزيد من الأشياء باستخدام سلع أقل وتحسين مستويات المعيشة. غير أنَّ الابتكار في جوهره عملية فوضوية ومحفوفة بالمخاطر، ولا يمكن التنبؤ بها.

الحكومة الفرنسية الجديدة تتعهد بخفض الديون ومكافحة التضخم

تغيير قواعد اللعبة

لا تتمتع السياسة الصناعية بسجل حافل في اختيار الفائزين، إذ يكون الأمر صعباً عندما يكون هناك الكثير من عدم اليقين بشأن الابتكارات التي ستغيّر قواعد اللعبة.

عندما تكون هناك حاجة واضحة إلى مشروع ما، ويتم تنفيذه بشكل جيد، مثل "عملية السرعة القصوى" لإنتاج لقاحات "كورونا"، أو مشروع مانهاتن لإنتاج أسلحة نووية، يمكن أن يكون الاستثمار الحكومي فعالاً.

يمكن أن يؤدي الإنفاق على البنية التحتية أيضاً إلى تسريع النمو، إذا جرى اختيار المشاريع المناسبة، على الرغم من وجود بعض الأشياء القديمة والهدر هناك أيضاً.

تعتمد التخفيضات الضريبية إلى حد كبير على التنفيذ. فالتخفيضات الضريبية الممولة بالعجز أقل فاعلية، كما أنَّ أفضل إصلاح ضريبي يزيل الثغرات والتشوهات الأخرى، بالإضافة إلى خفض معدلات الضرائب. كذلك؛ فإنَّ إلغاء القيود التنظيمية من شأنه أن يقود إلى سجل حافل في حال تنفيذه بشكل جيد.

أنا شخصياً أميل إلى حرية السوق وإلى تفضيل إزالة العقبات أمام المستثمرين. ولدي ثقة في الأفراد والسوق التي تقلل من المخاطر أكبر من ثقتي في الموظفين البيروقراطيين الحكوميين. لكن مع ذلك؛ فإنَّ الإجابة عن سؤال أي نهج يحقق نتائج بشكل أفضل مرهونة حقاً في مدى جودة التنفيذ، وفي المشكلة التي يحاول حلها.

الإنفاق والتضخم

يمكن أن يؤدي الإنفاق والتخفيضات الضريبية إلى نتائج تضخمية، على الأقل في المدى القصير إلى المتوسط​​، لأنَّ توسيع العرض قد يستغرق سنوات، بينما يظهر تأثير الإنفاق أو التخفيضات الضريبية على الطلب بشكل فوري. مع ذلك؛ هناك تحيّز سياسي قوي تجاه نهج الإنفاق.

المركزي الأوروبي يحذر البنوك من الإفراط في التفاؤل بشأن مخاطر الاقتصاد الكلي

غالبا ما يُنظر إلى الإنفاق الحكومي المموّل بالعجز على أنَّه استثمار حكيم، وإن كان مدعوماً، باعتباره يمثل استثماراً في المستقبل، في حين يُنظر إلى التخفيضات الضريبية الممولة بالعجز على أنَّها منح تنطوي على إسراف لصالح الأثرياء. لكن في الحقيقة، هما وجهان لعملة واحدة.

قد لا يحصل جانب العرض على قوة دفع كبيرة في المستقبل القريب. فمع ارتفاع أسعار الفائدة والتضخم وندرة الطاقة؛ تفتقر معظم البلدان إلى الحيز المالي لتطبيق التخفيضات الضريبية الممولة بالعجز أو الإنفاق. لقد ألغت ليز ترَس بالفعل تخفيضات الضرائب التي تصبّ في مصلحة الأثرياء.

إنَّ إلغاء القيود لا يكلف شيئاً، بل ويمكنه توفير المال، لكنَّه يتطلّب الاعتناء بمصالح خاصة. بعد الجائحة حدث تحيّز نحو مزيد من التدخل. لكن مع انخفاض الإنتاجية وفي ظل شيخوخة السكان؛ تحتاج جميع البلدان المتقدمة إلى ثورة في جانب العرض.

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
هذا المقال لا يعكس موقف أو رأي "الشرق للأخبار"وهو منشور نقلا عن Bloomberg Mediaولا يعكس بالضرورة آراء مجلس تحرير Bloomberg أو ملاكها
تصنيفات

قصص قد تهمك

الآراء الأكثر قراءة