لا يوجد أفضل من سلاسل توريد قريبة للوطن

مصنع لقطع غيار السيارات في الصين - المصدر: بلومبرغ
مصنع لقطع غيار السيارات في الصين - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

- مقال رأي

إن إعادة التصنيع إلى أوروبا - وهو ما يسمى "إعادة توطين التوريد" أو "استرجاع التوريد" - هي استراتيجية عمل منطقية، إن لم تكن ضرورية. فعلى مدار العقدين الماضيين، قام المُصنّعون بتحويل إنتاج كل شيء تقريباً من السيارات إلى مستحضرات التجميل نحو الشرق إلى الصين، في محاولة منهم لخفض تكاليف العمالة وحماية الهوامش الربحية. لكن أزمات سلاسل التوريد التي أحدثتها الجغرافيا السياسية وكوفيد-19 تفرض إعادة التفكير في ذلك الآن.

ُيجادل كارلو ألتومونتي، أستاذ اقتصاديات التكامل الأوروبي في "جامعة بوكوني" في ميلانو، بأن بعض التطورات الأخيرة هي عامل مساعد بهذا الموضوع، وأن السرعة التي يسير بها التكامل الأوروبي مؤخراً يعزز "أقلمة" سلاسل التوريد. مع ذلك، فإن إعادة التوطين ما زالت عملية معقدة، وستتطلب اتخاذ خيارات صعبة من قبل كلاً من الشركات والحكومات.

خطط كبيرة

خذ على سبيل المثال مأزق داردانيو مانولي، رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة "مانولي رابر إندستريز" (Manuli Rubber Industries)، وهي شركة إيطالية متعددة الجنسيات تصنع المعدات الهيدروليكية. وكان رئيسها يعتقد أنه قد نجح بالفعل في إعادة سلسلة التوريد الخاصة بأعماله من الصين، وأنه وجد موردي للصلب والأسلاك في أوروبا، على وجه التحديد، في ألمانيا والمملكة المتحدة ولوكسمبورغ.

بعد ذلك، بدأ غزو فلاديمير بوتين، واكتشف مانولي أن مورديه الجدد كانوا جميعاً يشترون الحديد الخام من أوكرانيا، وعلى وجه التحديد، من مصنع واحد في ماريوبول. يقول مانولي: "اعتقدنا أننا كنّا قد أعدنا توطين التوريد بالفعل، لكن تبين لنا أن أوروبا كانت الحلقة الأضعف".

حتى الآن، لا يزال من الصعب العثور على البيانات التي تظهر إعادة توطين التوريد على نطاق واسع. لكن هناك بعض الأدلة التي يرويها الناس. مثلاً، تفتتح مجموعة "سي آند أي" (C&A) للبيع بالتجزئة، والتي تتخذ من دوسلدورف في ألمانيا مقراً لها، مصنعاً جديداً للنسيج في البلاد، بغية إنتاج 400 ألف زوج من بناطيل الجينز سنوياً.

بدورها، أعلنت شركة صناعة السيارات السويدية "فولفو" عن خططها لبناء مصنع ثالث في أوروبا في عام 2025. كما بدأت الشركات الصغيرة في اتباع نفس المسار. فشركة "مايا آند بورجيس" (Maia & Borges) المُصنعة لألعاب الأطفال والواقعة في شمال البرتغال، هي في طريقها أيضاً لتحقيق 12 مليون يورو (حوالي 13 مليون دولار) من الإيرادات في عام 2022، ارتفاعاً من 1.5 مليون يورو في عام 2019، وذلك بعد أن فازت بطلبات كثيرة من أوروبا والولايات المتحدة، عندما تعثرت سلاسل التوريد الآسيوية في الأشهر الأولى للوباء.

تقول باتريسيا مايا، الرئيسة التنفيذية للشركة، إن الشركة العائلية ستصنع 10 ملايين لعبة هذا العام وتقوم ببناء مصنع ثالث لتلبية الطلب المتوقع أن يصل إلى 40 مليون لعبة بحلول عام 2024، وتضيف: "من منظور الأعمال، نحن قد مررنا بعامين جيدين".

تحديات مُختلفة

من جهة أخرى، توجد تحديات كبيرة أمام هذه الخطط. حيث هناك حاجة إلى مهندسين لملء المصانع ذات التقنية العالية، بينما تواجه صناعة الأدوية في أوروبا مشكلة مستمرة وسط هجرة الأدمغة إلى الولايات المتحدة. حتى صانعو السلع الفاخرة يكافحون للعثور على أيدي عاملة ذات خبرة كافية لصنع سلعهم. في هذا السياق، تعهدت المجموعة الفرنسية "إل في إم إتش - مويت هنسي لوي فيتون" بتوظيف 2000 شاب وشابة، خاصة في إيطاليا، للحفاظ على المعرفة التصنيعية حية في البلاد.

وبغية إحداث فرق، تحتاج إعادة توطين الاستيراد إلى الدفع بسياسة أكثر قوة، وإلى دعم ملموس من الاتحاد الأوروبي والحكومات الأعضاء. كذلك فإن بعض الحوافز تفيد إعادة التوطين بشكل غير مباشر فقط، مثل تحقيق أهداف معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية.

في هذا الإطار تحدثت إلى المدراء التنفيذيين لإحدى أكبر الشركات الصناعية في أوروبا والتي عانت من صعوبات سلاسل التوريد خلال العام الماضي. وكان جزء من الدافع لإعادة التوطين بالنسبة لها هو ضغط المستثمرين للحصول على سلاسل توريد "أنظف للبيئة" وتقليل الانبعاثات من نوع النطاق (3) (الانبعاثات الناتجة بشكل غير مباشر عن أنشطة الشركة). يقول مدير سلسلة التوريد العالمية لهذه الشركة: "تقريب الموردين من مصانعنا يعني أنه يمكننا الحد من انبعاثات الكربون". (طلب كلا المديرين التنفيذيين عدم الكشف عن هويتهما لأن مناقشات مجلس الإدارة ليست علنية بعد).

أموال التحفيز

من ناحية التمويل، فإن الأموال تتوفر في صندوق "الاتحاد الأوروبي للجيل القادم" المصمم لفترة ما بعد الجائحة، والذي يحوي 750 مليار يورو (811 مليار دولار) مخصصة للمشاريع التي تركز على الاستدامة أو ​​القطاع الرقمي. وتقدمت شركة "مايا آند بورجيس" بطلب للحصول على تمويل جزئي لأنها تستخدم الروبوتات لتصنيع المنتجات.

ووفقاً لإريك نيلسن، كبير المستشارين الاقتصاديين في "يونكريديتو" (UniCredit)، كان لتلك الأموال تأثيرها، مثل تحفيز الاستثمار في صناعة أشباه الموصلات الأوروبية، وإنتاج خلايا البطاريات. إذ تم الإعلان عن حوالي 24 مصنعاً عملاقاً للبطاريات في أوروبا بقدرة إنتاج سنوية كافية لتجهيز9 ملايين سيارة كهربائية سنوياً.

من الناحية الاستراتيجية، تصب هذه المساعي في إطار الأمور المتعلقة بسلاسل الإمداد والمشاكل السياسية مع الصين - مركز قوة المركبات الكهربائية والبطاريات - بالإضافة إلى إسهامها بتقليل البصمة الكربونية. عن ذلك يقول فرانك بيش، أستاذ الاقتصاد الجزئي في "جامعة دارمشتات التقنية" ضمن ورقة بحثية حديثة، بأن عدم اليقين الملحوظ سيجعل الإنتاج المحلي المتوفر "في الوقت المناسب" أكثر جاذبية.

مشاكل مُجتمعية

من جهة أخرى، فإن جلب سلسلة التوريد إلى أوروبا يثير أيضاً مشاكل جديدة.

منها مثلاً ما حدث في تراس أو مونتيس، وألتو دورو في منطقة باروسو، وهي منطقة جبلية في البرتغال ذات جمال أخاذ، تبعد ساعتين بالسيارة من مدينة بورتو. وفيها أعلنت في 14 ديسمبر، كلاً من شركة الطاقة المحلية "غالب إنرجيا" (Galp Energia) وشركة "نورث فولت" (Northvolt) السويدية لتصنيع بطاريات السيارات الكهربائية عن مشروع مشترك لبناء ما يقولون إنه سيكون أكبر مصنع في أوروبا لتطوير الليثيوم. ويتضمن المشروع منجماً، إذ كما بات معروفاً أن البرتغال تمتلك أكبر احتياطي في القارة الأوروبية من الإسبودومين الذي يحتوي على الليثيوم.

والهدف هو أن ينتج المصنع ما يكفي من هيدروكسيد الليثيوم للبطاريات، لتزويد نحو 700 ألف مركبة كهربائية بدءاً من عام 2026.

بدورها، تجادل المجموعات البيئية بأن المناجم تدمر الريف الخصب ومجتمعه في هذه المنطقة. فيما تقدم المشروع، الذي يطلق عليه "سافانا ريسورسيز" (Savannah Resources)، بطلب للحصول على تمويل صندوق "الاتحاد الأوروبي للجيل القادم". وستقرر الحكومة البرتغالية قرارها حيال الموافقة على المشروع أم لا في وقت لاحق من هذا العام.

من جهة أخرى، أوقفت بعض الشركات الصغيرة جهودها لتوطين سلاسل التوريد. فعندما سئل الرئيس التنفيذي لشركة "مانولي رابر إندستريز" عما يخطط لفعله الآن بعد أن عطلت الحرب في أوكرانيا سلسلة التوريد الخاصة به، أجاب: "نحن ذاهبون إلى الهند".

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
هذا المقال لا يعكس موقف أو رأي "الشرق للأخبار"وهو منشور نقلا عن Bloomberg Mediaولا يعكس بالضرورة آراء مجلس تحرير Bloomberg أو ملاكها
تصنيفات

قصص قد تهمك