طالب بتحقيق مبدأ "الاعتماد على الذات" في منتدى سان بطرسبرغ الاقتصادي الدولي

نقاط ضعف في استعراض بوتين قوته الاقتصادية

بوتين متحدثا في منتدى سان بطرسبرغ الاقتصادي الدولي  - المصدر: بلومبرغ
بوتين متحدثا في منتدى سان بطرسبرغ الاقتصادي الدولي - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

- مقال رأي

وعد الكرملين بأنَّ ظهور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في اليوم الثالث من منتدى سان بطرسبرغ الاقتصادي الدّولي سيكون تدخلاً "بالغ الأهمية". وقد كان. إذ قدّم الزعيم الروسي من خلال خطابه الطويل، وهو أمر نادر الحدوث منذ غزوه لأوكرانيا، عرضاً هجومياً ساخناً مليئاً بالتحدي وإلقاء اللّوم على الآخرين. ومن جهة، كان خطابه بمثابة لقطة لافتة لحالة ذهنية لا تدع مجالاً للأمل في التوصل إلى حلٍّ وسط بين الأطراف المتنازعة. ومن جهة أخرى؛ كان استعراضاً مذهلاً للضعف الذي لم يستطع حتى التهديد الرئاسي الصاخب أن يخفيه.

خطابٌ لا بُدّ منه

أولاً، على مستوى السياق: تجنّب بوتين الخطابات العامة رفيعة المستوى على مدى الأشهر الأربعة الماضية، وأبقى خطابه بمناسبة يوم النصر موجزاً، كما قام بتأجيل عدد من الحوارات المدرجة على جدول أعماله، مثل جلسة الأسئلة والأجوبة المباشرة على شاشات التلفاز، وهي بمثابة سباقٍ يستغرق عدة ساعات، وتشكّل الجلسة جزءاً أساسياً من المسرح السياسي للكرملين والجهود المبذولة سعياً إلى تلميع صورة الرئيس الروسي كبطريرك خيّر وعطوف. لذلك؛ فإنَّه لأمر مهم أن يتقدم بوتين ويلقي خطابه الرئيسي في تجمع استثماري لطالما وصفته روسيا بأنّه يمثل ردّها على منتدى دافوس، الذي يجمع نخبة من قادة العالم في جبال الألب، حيث استهزأ بوتين في خطابه بالغرب.

ومع ذلك، فمن الصعب الهروب من حقائق الواقع. لم يكن المنتدى هذا العام ("عالم جديد ، فرص جديدة") باهتاً فحسب؛ بل اعتُبر سيئاً لدرجة أنَّ الحاضرين سعوا إلى عدم إظهار المعلومات الشخصية على شارات المشاركة. ورداً على التساؤلات المطروحة حول الحضور؛ أشار الكرملين إلى أنَّ المستثمرين الأجانب يوجدون خارج الولايات المتحدة وأوروبا. ولكنَّ وجود ممثلين عن قيادة طالبان الأفغانية والبنك المركزي في فنزويلا، بالكاد يشير إلى قائمة ضيوف مكتظة بالمستثمرين المحتملين الذين ينتظرون استثمار أموالهم في اقتصادٍ معزول بشكلٍ كبيرٍ. ربما لم يكن من المفيد أن يُطلب من الحاضرين القادمين من الخارج إحضار أموالهم نقداً بسبب القيود المفروضة على بطاقات المصارف الأجنبية.

ألقى كلٌّ من الرّئيس الصيني شي جينبينغ والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أبرز المتحدثين الحكوميين من خارج الدول السوفيتية السابقة، كلمةً افتراضية عبر رسائل الفيديو خلال المنتدى الذي انعقد يوم الجمعة. وقد يكون ذلك ضرورياً، لكنَّه لا يقارن مع الزيارات الشخصية التي سيقوم بها قادة فرنسا وإيطاليا وألمانيا ورومانيا إلى كييف يوم الخميس وبحضور رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في اليوم التالي. كما تمت التوصية أيضاً بترشيح أوكرانيا للاتحاد الأوروبي، وهي خطوة مبكرة في طريقٍ طويلة للانضمام، لكنَّها تُظهر الدّعم في الوقت المناسب.

انتقادات قويّة

أمّا بالنسبة إلى خطاب بوتين. في بعض النواحي؛ وجّه بوتين من خلال خطابه الطويل والمحتدّ مجموعة من الضربات التي طالت بعض الأطراف. فقد ذكر في خطابه أنَّ الولايات المتحدة تعتبر نفسها "مبعوث العناية الإلهية على الأرض"، إذ تفرض وجهات نظرها حول الأخلاق والثقافة والتاريخ، بينما ترقص بروكسل على أنغام واشنطن. وقد اضطرت روسيا إلى شنّ "عمليتها العسكرية الخاصة" بسبب فشل الغرب في الالتزام بالضمانات الأمنية. كما أنَّ العقوبات المتشدّدة التي فُرضت بشكلٍ "جنوني" هي ("سيف ذو حدين")، تُلحقُ الضّرر بالدول المتحالفة أكثر بكثير من روسيا نفسها، مُشيراً إلى أنَّ الشركات التي انسحبت من البلاد ستعود حتماً. في الوقت نفسه، حمّل الإجراءات الغربية وما أشار إليه بـ"آلات طباعة النقود" التي يعتمدونها مسؤولية التضخم الراهن. وتطرق في خطابه للإشارة إلى المشاعر المعادية لروسيا، والدعوات إلى توسيع الأسر الروسية، والالتفاف بالحديث حول ضعف المجتمع الغربي، ومدح الصين، والوعود بمساعدة العالم الناشئ.

تخلّل المنتدى جو العداء، ولم يكن هناك أي تلميح يُبشّر بالرغبة في البحث عن "المخارج" الدبلوماسية التي اقترحتها بعض الدول الغربية سعياً لإنهاء الحرب في أوكرانيا. إذ أكّد بوتين حلّ جميع مهام العملية العسكرية دون إعطاء أي تفصيل يُحدّد هذه المهام بالضبط. كان خطابه أمام جمهورٍ اقتصادي بهدف الإعلان عن إمكاناته. فلا يمكن لأي خطاب خلال هذا المنتدى - ناهيك عن النقاشات حول "الفرص الجديدة"، والالتفاف حول الحرب الأوكرانية – إخفاء هذه الثغرات أو التستّر عليها.

الاعتماد على الذات

ساعدت كفاءة إدارة الاقتصاد الكلي في روسيا على احتواء التداعيات المالية الناجمة عن العقوبات، وتحقيق الاستقرار في النظام المصرفي، ودعم عملة البلاد. لكن الاقتصاد الحقيقي دون الأخذ بعين الاعتبار النمو طويل الأجل وعملية تحويل روسيا إلى وجهة جذابة- فهذه مسألة أخرى تماماً. حدّد خطاب بوتين كل مشكلة بشكل مفصّل، فقد أشار إلى أنَّ الاعتماد على الذات أمر ضروري، لكنَّه ليس حلاً لضمان القدرة التنافسية أو التوسع. كما وعد بوتين أنَّ حكومته ستراهن على تحقيق الانفتاح ("روسيا لن تتبع أبداً طريق العزلة الذاتية")، كما زعم أنَّ المشاريع الخاصة، والعدالة الاجتماعية، والبنية الأساسية، والابتكار ليست "مبادئ" في روسيا بوتين. فهي أحلام وهمية في بلدٍ تُزاحم فيه مشاريع الدولة المشاريع الأخرى وتطردها، وغرور وهوس الحكومة يلقي بظلاله الثقيلة على البحث العلمي ويضعف الإنفاق، كما أصبح الابتكار كفاحاً صعباً داخل البلاد، فضلاً عن تقويض المعايير التعليمية. وتسارعت وتيرة هجرة العقول التي شهدتها البلاد منذ عودة بوتين إلى الرئاسة في عام 2014. بينما تبدو تطلّعات بوتين بجعل روسيا ومناطق الجمال فيها ملاذاً للسياحة، بعيدة المنال.

مصلحة روسيا أولوية قصوى

تجدر الإشارة إلى أنَّ روسيا لا تواجه نقصاً في الإيرادات بفضل استمرار صادراتها من الطاقة. أمّا بالنسبة للشركات الخاصة – حيث قدّر كلّ من بوتين ومحافظة البنك المركزي الروسي إلفيرا نابيولينا بشكل صحيح أنَّها شديدة الأهمية – فتكمن المشكلة وراء إجراءات الحكومة التسلطية والمتشدّدة، ولا يتغيّر ذلك حتى في ظلّ مقترحات إلغاء معظم عمليات التدقيق، ولن يعود الطلب المصطنع الذي تخلقه الدولة بالفائدة على عمليات الابتكار.

عدد قليل من الأشخاص سيطمئن إلى فكرة أنَّ "كل مبادرة خاصة تصبّ في مصلحة روسيا يجب أن تتلقى القدر الأقصى من الدعم، ومساحة كبيرة للتنفيذ" (التشديد من عندي).

أخذ بوتين على سبيل المثال شركة "كاماز" (Kamaz) لصناعة الشاحنات للإشارة إلى جهود المنتجين المحليين المبذولة لتوفير قطع الغيار الضرورية؛ إذ تُعتبر صناعة السيارات، التي واجهت الكثير من التحديات الناجمة عن أزمة سلاسل التوريد، مثالاً على نوع الانزلاق التكنولوجي الذي يجب على روسيا أن تحذره، حيث تخفّض البلاد قواعد السلامة سعياً إلى الالتفاف حول المكونات المفقودة ودعم الإنتاج المحلي، مع خسارة رأس المال البشري المترتب عليها.

كما أوضح الرئيس الروسي للحضور مدى أهمية البقاء في الوطن، داعياً الأوليغارشيين الروس الذين تجمّدت ثرواتهم بسبب العقوبات الغربية المفروضة عليهم للعودةِ إلى استثمار أموالهم مرة أخرى في روسيا. وقد يستجيب بعضهم لهذه الدعوة، لكن لن تكون رؤية بوتين للاعتماد على الذات هي العامل الجاذب لهم.

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
هذا المقال لا يعكس موقف أو رأي "الشرق للأخبار"وهو منشور نقلا عن Bloomberg Mediaولا يعكس بالضرورة آراء مجلس تحرير Bloomberg أو ملاكها
تصنيفات

قصص قد تهمك

الآراء الأكثر قراءة