اعتمدت الأسر الصينية لعقود طريقة لتنمية ثرواتها وضمان استقرارها المالي مستقبلاً، وهي استثمار معظم أموالها في العقارات وتوظيف البقية في سوق الأسهم.
لكن يتشبث الآن من لديهم فائض من المال به ولا يرغبون بالمجازفة باستثماره في الاقتصاد الصيني الذي ضربته تداعيات أزمة "كوفيد".
كانت أسعار المنازل الصينية قد واصلت انخفاضها منذ سبتمبر، كما لم يعد الاستثمار في الأسهم الصينية والصناديق المشتركة رهاناً جيداً، وليست هناك فرص كثيرة متاحة للوصول إلى الأسواق العالمية، كما أن تداول العملات المشفرة غير قانوني. اتجه الصينيون بدلاً من كل ذلك لادخار أموالهم في حسابات التوفير بصورة متزايدة، رغم إبقاء الحد المعياري للفوائد على الودائع الادخارية عند مستويات منخفضة قياسية.
قال هاري كونغ، المسؤول التنفيذي بأحد بنوك شنغهاي، إن كامل مكاسبه المحققة في سوق الأسهم خلال العام الماضي شُطبت، مشيراً إلى أنه لم يشعر بهذا القدر من التشاؤم خلال 20 عاماً أمضاها يستثمر في أسواق الأسهم. بيّن كونغ: "ما يمكنني فعله هذا العام هو الاستلقاء وإيداع مدخراتي في البنوك الكبرى. بغض النظر عن مدى انخفاض الفائدة على الودائع، إلا أنها تشكل خياراً آمناً على الأقل".
يعيش كونغ وغيره من الصينيين في إحدى أصعب البيئات وأكثرها غموضاً من حيث التخطيط للمستقبل، حيث علقت معظم المدن الصينية الكبرى بقيود لمواجهة "كوفيد" لا تلوح لها نهاية واضحة في الأفق.
تفاوت التوقعات
بينما يتوقع بعض المحللين نمو الاقتصاد الصيني بأكثر من 4%، يرى اقتصاديو "بلومبرغ" أنه سينمو 2% فقط، وهو أقل بكثير من هدف الحكومة البالغ 5.5%. تمر الأسهم الصينية في خضم سوق هابطة، وانخفض مؤشر شنغهاي شنجن "سي إس أي 300" (CSI 300) القياسي بنسبة 18% حتى الآن هذا العام، حيث يسهم تضافر سياسة "صفر كوفيد" الصارمة مع حملة القمع التي تشنها الحكومة ضد الشركات الخاصة بتقويض ثقة المستثمرين.
قال وي هي، خبير الاقتصاد في "غافيكال ريسيرش" (Gavekal Research) في بكين: "بغض النظر عما إذا كنت من أصحاب الثروات الضخمة، أو أنك لا تتمتع بهكذا ثراء، فقد ولى الزمن الذهبي الذي يمكنك من إيداع أموالك وترك ثروتك تنمو".
قال كلاودي ين، الذي بلغ عمره 45 عاماً ويقيم في شنغهاي: "لا توجد خيارات استثمارية أخرى. ليس لدي خيار سوى الانتظار والترقب".
نحو 90% من مدخرات ين مقيدة في سوق العقارات والبقية في سوق الأسهم. رغم عدم اليقين الذي يكتنف سوق العقارات، فقد قال ين إنه لن يحاول تحويل مزيد من ثروته إلى أسهم في الوقت الحالي. يرى أن أي من الخيارين سيكون عرضة لتغييرات مفاجئة في سياسة الحكومة.
قد ساعد هذا الشعور في دفع ودائع الادخار بالبنوك الصينية إلى 109.2 تريليون يوان (16.3 تريليون دولار) في نهاية أبريل. كما زادت الودائع الادخارية في الصين، التي لديها أحد أعلى معدلات الادخار في العالم، 7% خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام، مقارنة مع 5.5% خلال الفترة ذاتها من العام الماضي.
نظام تقاعد متخلف
كان شراء منزل ليرتفع سعره هو الطريقة الأضمن للصينيين من معظم الطبقات الاجتماعية والاقتصادية للاستثمار المستقبلي مع تطور الاقتصاد الصيني وازدهاره في العقود القليلة الماضية وبالنظر إلى نظام المعاشات التقاعدية المتخلف. يبقى بالتالي أكثر من 70% من ثروات الصينين مقيداً بقطاع العقارات.
انقلبت هذه الصورة رأساً على عقب العام الماضي مع محاولة الحكومة الحد من الاقتراض المفرط والمضاربة في سوق الإسكان. عصف بالقطاع تخلف مطورون رئيسيون عن السداد ومنهم مجموعة "إيفرغراند"، التي هزت ثقة المستثمرين وأدت لانخفاض أسعار بيع المنازل الجديدة. كما هوت معدلات نمو القروض العقارية محققةً أبطأ وتيرة لها على الإطلاق في نهاية مارس.
كانت بكين تحاول تطوير أسواق رأس المال الصينية، ومن المحتمل أن يسمح الحد من المضاربة العقارية بتدفق مزيد من المال لأسواق الأسهم أو المنتجات المالية الأخرى على المدى البعيد. لكنه لا يُرجح أن يكون لبيئة توليد الثروة الحالية أثراً فورياً في هذا الصدد، وفقاً لما قاله هي، الاقتصادي في "غافيكال". كما أن الاضطراب الأخير الذي شهدته سوق الأسهم لا يفيد أيضاً.
يعزى جزء من هذا التراجع في أداء أسواق المال لدفع الرئيس شي جين بينغ من أجل "الرخاء المشترك"، وهي حملة واسعة النطاق أدت لاتخاذ إجراءات صارمة ضد بعض الصناعات وبعض النخب الصينية بغية معالجة اختلال توزيع الثروة. استنفدت هذه التحركات ثقة المستثمرين، وشطب ما لا يقل عن تريليون دولار من القيمة السوقية لقطاع التقنية، الذي كان قد شهد ازدهاراً كبيراً في الصين فيما مضى.
خيار آمن
قال لي مينغ، صاحب مصنع أحذية صغير في مدينة تايتشو على بعد 400 كيلومتر عن شنغهاي، إن البنك هو المكان الأكثر أماناً لادخار أمواله. أردف أن إيداعها لدى البنك لن يكون الاستثمار الأحنك، لكنه يعتقد أنه خيار آمن. يخطط صاحب مصنع الأحذية لتسييل حيازاته من منتجات إدارة الثروات بأسرع ما يمكن ليودع ماله لدى البنك. كان مينغ قد استثمر 60% من مدخراته في تلك المنتجات التي تقدمها البنوك كمدخل يسير للاستثمار بالنسبة لعديد من الأسر التي لا تتمتع بخبرة كبيرة في السوق.
أضاف قوله: "لقد خسرت حيازاتي في سوق الأسهم 50% من قيمتها حتى الآن هذا العام. لا أريد أن أخاطر باستثمارات أخرى".
كانت غريس ليو، وهي تعمل في شركة استثمارية في مقاطعة هوبي وعمرها بلغ 36 عاماً، من بين أولئك الذين تغيرت قيمة ثرواتهم تماماً خلال الأشهر الأخيرة.
فقد وضع الاضطراب الذي عصف بسوق الأسهم شركة ليو في وضع مالي صعب لدرجة أنها لا تستطيع دفع راتب منسوبتها. تعتمد ليو الآن على مدخراتها لسداد أقساط رهنها العقاري ودعم زوجها وطفليها الصغيرين وهي مترددة حيال سحب أموالها من سوق الأسهم في الوقت الذي تخسر فيه استثماراتها قيمتها. يعمل زوجها في مجال المطاعم، الذي تضرر بشدة جراء القيود على خلفية تفشي فيروس كورونا.
تساءلت ليو "أين يمكنك أن تجد أدوات موثوقة لإدارة الثروة هذه الأيام؟ إنني أستثمر أموالي في الأسهم وقد ضاع كل شيء الآن".
تُصعب القيود الصارمة على رأس المال على الصينيين العاديين نقل مبالغ كبيرة من الأموال للخارج بحثاً عن فرص استثمارية، كما أن قلة الخبرة بالأسواق الخارجية تحد أيضاً من الرغبة بالاستثمار في تلك الأسواق.
قال هي، إنه على الرغم من أن الصينيين يمكنهم الاستثمار في الأسهم الأجنبية عبر الصناديق المعتمدة حكومياً، إلا أنه في كثير من الأحيان قد لا يعرف المستثمرون الأفراد كيفية ذلك. مضى الى قوله: "لست متأكداً من وجود مثل هذا الطلب حالياً" للسعي إلى تحقيق عوائد أعلى في الأسواق الخارجية، لافتاً إلى "قصور في المعرفة" اللازمة للاستثمار في تلك الأسواق.