تمثل استضافة كأس العالم لكرة القدم، ضربة موفقة لقطر. لكن بحث أوروبا لاستبدال الغاز الطبيعي الروسي، سيمنح الدولة الخليجية نفوذاً حقيقياً.
مع بدء هبوط الطائرات في الدوحة، يمكن للمسافرين أن ينظروا لأسفل ليشاهدوا الإستاد الجديد تماماً الذي يتسع لـثمانين ألف متفرج والذي يرتفع وسط الصحراء وسيستضيف بطولة نهائي كأس العالم في ديسمبر 2022.
قد يلاحظ الوافدون أيضاً صورة أخرى مذهلة وهي لناقلات مصطفة في الخليج العربي، لتحميل الغاز الطبيعي شديد البرودة.
قد يكون هناك القليل من القواسم المشتركة بين كرة القدم والوقود الذي لا غنى عنه بشكل متزايد، إلا أنهما يجتمعان لمنح قطر تأثيراً كبيراً على الساحة العالمية.
في الوقت الذي تُظهر بطولة كأس العالم قدرتها على اكتساب مكانة دولية، فإن مكانة قطر باعتبارها دولة موردة للغاز، المطلوب للغاية، تَعِدُ بتحويل شبه الجزيرة الصغيرة إلى مكانة لاعب أكبر كانت تطمح إليها دائماً لنيلها.
عزّز ارتفاع أسعار النفط بسبب الحرب في أوكرانيا وضع الدول المنتجة للنفط في الشرق الأوسط مثل المملكة العربية السعودية والكويت. لكن المكافآت المالية والجيوسياسية المعروضة على قطر تجعلها الفائز الأول بعد أن أجبر غزو فلاديمير بوتين لأوكرانيا أوروبا على البدء في التخلص من واردات الطاقة الروسية.
توجَّه العديد من كبار المسؤولين في الاتحاد الأوروبي إلى الدوحة في الأسابيع الأخيرة، وكلهم يحملون رسالة واضحة: نحن بحاجة إلى غازكم بأسرع ما يمكن. طلبت ألمانيا من الشركات أن تبدأ في التفاوض لإبرام صفقات التوريد.
اقرأ أيضاً: كل خيارات ألمانيا "سيئة" في مواجهة إستراتيجية بوتين للغاز
أصبحت الحاجة الملحة أكثر حدة الأسبوع الجاري بعد أن أوقفت روسيا الإمدادات عن بولندا وبلغاريا.
من المتوقع بالفعل أن تصل صادرات الطاقة القطرية إلى 100 مليار دولار هذا العام لأول مرة منذ 2014 بناء على الاتجاهات من الربع الأول، وفقاً لحسابات بلومبرغ.
سيسمح لها ذلك بإنفاق ثروات أكبر في أسواق الأسهم العالمية والسعي لتحقيق أهداف سياستها الخارجية، بشكل أساسي من خلال صندوقها للثروة السيادي البالغ حجمه 450 مليار دولار.
في غضون ذلك، تتوقع الحكومة القطرية جني منافع اقتصادية بقيمة 20 مليار دولار من تنظيم كأس العالم.
لقد جعل ذلك سنة 2022 أكثر من مجرد العام الذي ستترك فيه قطر بصماتها على الساحة الرياضية، مما يثري ما هو بالفعل واحدة من أغنى البلدان ويعزز نفوذها بطريقة كانت تبدو غير مرجحة قبل عام واحد فقط.
تثير أوروبا صخباً بشأن الغاز الطبيعي المسال بعد أن بدأت قطر تنفيذ مشروع بتكلفة 30 مليار دولار لتعزيز صادراتها بنسبة 60% بحلول عام 2027.
يعني الطلب الإضافي مزيداً من المنافسة بين المشترين على عقود التوريد طويلة الأجل، وعلى الأرجح، في ظل شروط أفضل لدولة قطر.
قبل اندلاع الحرب الأوكرانية، شكك بعض المحللين في وجود ما يكفي من الأنشطة لتبرير خطة التوسع (بالنسبة لصادرات قطر من الغاز). حالياً، تستطلع قطر آراء العملاء بشأن زيادة قدرات التصدير، حسبما أفادت بلومبرغ في 20 أبريل.
قالت كارين يونغ، إحدى كبار الباحثين بمعهد الشرق الأوسط في واشنطن: "إنها فرصة رائعة .. قطر ستكون واحدة من أهم مصدري الغاز، السوق التي ستكون قوية جداً على الأرجح لسنوات قادمة".
التحول في ثروات قطر
يمثل الأمر بمثابة تحول كبير بالنسبة لقطر وعدد سكانها الذي يقل عن 3 ملايين نسمة. أمضت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وحلفاؤهما أكثر من ثلاث سنوات في محاولة التضييق على قطر اقتصادياً لكونها قريبة جداً من الجماعات الإسلامية الإقليمية وإيران.
أدّت جائحة فيروس كورونا لانخفاض سعر الغاز إلى مستويات قياسية، مما أدى إلى تسريع ما قال كثيرون إنه اتجاه حتمي للمستهلكين للتحول من الوقود الأحفوري إلى طاقة أنظف ومتجددة.
في غضون ذلك، انتقد نشطاء حقوق الإنسان قطر بسبب معاملتها للعمال الأجانب الذين يبنون مرافق البنية التحتية لاستضافة كأس العالم. توفي ما لا يقل عن 50 من العمال الأجانب في عام 2020 وحده، وفقاً لمنظمة العمل الدولية.
شهد الأمر تحولات سريعة، وانتهت المقاطعة الاقتصادية وظلت أسعار الغاز الأوروبية بالقرب من أعلى مستوياتها على الإطلاق.
ارتفعت الأسعار أكثر من أربعة أضعاف في عام 2021 أولاً، بفضل الطلب مع انحسار الوباء ثم بسبب غزو روسيا لأوكرانيا.
يتزايد الطلب بشدة للتودد إلى أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في الولايات المتحدة وأوروبا.
في اجتماع بالبيت الأبيض مع الرئيس جو بايدن في أواخر يناير -قبل أسابيع من بدء الحرب– ناقش الزعيمان "ضمان استقرار إمدادات الطاقة العالمية".
صنّف بايدن قطر على أنها "حليف رئيسي من خارج الناتو"، ويرجع ذلك جزئياً إلى مساعدة الدوحة للولايات المتحدة في عمليات الإجلاء من أفغانستان، على الرغم من أن الغاز كان في مكان الصدارة لمحادثاتهما.
يتناقض ذلك مع التوتر بين البيت الأبيض والسعودية والإمارات بسبب رفضهما زيادة إنتاج النفط والمساعدة في خفض الأسعار.
تجني قطر المكاسب بالفعل. من المتوقع أن ينمو اقتصادها البالغ حجمه 200 مليار دولار بنسبة 4.4% خلال 2022، وهو أكبر معدل نمو منذ عام 2015 ، وفقاً لـ"سيتي غروب".
سيرتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى ما يقرب من 80 ألف دولار، ليصعد نحو المستويات في أماكن أخرى مثل جزر كايمان وسويسرا.
تأتي بداية ما يمكن أن تكون "دورة فائقة للغاز" مع انتهاء طفرة البناء لاستضافة بطولة كأس العالم التي دعمت الاقتصاد في السنوات الأخيرة، وفقاً لزياد داود، كبير اقتصاديي الأسواق الناشئة في "بلومبرغ إيكونوميكس"، والذي قال إن "التوقيت من حسن حظ قطر التي قد تشهد محركاً جديداً للنمو في هذا العقد".
ماذا ستفعل قطر بالمال؟
السؤال الآن هو ما الذي ستفعله قطر بالمكاسب المفاجئة الناجمة عن الغاز الطبيعي المسال. لا يشير سجلها الحافل إلى التعمق في أسواق الأسهم العالمية فحسب، بل يشير أيضاً إلى مساعي السياسة الخارجية التي لم تكن دائماً منسجمة مع حلفائها في الولايات المتحدة وأوروبا.
سيتم استخدام الكثير من الأموال لدعم صندوق الثروة السيادي القطري، وفقاً لما ذكره شخص مطلع على الأمر.
من شأن ذلك أن يُمكِّن جهاز قطر للاستثمار، وهو بالفعل مستثمر رئيسي في الشركات بما في ذلك "باركليز" و"فولكس واجن" وكذلك العقارات في نيويورك ولندن، من تسريع توجهه القوي نحو أسهم التكنولوجيا.
يمكن لقطر أيضاً استخدام الصندوق لتعزيز أهدافها الإقليمية. تعهّدت الحكومة القطرية الشهر الماضي بضخ استثمارات بقيمة 5 مليارات دولار في مصر. جاء ذلك ضمن خطة دول الخليج لدعم القاهرة، التي تضررت من ارتفاع أسعار المواد الغذائية منذ بدء الحرب في أوكرانيا.
الاستثمارات السابقة المرتبطة بالسياسة الخارجية لم تؤت ثمارها دائماً. ضخّ جهاز قطر للاستثمار، مليارات الدولارات في أصول روسية بما في ذلك شركة النفط الحكومية "روسفنت" (Rosneft) في العقد الماضي. تراجعت قيمة تلك الأصول حالياً.
شمل الدعم الذي قدمته قطر لمصر 8 مليارات دولار بعد انتفاضة الربيع العربي في عام 2011، عندما كان الإخوان المسلمون يديرون الحكومة. لم تدم حكومة الإخوان طويلاً، حيث أطاح الجيش المصري بالرئيس محمد مرسي في عام 2013.
أثار دعم قطر لمرسي في عهد الشيخ حمد والد الشيخ تميم انتقادات من دول الخليج الأخرى وكان من بين أسباب مقاطعتهم للدوحة بعد سنوات.
كما استثمر الشيخ حمد في غزة بعد سيطرة حماس عليها، التي صنفتها الولايات المتحدة منظمة إرهابية، ودعم الثورة في سوريا للإطاحة بنظام بشار الأسد. ظل الأسد في السلطة مع استمرار الحرب الأهلية.
وتعتقد يونغ من معهد الشرق الأوسط أن "بإمكان قطر أن تلعب دوراً إقليمياً مثيراً للاهتمام، لكنه ينطوي على الكثير من المخاطر .. الانخراط عبر الصداقة والحوار لحل مشاكل المنطقة يأتي بأعباء لا يمكن التنبؤ بها"
الطريق البطيء إلى الثروة الهائلة
استغرقت أهمية قطر لتوفير إمدادات الغاز عالمياً رحلة طويلة. تتواجد احتياطياتها غالباً في "حقل الشمال" العملاق البحري الذي يمتد إلى المياه الإيرانية الذي اكتشفته شركة "شل" في عام 1971. مع ذلك سرعان ما تخلت عنه الشركة. كان للغاز قيمة قليلة، خاصةً إذا كان بعيداً جداً بحيث لا يمكن ضخه إلى الأسواق الرئيسية.
بحلول التسعينيات من القرن الماضي، كانت المالية العامة لقطر تحت ضغط بسبب انخفاض إنتاج النفط وأسعاره. وكان عبد الله بن حمد العطية، وزير الطاقة القطري حينذاك، يعتقد أن الغاز هو المستقبل.
كان الاستهلاك يرتفع وقام المهندسون بخفض تكلفة تصنيع الغاز الطبيعي المسال، حيث يتم ضغط الوقود وتبريده إلى ناقص 161 درجة مئوية، مما يتيح شحنه إلى جميع أنحاء العالم.
بحلول عام 2012، أصبحت قطر أكبر دولة مصدرة للغاز في العالم بفضل الطلب في اليابان وتايوان. على الرغم من ذلك، أثبتت أوروبا أنها سوق عصية على الاختراق بسبب المنافسة من روسيا.
قال العطية خلال مقابلة: "في عام 1997 أو 1998 ذهبت إلى ألمانيا، والتقيت بمسؤولين ألمان وناقشنا ما إذا كان يمكن لقطر أن تصبح مورِّداً.. أجابوا:" أوه، لا نعتقد أننا بحاجة إلى الغاز الطبيعي المسال لأننا سنحصل على الكثير من الغاز من روسيا عبر خطوط الأنابيب وهو أرخص".
أثبت كلام العطية أنهم (الألمان) يحتاجون إلى العديد من المورّدين صحته في نهاية المطاف، عندما بدأت روسيا الصراع الأكثر دموية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية وتهديدات بوتين بالرد على العقوبات الغربية بوقف صادرات الغاز.
فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات قاسية على قطاعات التجارة والأعمال في محاولة لعزل روسيا، لكنه استبعد النفط والغاز حتى الآن.
في الوقت الحالي، لا تستطيع قطر إنتاج ما يكفي لتلبية احتياجات أوروبا، التي تحصل على حوالي 40% من احتياجاتها من الغاز من روسيا.
تضخّ الشركة المنتجة للدولة "قطر للطاقة" طاقتها الكاملة ويذهب أكثر من 80% من شحناتها إلى آسيا.
يتم بيع معظم هذه المنتجات بموجب عقود متعددة السنوات قالت الدوحة إنها لن تلغيها لتحويل الإمدادات إلى أوروبا.
مع ذلك، فإن الثراء المستقبلي واضح. تتوقع شركة "مورغان ستانلي" أن يؤدي تحول أوروبا عن الطاقة الروسية إلى تحفيز زيادة الاستهلاك العالمي للغاز الطبيعي المسال بنسبة 60% بحلول عام 2030. ويتوقع بنك "غولدمان ساكس" أن تصل أسعار الغاز خلال التعاملات الفورية بآسيا وأوروبا إلى 25 دولاراً لكل مليون وحدة حرارية بريطانية حتى العام المقبل على الأقل، ما يزيد عن ستة أضعاف سعر التعادل لمشروع زيادة الإنتاج في قطر.
البنوك الأمريكية متفائلة بالمثل بشأن النفط، والذي ترتبط به معظم عقود التوريد الحالية في قطر.
شرع الاتحاد الأوروبي في إستراتيجية متعددة المحاور لاستلام المزيد من الغاز الطبيعي المسال والغاز عبر الأنابيب من خارج روسيا.
تعهدت ألمانيا التي سافر وزيرها للاقتصاد روبرت هابيك إلى الدوحة للقاء الأمير في منتصف مارس، ببناء أول محطات لاستيراد الغاز الطبيعي المسال. تبحث دول مثل إستونيا أيضاً عن إقامة مرافق جديدة.
حضر نسخة هذا العام من مؤتمر السياسة الخارجية لمنتدى الدوحة في مارس ما يقرب من 4000 شخص، بينهم مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل. وتلقى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تصفيقاً حاراً لمدة طويلة على خطابه عبر الفيديو، وقال فيه إن قطر يمكن أن تمنع روسيا من استخدام الطاقة "كسلاح لابتزاز العالم".
في هذا الشأن يقول إيلان حبيب، مدير قسم الشرق الأوسط في شركة تحليل السلع " أي سي أي إس" (ICIS): "غزو روسيا وعدم اليقين بشأن إمدادات الغاز إلى أوروبا قد غيّرا اللعبة بالنسبة لقطر".