المصدر: بلومبرغ
كتبت: فيفيان نيريم
7 يوليو 2022
بعد سنوات قليلة، قد يسافر مدير تنفيذي أميركي إلى السعودية مستقلاً طائرة مملوكة لشركة أسسها الصندوق السيادي الخاص بالمملكة، ويغادرها ليطلب سيارة أجرة من "أوبر"، الشركة التي يمتلك فيها نفس الصندوق حصة 4%، وأثناء تنقله داخل العاصمة، قد يحجز غرفة في فندق صغير، داخل قصر سابق، مملوك أيضاً للصندوق.
وبعد حضور المؤتمر السنوي لصندوق الاستثمارات العامة، يمكنه أن يحتسي القهوة التي تم زراعتها في مشروع بقيادة الصندوق، وتوقيع صفقة مع شركة دفاعية، مملوكة للصندوق أيضاً. وفي المساء، قد يتناول ذلك المدير التنفيذي وجبة عشاء ويشاهد فيلماً داخل أحد المجمعات التي تم تطويرها بواسطة الذراع الترفيهية للصندوق، ثم يغادر مستقلاً الطائرة عائداً إلى الوطن، دون أن يقوم بأي عمل لا يرتبط بصندوق الاستثمارات العامة.
وفيما يسارع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لتنويع اقتصاد المملكة المعتمد على النفط، يحتل صندوق الاستثمارات العامة الذي يترأسه الأمير صدارة المشهد، ويحل محل رجال الأعمال من العائلات العريقة، ليصبح أحد أقوى المؤسسات في اقتصاد يشهد تغيرات متسارعة. تبلغ قيمة أصول الصندوق 620 مليار دولار.
المملكة المحافظة التي كانت تعتمد على عائداتها النفطية، وتستثمر بحذر في سندات الخزانة الأميركية الآمنة، وتوزع العقود الحكومية المربحة على الشركات في السوق، باتت تشهد انحساراً؛ بينما تبرز "السعودية المؤسسة"، فيما يتخلى مؤسسها عن كافة القواعد التقليدية.
في غضون خمس سنوات، أصبح صندوق الاستثمارات العامة مستثمراً دولياً رئيسياً، واقتنص حصصاً في شركات كبرى تعمل في الولايات المتحدة مثل "أوبر". كما استثمر في السيارات الكهربائية، ودخل في مجال الرياضة، بعدما اشترى فريق كرة القدم البريطاني "نيوكاسل يونايتد"، واستثمر 200 مليون دولار في مشروع دولي رائد للغولف.
يمنح ذلك الأمير محمد بن سلمان نفوذاً أكبر على الساحة الدولية، حيث يتطلع المسؤولون الغربيون إلى أكبر الدول المصدرة للنفط في العالم، لمساعدتهم في تخفيف حدة التضخم المستعر، وضخ عائدات النفط في الاقتصاد العالمي المتعثر.
يزور الرئيس الأميركي جو بايدن الرياض منتصف يوليو الجاري، بعد أن اضطر إلى إعادة النظر بشأن وعده السابق بجعل محمد بن سلمان منبوذاً بعد مقتل جمال خاشقجي، كاتب الرأي في "واشنطن بوست" عام 2018.
ركيزة إستراتيجية التنويع
داخلياً، كان لصندوق الاستثمارات العامة تأثير أكبر، حيث اعتمد نهج تحويل الاقتصاد معتمداً على تعزيز رأسمالية الدولة. يهدف الصندوق إلى استثمار ما لا يقل عن 40 مليار دولار سنوياً داخل المملكة، وأسّس بالفعل 54 شركة جديدة، تعمل في قطاعات متنوعة تمتد من العقارات إلى الرحلات البحرية الفاخرة.
ويقول منتقدون إنه جزء من تراكم أوسع للسلطة شهد سيطرة الأمير محمد على السياسة النفطية والأمن والشؤون الداخلية والخارجية وسجن النقاد وإسكات الأصوات المستقلة. أثار المسؤولون التنفيذيون السعوديون أيضاً مخاوفهم، قائلين إنهم شعروا بداية بأن هناك كياناً ثرياً على علاقة بالسلطة لا يستطيع التنافس معه إلا القلة.
قال ستيفن هيرتوغ، الأستاذ المساعد في كلية لندن للاقتصاد: "لا يهتم محمد بن سلمان كثيراً بالهياكل الموروثة سواء من الدولة السعودية أو قطاع الأعمال السعودي، ويسعى لبناء السعودية الجديدة". ويضيف: "لقد قام بإعادة هيكلة كاملة لصندوق الاستثمارات العامة وتحويله إلى ركيزة أساسية لتنفيذ إستراتيجيته للتنويع الاقتصادي، متجاوزاً معظم المؤسسات الحكومة القائمة، وبشكل أوضح، القطاع الخاص القوي".
اقرأ أيضاً: السعودية ستحتفظ بعائدات النفط للعام المقبل
تأسس صندوق الاستثمارات العامة عام 1971 تابعاً لوزارة المالية، وكانت مهمته في البداية تقديم قروض لتطوير الاقتصاد، وامتلاك حصة كبيرة في سوق الأسهم السعودية، لكنه لم يكن معروفاً في الخارج.
في مارس 2015، "ولد الصندوق من جديد"، حسب المذكور على موقعه الإلكتروني على الإنترنت، ووضع تحت قيادة الأمير محمد بن سلمان.
من بين آلاف الأمراء، رأى الأمير محمد بن سلمان نفسه قادراً على إحداث التغيير. فقد كان يبلغ من العمر 29 عاماً، عندما أصبح والده ملكاً، وكان يتطلع وقتها إلى رواد الأعمال في مجال التكنولوجيا، مثل ستيف جوبز، ومارك زوكربيرغ كنماذج يُحتذى بها، حسبما صرح لبلومبرغ عام 2016. حيث قال وقتها: "إذا كنت أعمل وفقاً لطريقتهم، فماذا يمكن أن أبتكر؟".
وبينما بدأ الأمير في توسيع سلطته بشكل كبير، أصبح صندوق الاستثمارات العامة ركيزة أساسية لتحقيق ذلك التوسع، وأتاح له تلك الفرصة لتطوير السعودية الجديدة، التي تشبه شركات التكنولوجيا الناشئة أكثر من الشركات البيروقراطية بطيئة الحركة كما كانت قبل ذلك.
عيّن الأمير ياسر الرميان، المصرفي السعودي، محافظاً للصندوق. وبعد عام، ومع إطلاق رؤية 2030 لإصلاح الاقتصاد السعودي وإنهاء اعتماده على النفط، أصبح صندوق الاستثمارات العامة في صدارة المشهد. وقال محمد بن سلمان إن قيمة أصول الصندوق ستزيد عن تريليوني دولار بحلول عام 2030، ما يجعله أكبر صندوق ثروة سيادي في العالم.
منذ 2017، حين أصبح ولياً للعهد بدل ابن عمه، ضاعف صندوق الاستثمارات العامة بقيادة الأمير محمد بن سلمان حجمه. وتم ذلك بشكل جزئي عن طريق تحويلات من البنك المركزي، وطرح حصة في شركة النفط العملاقة "أرامكو" عبر اكتتاب عام أولي.
وسط ذلك التغير، زاد نفوذ الصندوق وتفوق على مراكز القوة السابقة مثل وزارة المالية، ووزارة الاقتصاد، والبنك المركزي، ليصبح المحرك الرئيسي للنمو في البلاد. وسبّب ذلك التوسع غضباً وسط نخبة رجال الأعمال.
النفط يدرّ على خزينة السعودية مليار دولار يومياً
كانت السعودية منذ تأسيسها ذات نظام ملكي. لكن قبل عقد، كانت السلطة لامركزية بشكل كبير، كما تمتع رجال الأعمال الكبار بقدر من التأثير.
تعرضت طبقة رجال الأعمال القديمة لضربة قاسية عام 2017 عندما شن الأمير محمد حملة مثيرة للجدل لمكافحة الفساد، واعتقل العشرات من أفراد العائلة المالكة، ورجال الأعمال، والمسؤولين السابقين في فندق "ريتز كارلتون" بالرياض. وتم توجيه الاتهامات لمعظمهم بشأن معاملات غير قانونية، والضغط عليهم لتسليم أصول، ليتم الإفراج عنهم بعد ذلك مع منعهم من السفر إلى الخارج.
الأمير الوليد بن طلال الذي طالما كان من بين قائمة أغنى الرجال في العالم، أُقصي من قائمة "فوربس" للمليارديرات عام 2018، بسبب الافتقار إلى الشفافية بشأن ما حدث لثروته، كما لم يغادر البلاد منذ إخلاء سبيله من فندق "ريتز كارلتون"، رغم تصريحه لبلومبرغ بعد ذلك بوقت قصير أنه لا يحمل مشاعر سلبية تجاه ما حدث. في مايو، استحوذ صندوق الاستثمارات العامة على 16.87% في "المملكة القابضة" (التابعة للوليد).
ويبدو أنه قد تم وقف العمل في ناطحة السحاب التي كان يبنيها (الوليد بن طلال) ويُنظر إليها في السابق على أنها أطول برج في العالم. حيث تم الانتهاء بشكل جزئي من هيكل المبنى، ما يعكس تغير الأولويات في عهد ولي العهد الذي أطلق مشاريع عملاقة جديدة عن طريق صندوق الاستثمارات العامة. ويُعدّ مشروع "نيوم"، المدينة الجديدة المستقبلية التي يبنيها على البحر الأحمر، الأكثر طموحاً بين تلك المشروعات.
الطريق نحو 2030
رغم ظهور نخبة جديدة، من بينها الرميان، لكنها تفتقر حتى إلى قدر محدود من الاستقلالية كالتي كانت تتمتع بها النخبة القديمة، حيث يدين كل شيء لمحمد بن سلمان ويلازمه باستمرار.
الرميان: الاستثمارات الجديدة ستشكل 21% من أصول صندوق الاستثمارات العامة بحلول 2025
يقول أندرو ليبر، الباحث في جامعة هارفارد، الذي يركز على الاقتصاد السياسي في الشرق الأوسط، إن المسؤولين السعوديين يريدون غرس "روح الرأسمالية بين السكان، لكنهم لا يريدون بالضرورة قطاعاً خاصاً قوياً ومستقلاً".
ويضيف ليبر: هناك شعور مسيطر بشكل متنام. وكأن لسان حالهم يقول لماذا نحتاج القطاع الخاص؟ فلو تمكنا من الاستثمار مباشرة في الشركات الكبرى، سيغنينا ذلك عن الحاجة للمساومة مع الشركات المملوكة لعائلات كبيرة.
لا يعد نهج الإدارة الهرمي من أعلى لأسفل أمراً جديداً على السعودية، فقد اعتمدت الشركات العائلية على مدار عقود على العقود الحكومية المربحة.
عندما كشف محمد بن سلمان عن رؤية 2030، دعا إلى التحول إلى اقتصاد السوق. لاقت تلك الفكرة تأييداً من مستشاري الإدارة والمصرفيين الاستثماريين، الذين أصبحوا مستشارين رئيسيين. ومنذ ذلك الحين، نفذت السعودية إصلاحات في سوق رأس المال، وأزالت المعوقات أمام الاستثمار الأجنبي، وبدأت خصخصة مؤسسات الدولة. لكن صندوق الاستثمارات العامة كان خلف عجلة القيادة.
ركوب تسونامي
تم التعبير عن القلق في وقت مبكر من عام 2018، عندما واجه الملياردير الكويتي محمد الشايع الوزراء السعوديين خلال حلقة نقاشية في مؤتمر دافوس، وتساءل إذا كانوا يحفزون الشركات الخاصة أو يتنافسون معها.
في الواقع، يغادر أصحاب الكوادر المهنية القطاع الخاص بأعداد كبيرة للانضمام إلى صندوق الاستثمارات العامة والشركات التابعة له، سعياً وراء رواتب لا يمكن للقطاع الخاص التنافس بشأنها.
رداً على سؤال حول نهج صندوق الاستثمارات العامة، قال متحدث باسم الصندوق في رد مكتوب: "يتعلق الأمر بتطوير قطاعات واستراتيجيات أعمال ليست محل اهتمام للقطاع الخاص في الوقت الحالي، حيث يسعى صندوق الاستثمارات العامة إلى تمكين ودعم القطاع الخاص لإجراء ذلك التحول".
قال أحد المسؤولين التنفيذيين السعوديين طلب عدم الكشف عن هويته إنه قد شعر في البداية بقلق وصل إلى الغضب، مع توسع صندوق الاستثمارات العامة، الذي ينفق مليارات الدولارات لم يكن رجل مثله أن يحلم بإنفاقها.
لكنه ومنذ ذلك الحين غير رأيه قائلاً إن الصندوق أطلق اقتصاداً جديداً متخطياً نظاماً منهاراً لم يكن مناسباً لعالم رقمي يعتمد على العولمة.
وبينما كان جالساً بالقرب من حمام السباحة في فيلته الحديثة في الرياض، شبّه المدير التنفيذي السنوات القليلة الماضية بـ"ركوب تسونامي" قائلاً إنه اضطر إلى إدارة عمله الخاص بقوة أكبر، وقد نجح في التكيف والصمود.
في دافوس عام 2018، رد وزير المالية محمد الجدعان على الشايع قائلاً إن الصندوق يؤسس بيئة أعمال يمكن للقطاع الخاص الانضمام إليها.
وأوضح الجدعان في حينه : "ما تفعله الحكومة هو الاهتمام بقطاعات وصناعات واستثمارات معينة كبيرة للغاية أو جديدة لا يمكن للقطاع الخاص تحمل ما تحمله من مخاطر".
يشير العديد إلى صفقة شراء صندوق الاستثمارات العامة حصة مسيطرة في شركة صناعة السيارات الكهربائية الأميركية "لوسِد موتورز" باعتبارها نموذجاً لكيفية الاهتمام بالصناعات غير النفطية، التي لم تكن لتنطلق لولا ذلك النوع من الاستثمارات.
عانت السعودية على مدار سنوات في محاولة لإقناع شركات تصنيع السيارات بفتح مصانع في البلاد. لكن في فبراير الماضي، وقعت "لوسِد موتورز" على صفقة تقضي بالقيام بذلك، ما قد يشجع الآخرين على اتباع نفس المسار.
في بيان تمّ إرساله عبر البريد الإلكتروني، قال صندوق الاستثمارات العامة إنه يعمل "كمستثمر مؤسس" لتمكين القطاع الخاص و"تعزيز دوره". وأشار الصندوق إلى الاستثمار في 13 قطاعاً تمتلك القدرة على تقديم ميزة تنافسية إقليميا وعالمياً، وتحقيق عوائد، وتوطين الوظائف، وتسريع وتيرة نقل المعرفة إلى المملكة.
لعبت الدولة دوراً حاسماً في بناء الاقتصادات حول العالم، بما في ذلك القوى الاقتصادية الكبرى مثل الصين وكوريا الجنوبية. لكن الاقتصاديين يقولون إن الدولتين بدأتا التحول إلى التصنيع كمجتمعات منخفضة الدخل، ولديها عدد سكان كبير، وعمالة محلية أرخص. أما السعودية فهي دولة ذات دخل متوسط إلى مرتفع، ولا توجد لديها سابقة بشأن إعادة تشكيل اقتصاد يعتمد على النفط بالتزامن مع الاحتفاظ بمستوى المعيشة.
تقول كارين يونغ، الزميلة في معهد الشرق الأوسط في واشنطن إن دور الصندوق مهم كحاضنة وقوة للتحوّل. لكن السؤال يبقى، متى يتمّ إنجاز المهمة؟