قد تعاني الصين والولايات المتحدة من المشاكل ذاتها لكن الحل ليس واحداً

تركيبة الصين السكانية مؤشر على انحسار لا على هيمنة

القوة البشرية، محرك إقتصاد الصين، بدأ ينكمش - المصدر: بلومبرغ
القوة البشرية، محرك إقتصاد الصين، بدأ ينكمش - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

- مقال رأي

لو كان عدد سكان الدول هو العامل الرئيسي في تحديد مسار التاريخ فلربما كانت الصين قد اجتاحت أوروبا في القرن الخامس عشر، ولما كان بوسع بريطانيا أن تحتل الهند في القرن الثامن عشر. إذاً لا يقرر التوزع السكاني مصائر الدول.

يمكن لدول صغيرة أن تقوم بأمور عظيمة، فقد قدمت اسكتلندا حين لم يتجاوز تعداد سكانها على الأرجح 1.3 مليون نسمة في منتصف القرن الثامن عشر، إسهامات كبيرة في عصر التنوير والثورة الصناعية وتوسع الإمبراطورية البريطانية. كما يمكن ألا يكون لدول كبيرة شأن يذكر، فبرغم كونها رابع أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، إلا أن معظم الأميركيين بالكاد يدركون وجود إندونيسيا.

كما أن النمو السكاني ليس أمراً طيباً على الدوام، لا سيما في ظل عدم تحقيق مكاسب في الإنتاجية تحول دون أن يجوع الناس فيما يتكاثرون بسرعة. لكن تراجع عدد السكان نادراً ما يكون حسناً، فقد ارتبط صعود بريطانيا ثم الولايات المتحدة إلى مواقع الهيمنة العالمية في القرنين التاسع عشر والعشرين بنمو سكاني سريع في كلتا الحالتين. لذا لا يشكل تباطؤ هذا النمو مدعاة للابتهاج.

سرّني حضور الاجتماع السنوي لمجموعة أسبن للاستراتيجيات الاقتصادية، وهي الشقيقة الصغرى لمجموعة أسبن الاستراتيجية الأقدم، الأسبوع الماضي. ذهبت إلى هناك متوقعاً أن يضفي النقاش بين منتقدي الاحتياطي الفيدرالي وقيادته الحالية نوعاً من الحيوية على الاجتماع. لم يخب أملي حيال ذلك، لكن تبين أن الحدث الرئيسي كان مناقشة سلسلة أبحاث مقلقة حول اتجاهات التركيبة السكانية للولايات المتحدة وآثارها، الذي اتضح أنه مهم؛ بل بدا خطيراً إلى حد ما للوهلة الأولى.

أسباب التراجع

كانت نسبة نمو سكان الولايات المتحدة تتجه للانخفاض منذ زهاء عقدين، فقد زاد عدد السكان المقيمين بنسبة 0.1% فقط في 2021، وهو أبطأ ارتفاع شهدته البلاد في زمن سِلم، وأدنى بكثير من نسبة النمو السنوي البالغة 1% تقريباً المسجلة بين السبعينيات وبداية الأزمة المالية في 2008. يأتي هذا التباطؤ نتيجة لتضافر ثلاث قوى: ارتفاع الوفيات وانخفاض الخصوبة وتراجع صافي الهجرة الدولية.

أولها هو الأقل إثارةً للدهشة، حيث كان أداء الولايات المتحدة سيئاً نسبياً خلال جائحة "كوفيد-19" كما هو معلوم، فتسببت بوفاة أكثر من مليون شخص. يسهم بزيادة ذلك العامل، وهو أمر معروف أيضاً لكن بقدر أكثر إثارة للصدمة من نواحٍ عديدة، بيانات جمعتها الاقتصاديتان بجامعة برينستون، آن كيس وأنغوس ديتون، حول "وفيات اليأس" التي تشمل الوفيات بسبب تعاطي جرعات زائدة من المخدرات.

يبدو انخفاض نسبة الخصوبة أقل وضوحاً، وذلك حسب ما بيّنت ميليسا كيرني من جامعة ميريلاند وفيليب ليفين من كلية ويلسلي في ورقة بحثية جديدة لمجموعة أسبن للاستراتيجيات الاقتصادية:

تذبذبت نسبة الخصوبة العامة (عدد المواليد الأحياء سنوياً لكل ألف امرأة في سن الإنجاب) بين 1980 و2007 ضمن نطاق ضيق تراوح بين 65 و70.3. انخفضت تلك النسبة منذئذ إلى 56.6 في 2021. يشير تراجع نسبة الخصوبة العامة لانخفاض نسبة الخصوبة الإجمالية للفترة الحالية، التي تحسب عدد الولادات المتوقعة مدى الحياة بافتراض أن النساء سيتابعن الإنجاب بنفس النسب الحالية المحددة حسب الفئات العمرية على مدى سنوات الإنجاب. يعد هذا المعيار الأهم بالنسبة للنمو السكاني. لقد انخفضت نسبة الخصوبة الإجمالية في الولايات المتحدة من 2.12 في 2007 إلى 1.65 تقريباً بين 2020 و2021، وهي أدنى مستوياتها على الإطلاق. كما كانت نسبة الخصوبة الإجمالية دون نسبة التعويض البالغة 2.1 باستمرار منذ 2007.

طفلان لا يكفيان

إذا أنجبت المرأة العادية أقل من طفلين، سينخفض عدد السكان يقيناً مع تساوي المحددات الأخرى. لقد حل انخفاض الخصوبة، على نحو مدهش، بجميع أعمار الإنجاب والمجموعات العرقية ومستويات التعليم تقريباً. استعرض الباحثان كيرني وليفين شتى النظريات المطروحة لتفسير أزمة الإنجاب ودحض معظمها. على سبيل المثال، لو كان الأمر يتعلق فقط بالركود الاقتصادي، أو بحسب صياغة المحلل الاقتصادي جيمس كارفيل الشهيرة في 1992 "إنه الاقتصاد يا غبي"، لتعافى معدل الخصوبة مع انتعاش الاقتصاد ببطء بعد الأزمة المالية. أما بالنسبة للنظرية القائلة إن النساء يقيدن حجم الأسرة بسبب قلقهن بشأن تغير المناخ، فإن "الولايات التي شهدت زيادة في عمليات البحث عن تغير المناخ عبر محرك (غوغل) ليست هي الولايات التي انخفض فيها عدد المواليد أكثر من غيرها".

يجادل مؤلفا الدراسة بأن الأزواج يختارون تكوين أسر أصغر بسبب اختلاف الأولويات. على سبيل المثال، تريد النساء إيلاء المزيد من الاهتمام لحياتهن المهنية، إضافة لتغير نظرة الأزواج حول الأبوة والأمومة، ما جعل تربية الأطفال أكثر تكلفة واستهلاكاً للوقت مقارنةً بما كان عليه الوضع قبل 25 عاماً تقريباً.

كما حاجج كيرني وليفين استناداً لتجربة البلدان الأخرى بأن "السياسات المؤيدة للإنجاب، مثل زيادة الإعفاءات الضريبية الخاصة بالأطفال أو صرف مزيد من الإعانات السخية لرعايتهم، قد يكون لها تأثير متواضع على نسبة الخصوبة الإجمالية في الولايات المتحدة في أحسن الأحوال، ولا يُرجح أن تسهم في رفعه إلى مستوى التعويض". ينسحب الأمر ذاته على تدابير لتقييد تمكين المرأة من الإجهاض على مستوى البلاد بعد صدور حكم المحكمة العليا في قضية "دوبس ضد مؤسسة جاكسون لصحة المرأة" (Dobbs v. Jackson Women’s Health Organization)، الذي ألغى الحكم الصادر بقضية "رو ضد وايد" (Roe v. Wade).

الهجرة هي الحل

بعبارة أخرى، ما من نهاية وشيكة لأزمة الإنجاب، ما قد ينذر بتراجع أكبر لأن "الانخفاض المطول في نسبة الخصوبة الإجمالية بهذا القدر في الولايات المتحدة من شأنه أن يفضي لتباطؤ النمو السكاني، ما قد يؤدي بدوره لتباطؤ النمو الاقتصادي وتأجيج التحديات المالية". تشمل تلك الأخيرة تحديات تواجها إدارة الضمان الاجتماعي، حيث تراهن على زيادة معدل الخصوبة لإبقاء عجزها المترتب على توقعات آماد الأعمار تحت السيطرة.

لكن ماذا عن الهجرة، العامل المحفز للنمو السكاني في أميركا الشمالية منذ القرن السابع عشر؟ الأخبار في هذا الصدد ليست أفضل كثيراً نظراً لتراجع نسبة الهجرة، بعكس ما قد تعتقده عند مشاهدة قناة "فوكس نيوز".

قالت تارا واتسون من كلية ويليامز في بحثها التالي لدى مجموعة أسبن للاستراتيجيات الاقتصادية: "لقد انخفض صافي التدفقات السنوية للمهاجرين منذ 2016، كما استقر تعداد السكان المولودين خارج الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة. في حين تجاوز صافي الهجرة السنوية إلى البلاد مليون شخص قبل أقل من عقد، إلا أن هذا الرقم انخفض بشكل حاد، حيث أفاد مكتب تعداد الولايات المتحدة بأن صافي معدل الهجرة بلغ 477 ألف شخص في 2019، و247 ألف شخص فقط في 2020".

يعزى هذا التراجع جزئياً إلى "القرارات والخطابات السياسية في عهد ترمب، فضلاً عن قيود كوفيد"، لكن الانهيار التدريجي في القنوات المختلفة للهجرة القانونية لعب دوراً في ذلك أيضاً. فيما يلي بعض الأدلة على سوء أداء نظام الهجرة الحالي:

أولاً: "اعتباراً من مايو 2022، يجري نظر الطلبات المقدمة قبل ديسمبر 2014 في معظم البلدان من قبل أبناء الأميركيين البالغين وغير المتزوجين، وهي الطلبات غير العاجلة للأقارب التي تعطى الأولوية القصوى".

ثانياً: حددت عتبة الحد الأقصى لطلبات الهجرة المقبولة للعمل بالولايات المتحدة في 1990 عند 140 ألف طلب سنوياً. كما يعود تعيين الحدود القصوى لكل دولة على حدة أيضاً إلى 1990. لذا هنالك أكثر من 700 ألف مهاجر هندي محتمل ممن حصلوا على رعاية صاحب العمل، إلا أن طلباتهم ما تزال بانتظار دورها للحصول على الموافقة".

ثالثاً: "زاد تراكم طلبات الإقامة المنظورة وغيرها من طلبات التعديل الدائم للحالة من 3 ملايين في 2013 إلى 8.4 مليون في 2022، فضلاً عن تراكم طلبات مماثلة تتعلق بالتأشيرات المؤقتة، حيث ينتظر ما يقرب من نصف مليون شخص تحديد مواعيد للحصول على تأشيراتهم. كما لم يفصل في 1.6 مليون قضية تقريباً بمحكمة الهجرة، أي ثلاثة أضعاف القضايا المنظورة في 2016".

نظامٌ خَرب

لذا يعد وصف نظام الهجرة الأميركي بالـ"معطل" استهانة بالحال لأنه محض نظام خرب بناءً على الدلائل سالفة الذكر. مع ذلك، لم يتحقق أي تغيير تشريعي كبير منذ 1996، رغم الجهود الفاشلة تكراراً للتوصل إلى إجماع الحزبين على تعديله. كما يفضل 38% من الأميركيين خفض معدلات الهجرة فيما يرغب 27% منهم بزيادتها، وفقاً لمؤسسة "غالوب".

أكرر هذا ليس أمراً جيداً بالنسبة للاقتصاد، حيث تلفت واتسون إلى أن ميل المهاجرين للقدوم إلى الولايات المتحدة بحثاً عن عمل يجعل "المولودين في الخارج أميل للمشاركة في القوى العاملة بمعدل أعلى من الأميركيين المولودين في البلاد". رغم أن العمال غير المهرة المولودين في الولايات المتحدة ربما يخسرون أمام منافسيهم من المهاجرين، إلا أن "تدفقات المهاجرين إلى الداخل تنتج تأثيرات إيجابية أو منعدمة على متوسط أجور العمال في الولايات المتحدة، حتى أن العمال المهاجرين يجعلون العديد من نظرائهم الأميركيين أكثر إنتاجية عبر إتاحة المجال لمزيد من التخصص".

الأهم من ذلك هو أن المهاجرين مبتكرون ورائدون على نحو غير متكافئ. "يمثل المخترعون المهاجرون 23% من جميع براءات الاختراع الممنوحة، وهذه البراءات ذات قيمة اقتصادية أعلى في المتوسط من نظيراتها الممنوحة للمخترعين المولودين في الولايات المتحدة. يذكر أن الجيل الأول من المهاجرين أسس حوالي ربع الشركات الجديدة في الولايات المتحدة؛ فضلاً عن تأسيس مهاجرين أو أبناء مهاجرين لنحو 45% من الشركات على قائمة فورتشن 500".

لا يمكن لاتجاهات مثل انخفاض نسبة الخصوبة وتزايد شيخوخة السكان، واعتلال صحتهم إلى حد ما، وندرة المهاجرين المهرة، إلا أن تؤدي إلى تفاقم حدة المشاكل المالية الصعبة التي تعانيها الولايات المتحدة.

كان ارتفاع تكاليف الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، الذي تفاقم بسبب زيادة تكاليف الرعاية الصحية، هو الدافع الرئيسي وراء العجز الذي ميز الميزانية الفيدرالية هذا القرن كما هو معروف جيداً. لا ينبغي لأحد أن يقلل من حجم المشاكل التي تنتظرنا مستقبلاً في ظل غياب التوازن المالي. يتوقع مكتب الميزانية بالكونغرس ارتفاع مدفوعات الفائدة الصافية على الدين الفيدرالي من 1.6% من الناتج المحلي الإجمالي في الوقت الحالي إلى 8.2% بحلول 2050.

هل أميركا إلى انحدار؟

لقد غادرت أسبن المشمسة أكثر تشاؤماً بشأن آفاق البلد مما كنت عليه لدى وصولي إليها. نحن لا نعانى أسوأ تضخم منذ المرحلة الأخيرة من "التضخم الكبير" بين 1982 و1986 فحسب؛ بل إن اتجاهات التكوين السكاني تعمل ضدنا بشدة. يجعل هذا توقع تحسن نمو الإنتاجية بشكل كبير لإنقاذنا ضرباً من الخيال، خاصةً مع تراجع الآليات الإجرائية المتعلقة بالأنشطة الاقتصادية، مثل إنشاء شركة جديدة وإعادة توزيع العمالة.

هل يعني كل هذا أن القائلين "بانحدار" أميركا كانوا على حق وأن أفضل سنواتنا قد ولت؟ هل الأمر مسألة وقت قبل أن نعترف جميعاً بأن "عالم ما بعد أميركا" أزف، وأن "القرن الصيني" بدأ بالفعل؟ هل يجب أن نعترف بالهزيمة وننسحب تاركين الصين تستحوذ على تايوان؟

حسناً، لا ينبغي لنا الاستسلام لأنه إذا كنت تعتقد أن لدينا مشاكل، فيمكنني أن أؤكد لك أن ما تعانيه منافسة أميركا الرئيسية ليس أسوأ فحسب، بل أسوأ بكثير. بعكس مشاكلنا، فإن الحل المتاح أمام الولايات المتحدة، والمتمثل بإصلاح نظام الهجرة على غرار ما فعلت مناطق أخرى ناطقة باللغة الإنجليزية، ليس حلاً لمشكلات الصين.

تطرح إدارة الشؤون الاقتصادية التابعة للأمم المتحدة، في إصدارها الأخير من تقرير "التوقعات السكانية العالمية"، سيناريوهات متباينة محتملة لنمو الكثافة السكانية في مختلف الدول. في حالة الولايات المتحدة، ستشهد البلاد انخفاضاً في عدد السكان بحلول نهاية القرن بواقع 16%، من 336.5 مليون حالياً إلى 280 مليوناً تقريباً، حسب توقعات بانخفاض نسبة الخصوبة وتوقف الهجرة في سيناريو "الهجرة الصفرية". لكن هذه ليست حالة الأساس بالنسبة للأمم المتحدة، فتعديل متغير الخصوبة إلى متوسط من شأنه زيادة عدد سكان الولايات المتحدة بنسبة 17% ليبلغ 394 مليوناً بحلول 2100، و541 مليوناً في سيناريو معدل الخصوبة المرتفع.

على النقيض من ذلك، لا تطرح الأمم المتحدة أي سيناريو لا ينطوي على انخفاض عدد سكان الصين، حيث توقعت انخفاضه بمقدار الخمس في أحسن الأحوال. تتنبأ الأمم المتحدة بتراجع الكثافة السكانية في حالة الأساس بنسبة 46% إلى 771 مليون نسمة، وانخفاضها بنحو الثلثين إلى 494 مليون في أسوأ السيناريوهات. ستلاحظ أن هذا سيكون أقل من إجمالي تعداد سكان الولايات المتحدة بنهاية القرن في سيناريو معدل الخصوبة المرتفع.

المأزق الصيني

يعد ذلك إعادة نظر رئيسية من الأمم المتحدة، حسبما أشار نيكولاس إبرستادت وبيتر فان نيس من معهد المشروع الأميركي لأبحاث السياسة العامة. فقد توقعت المنظمة الدولية في نسخة التقرير ذاته قبل عشرين عاماً ارتفاع عدد سكان الصين من 1.28 مليار في 2001 إلى 1.43 مليار هذا العام، ثم مواصلة النمو السكاني الصينى ليبلغ ذروة 1.45 مليار في 2031، التي كانت ما تزال موجودة في تقرير التوقعات السكانية العالمية لعام 2019. أما الآن، فستبلغ الصين ذروة النمو السكاني في غضون عامين فقط، وفقاً لآخر متوسط لتوقعات الأمم المتحدة، وسيكون عدد السكان في 2050 أقل بمقدار 100 مليون نسمة مقارنةً بتوقعاتها السابقة.

قطعاً لم يتسبب "كوفيد"، أو أي مسبب آخر لزيادة الوفيات، بهذا التراجع. يمكن العثور على السبب الرئيسي للتغيير في أحدث بيانات المواليد التي نشرها المكتب الوطني الصيني للإحصاء، التي تشير إلى "هبوط مفاجئ وسريع" في أعداد المواليد منذ 2016، على حد تعبير إبرستادت وفان نيس. المفارقة في هذا الإطار هي أن 2016 كان العام الذي طُبق فيه استبدال سياسة الطفل الواحد، التي أدخلها دنغ شياو بينغ في 1979، بسياسة الطفلين. ما يجعل التوقيت في الواقع "غريباً، فضلاً عن كونه غير متوقع". فما الذي يحدث؟

كفت الحكومة الصينية عن إنكار معاناتها من مشكلة ديموغرافية. اعترف يانغ وينتشوانغ، رئيس قطاع السكان باللجنة الوطنية للصحة، الشهر الماضي بأن عدد سكان بلاده سيبدأ في الانكماش قبل 2025، وفقاً لتقرير نشرته صحيفة "غلوبال تايمز" الحكومية. كما نُقل عن هوانغ ون تشانغ من "مركز الصين والعولمة" قوله: "هذه نتيجة حتمية لانخفاض نسبة الخصوبة لفترة طويلة. لذا، يمكن التنبؤ باستمرار انكماش نسبة معدل المواليد في الصين لأكثر من قرن".

لكن حتى هذا الاعتراف يقلل من حجم المشكلة، وفقاً ليي فوشيان من جامعة ويسكونسن في ماديسون، الذي جادل لسنوات بأنه لا ينبغي لنا الوثوق بإحصائيات المواليد الرسمية في الصين. كان فوشيان قد تنبأ في كتابه "بلد كبير بعش فارغ"، الذي حظرته الصين عندما نُشر في 2007، بأن الكثافة السكانية الصينية ستبدأ بالانكماش في 2017، وليس في أوائل 2030. حاجج يي في 2019، استناداً إلى بيانات التلقيح وغيرها من البيانات، بأن عدد سكان الصين بدأ بالتراجع في 2018، أي بعد عام واحد من تقديراته، وثبتت الآن صحة توقعاته.

كانت إدارة شرطة شنغهاي قد سربت خطئاً سجلات أكثر من مليار مواطن صيني في وقت سابق من هذا الصيف، ثم نشر مخترق مجهول عينة مؤلفة من حوالي 750 ألفاً من السجلات المسروقة. قال يي إن تحليله للعينة المسربة قاده لاستنتاج "أن معدلات المواليد بعد 1990 استمرت بالانخفاض بأسرع مما توقع، وأنها في الواقع لم تصل إلى ذروتها في 2004 أو 2011، وهذا يعني أن عدد سكان الصين الحقيقي ليس 1.41 مليار (التعداد الرسمي)؛ بل يمكن أن يكون أقل من تقديراته وهي 1.28 مليار".

عوائق الإنجاب

تحاول الحكومة الصينية مواجهة أزمة الإنجاب، شأنها في ذلك شأن العديد من الحكومات حول العالم. أعلنت الحكومة المركزية في مايو 2021 أنه سيسمح لجميع الأزواج بإنجاب ما يصل إلى ثلاثة أطفال، وأطلقت حملة على مستوى البلاد لزيادة عدد أماكن الحضانات ذات الأسعار المعقولة. تشمل التدابير الجديدة على المستوى المحلي التخفيضات الضريبية على نفقات الأطفال دون سن 3 سنوات، وإعانات الخصوبة، وإجازة الأمومة الممتدة وسياسات الإسكان المواتية للأزواج الذين لديهم أكثر من طفل، وفقاً لصحيفة "بيبولز ديلي".

غير أنه لا يرجح أن تحقق مثل هذه الحوافز نجاحاً في الصين أكثر مما حققته في مناطق أخرى من شرق آسيا كانت قد شهدت انخفاضاً مماثلاً في نسب الخصوبة فيما مضى، بما فيها تايوان وكوريا الجنوبية. تشمل الأسباب الجذرية، كما هو حال الولايات المتحدة، زيادة فرص التعليم والعمل للنساء مقارنة بالتكاليف المتصورة لتربية الأطفال. مع ذلك، تختلف مسببات أزمة الإنجاب في الصين.

أولا، يعد الزواج في حد ذاته فكرة عفا عليها الزمن، حيث تقول 44% من الشابات الحضريات اللائي تتراوح أعمارهن بين 18 و26 عاماً إنهن لا يخططن للزواج، مقارنة مع 25% من شباب المدن، وفقاً لمسح أجرته رابطة الشبيبة الشيوعية في 2021. لدى استبيان الأسباب، قال 61% من المشاركين إنه "يصعب العثور على الشخص المناسب"، بينما قال 46% إن "التكلفة المالية للزواج [كانت] مرتفعة للغاية"، وأفاد 34% بأنهم ليس لديهم "الوقت والطاقة اللازمين للزواج"، فيما قال نحو ثلث المشاركين في الاستطلاع ببساطة إنهم "لا يؤمنون بالزواج"، وهي مشاعر يمكن تفهمها.

من ناحيةٍ أخرى، ارتفعت نسبة الطلاق في الصين خلال العشرين عاماً الماضية بعكس الولايات المتحدة التي شهدت تراجعاً في حالات الطلاق. يساعد كل هذا بإيضاح سبب شعبية وسم "لماذا لا تتزوج؟"، الذي انتشر عبر شبكة "ويبو" (Weibo) الصينية، حيث يضغط الآباء الصينيون في منتصف العمر على أبنائهم للزواج.

لكن تواجه الصين عقبة أخرى وهي الاختلال المزمن في عدد السكان بين الرجال والنساء، ما يعد نتيجة مباشرة للإجهاض الانتقائي للأجنة الإناث الذي أتاحته سياسة الطفل الواحد. كان هناك 5.9 مليون ذكر أكثر من الإناث في فئة حديثي الولادة وحتى سن 4 سنوات في 2018، فيما بلغت نسبة الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاماً 112 رجلاً مقابل كل 100 امرأة في تلك الفئة العمرية. سيتسع هذا الاختلال في العقد المقبل.

رمد خير من عمى

باختصار، أميركا لديها مشكلة خصوبة، لكن الصين تعاني من مشكلة أسوأ بالفعل في هذا الصدد (منذ 1991)، وبينما تعاني أميركا من شيخوخة السكان، فستتفاقم شيخوخة الصين قريباً (ابتداءً من 2034).

هل يعني هذا أن التحدي الصيني للتفوق الأميركي سيتلاشى ببساطة؟ ليس بالضرورة. لقد سمع معظمنا عن "يوم العزاب"، الذي يصادف يوم الحادي عشر من نوفمبر. يشكل هذا الاحتفال الصيني منفرداً أكبر حدث للتجارة الإلكترونية في العالم حالياً. بلغت المبيعات المجمعة لمجموعة "علي بابا" القابضة وشركة "جيه دي. كوم" (JD.com) فيه 139 مليار دولار في العام الماضي، ما يخط رقماً قياسياً جديداً. لكن الاحتفال في الواقع يسمى بالصينية "عطلة الفروع الجدباء".

لا ينتمي المسمى السابق للعامية الصينية على الإنترنت، بل هو مصطلح يعود تاريخه إلى عهد أسرة مينغ على الأقل، حيث درج استخدامه لوصف الرجل غير المتزوج الذي لا يضيف مزيداً من الفروع إلى شجرة العائلة. غالباً ما كان يُنظر إلى الفروع الجدباء في الإمبراطورية الصينية على أنهم مثيرو شغب؛ بل حتى متمردين محتملين. يعتبر العلماء الغربيون، مثل فاليري هدسون وأندريا دين بوير، اليوم أن فائض الصين من الشباب يشكل سبباً محتملاً للصراع المحلي والدولي، فلتحذر تايوان.

قد تعتقد أن هذا يظهر فقط أن إيلون ماسك كان على حق مرة أخرى. في محادثة مع مؤسس شركة "علي بابا" جاك ما خلال المؤتمر العالمي للذكاء الاصطناعي الذي أقيم في شنغهاي في أغسطس 2019، عرج الملياردير الأميركي على أزمة الإنجاب. فقال ماسك: "يعتقد معظم الناس أن لدينا عدداً كبيراً جداً من الأشخاص على هذا الكوكب، لكن هذه في الواقع وجهة نظر عفا عليها الزمن. بافتراض وجود مستقبل نافع يلوح في ظل الذكاء الاصطناعي، فإن أكبر مشكلة سيواجهها العالم خلال 20 عاماً ستكون الانهيار السكاني وليس الانفجار .. الانهيار".

أجاب ما: "أتفق مع ذلك تماماً. ستكون مشكلة السكان [تحدياً كبيراً]. يبدو 1.4 مليار شخص في الصين كثيراً، لكنني أعتقد أنه خلال العشرين عاماً المقبلة سنرى أن هذا الأمر سيجلب مشاكل كبيرة للصين". (يمكنك أن ترى لماذا لم يعد مفضلاً لدى الرئيس شي جين بينغ).

مع ذلك، كان الغريب في هذه المحادثة هو معرض حديث ماسك التالي، حيث قال: "الرد المشترك هو: حسناً، ماذا عن الهجرة؟ ومن أين؟".

أفريقيا لديها الحل

يغفل هذا السؤال على نحو غريب قارة أفريقيا، مسقط رأس ماسك. مهم أن نتذكر أنه رغم شدة سوء الاتجاه السكاني في شرق آسيا، فإن الأمم المتحدة لا تتوقع حدوث انهيار سكاني عالمي خلال العقود الستة المقبلة، ناهيكم عن عقدين. ما يزال من المتوقع ارتفاع إجمالي تعداد السكان عالمياً، وفقاً لسيناريو الأمم المتحدة للتغيير المتوسط، من 7.88 مليار هذا العام إلى 10 مليارات في 2059، ولن يبلغ ذروته حتى يصل إلى 10.43 مليار في 2086. ستأتي 95% من هذه الزيادة المتوقعة من جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا.

حتى لو صدق ماسك سيناريو الأمم المتحدة الأكثر تشاؤماً على أساس تراجع نسبة الخصوبة، وفيه يبدأ عدد سكان العالم بالانخفاض في 2054، فإن عدد سكان أفريقيا جنوب الصحراء سيستمر في الارتفاع. لا يتضح سبب غياب فكرة هجرة جماعية من أفريقيا إلى بقية العالم في أي من السيناريوهين. إما أن ماسك يتوقع أن تنخفض الخصوبة الأفريقية بأسرع من معظم الخبراء الديموغرافيين، أو أنه يتوقع أن تضرب كارثة كالتي تتصورها نظرية توماس مالتوس القارة السمراء. قد يكون هذا هو ما يدور في خلده نظراً للتداعيات الوخيمة لتغير المناخ في معظم أنحاء أفريقيا.

لكن دعونا نترك مناقشة مسألة طفرة المواليد في أفريقيا إلى مقال آخر. لقد ظهرت أزمة إنجاب في معظم أنحاء العالم، أو باتت قاب قوسين أو أدنى. كل ما في الأمر أن بعض الدول تعاني من الأزمة أكثر من غيرها. إذا أصلح نظام الهجرة، فستخرج الولايات المتحدة من كبوتها دون مساعدة إلى حد كبير. لكن هذا لا يعد خياراً بالنسبة للصين لسبب بسيط، وهو أنه لا أحد من المهاجرين المحتملين في العالم يرغب بالانتقال إليها.

صحيح أن التركيبة السكانية لا ترسم مصائر الدول. لكن بالنظر إلى النزاع الدائر بشأن تايوان، فإنها ليست شيئاً لا يذكر.

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
هذا المقال لا يعكس موقف أو رأي "الشرق للأخبار"وهو منشور نقلا عن Bloomberg Mediaولا يعكس بالضرورة آراء مجلس تحرير Bloomberg أو ملاكها
تصنيفات

قصص قد تهمك