السخط صامت إلى حدٍّ كبير، لكن مع ذلك تظهر الشروخ طالما كان هناك ضغط

لا يبدو وداع بوتين وشيكاً

 الرئيس الروسي فلاديمير بوتين - المصدر: بلومبرغ
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

- مقال رأي

بدأت نهاية فلاديمير بوتين حين قرر غزو أوكرانيا، فعزل وطن 150 مليون إنسان، وعاث في اقتصاده تدميراً، فيما يسعى وراء سراب، لكن رئيس روسيا لم يبلغ تلك النهاية بعد.

قد يدفع تألق رئيس أوكرانيا، الممثل الكوميدي السابق، وشجاعة المدافعين عن بلادهم وأخطاء القوات الروسية، البعض للظن أن سوء تقدير على هذا النطاق سيؤدي بالزعيم الروسي إلى نهاية سريعة بعد أطول ولاية منذ عهد جوزيف ستالين.

يُلحق نطاق العقوبات غير المسبوقة على روسيا الضرر بالفئة المتنقذة الثرية والأسر العادية، فيما تبرز معارضة الحرب من جهات غير معتادة. نعلم أن السلطويين غالباً ما أسقطتهم أخطاؤهم، وكانت تلك في الغالب أقل فداحة بكثير من اخطاء بوتين الحالية.

لا مستحيل في أزمة بهذا الحجم، لكن لا يٌرجح حالياً أن تنقلب النخبة أو يتمرد الشعب بقدر ما قد يستفحل القمع لإسكات الأصوات المعارضة والحفاظ على وهم التأييد الشعبي الساحق. يعبر النظام المفتقر للخيارات عن تفكير ضيق الأفق كما لا يحظى بالولاء أو الفكر المرجعي ويعاني ميثاقه الاجتماعي من التمزق، لكن يبقى السؤال: إلى متى قد يستمر هذا الحال؟

ما يزال بوتين ممسكاً بأدوات السيطرة الأساسية، وأولها هيمنته القوية على الرسالة التي تصل إلى الغالبية العظمى من الروس، فيسهل الترويج للكارثة الراهنة على أنها هجوم على روسيا، وتوجيه الغضب الشعبي نحو الغرب، وليس ضد الكرملين. يقدم التلفزيون الحكومي تغطية شاملة مؤيدة لبوتين عبر انتقادات غاضبة على "النازيين" في أوكرانيا، أو نشرات إخبارية مختارة تتجنب ذكر كلمة "حرب" أو أي خسائر روسية.

المعارضة المنتقاة

أسكتت موسكو، إمعاناً في ذلك، حتى أصوات المعارضة التي لطالما احتضنتها، مثل محطة الإذاعة الليبرالية "إيكو موسكفي" (Ekho Moskvy)، التي بثت لأكثر من ثلاثة عقود، وفرضت قانون رقابة صارم أجبر حتى المحطات الغربية على تعليق عملها الميداني. كما تفرض قيوداً مشدّدةً على وسائل التواصل الاجتماعي، التي تعتبر خطرة بشكل خاص نظراً لعدد العائلات التي لديها روابط مباشرة بأوكرانيا وعلو أصوات أمهات الجنود. يتجه الروس في خضم ذلك للشبكات الافتراضية الخاصة لتخطي القيود على الإنترنت وإلى الإذاعات البعيدة، لكن هذا حال بعضهم فقط.

لا عجب من أن الكرملين لا يتسامح على الإطلاق مع أكثر المظاهرات المناهضة للحرب اعتدالاً، حتى تلك التي تقتصر على فرد واحد، حيث يدرك جيداً أن انتقاد "عمليته الخاصة" قد تنقلب بسرعة لتغدو ذمّاً للنظام. تشير تقديرات "أو في دي إنفو" (OVD-Info) لاعتقال أكثر من 13200 شخص منذ بدء الغزو، وهو رقم هائل بالنظر للقيود المفروضة على الاحتجاج، وبعضهم اعتقل بسبب جنح بسيطة مثل تعليق لافتة.

ما يزال بوتين، رجل الاستخبارات السوفيتية "كي جي بي" السابق، يحظى بولاء أجهزة الأمن والحرس الوطني (روسغفارديا) البالغ قوامه 400 ألف فرد، الذي أسسه قبل ست سنوات، ويتبعه مباشرة كما يديره حارسه الشخصي السابق. كما يسيطر على المستويات العليا للحكومة أيضاً، بما في ذلك المخضرمين من جهاز الأمن"سيلوفيكي" (Siloviki)، وهم أقل اتحاداً بكثير مما يُظن ونادراً ما يتدخلون، كما حدث في أغسطس 1991 إبان انهيار الدولة. كانت هناك تعبيرات عن السخط بين أوساط النخبة الثرية المتنفذة، لكن هذه ليست أحداث التسعينات، حيث إن مليارديرات روسيا تحت قيادة بوتين يتمتعون بدخل الإيجارات، وليسوا سماسرة نفوذ كما كان الحال من قبل.

لم يترك بديلاً

تيقّن بوتين بشكل حاسم من عدم وجود بديل واضح إو سهل لقيادته. قال بن نوبل، من جامعة "كوليدج لندن"، الذي يدرس السياسة الداخلية الروسية، إن عدم وجود ما يماثل المكتب السياسي، الذي سمح بإزاحة نيكيتا خروتشيف عن سدة السلطة في 1964، أمراً متعمداً. كان ذلك حدثاً نادراً في عصر الاتحاد السوفيتي، ومرده كان جزئياً لسوء تعامل خروتشيف مع أزمة الصواريخ الكوبية.

لم تنشر روسيا على جبهة القتال سوى جزء ضئيل من مواردها. قد يكون جيشها يعاني من تغذية سيئة ويقود مركبات رديئة الصيانة ويعاني من الارتباك حيال مهمته، لكن لديه الأسلحة والقوى البشرية الكافية لمواصلة التقدم وإلحاق مزيد من الخسائر.

لكن إلى متى قد يستمر هذا؟ هناك أصوات مناهضة للحرب، إن لم تكن معادية تماماً لبوتين، من جوانب ناشئة يصعب إسكاتها. يتحدث المشاهير غير المسيسين عادة إلى معجبيهم بشكل مباشر. كما وقّع مسؤولون إقليميون وصحافيون من وسائل الإعلام الموالية للدولة، وحتى طلاب في إحدى الجامعات المرموقة التي تدرب الدبلوماسيين الروس، على خطابات مفتوحة. الأهم من ذلك، يدفع انهيار الاقتصاد لإثارة غضب العمال.

تشير تاتيانا ستانوفايا، من مؤسسة التحليل السياسي "آر بوليتيك" (R.Politik) لتعمق الاستياء بين أوساط النخبة الروسية ولغموض الرؤية حول المستقبل. هذا السخط صامت إلى حدٍّ كبير، لكن مع ذلك تظهر الشروخ طالما كان هناك ضغط. لا تشكّل خطورة حتى الآن على بقاء بوتين، ولكن كلما ساد القمع بات النظام أكثر هشاشة وأقل قدرة على التعامل مع الضغوط الاجتماعية التي ستظهر مع توتر مالية الدولة. ترى ستانوفايا أن هذه التوترات، وليس السياسة الخارجية، هي التي ستفرض التغيير في النهاية.

لن يفاوض من ضعف

قال عالم السياسة، لي مورجنبيسير من جامعة "غريفيث" في أستراليا، وهو باحث في الأنظمة الاستبدادية، إن روسيا تفتقر حالياً لعوامل أساسية لإنهاء النظام الحالي. بين أنه لا يوجد زعيم انتقالي في الوقت المناسب، ولا تعبئة جماعية، وأشار إلى أنه ليس هناك ما يحفز بوتين بما يكفي ليدير ظهره ويخرج، حيث إن الضمانات الأمنية والمالية التي يتطلبها المستبدون ستكون موضع تفاوض انطلاقاً من وضع ضعف.

لكن يرى غريفيث أنه ستكون هناك نقطة تحول ستؤدي في النهاية إلى تعبير عن استياء اقتصادي واجتماعي متأجج بالفعل على نطاق لا يمكن للكرملين تجاهله، فقد تبين من الاحتجاجات ضد الرئيس المصري الأسبق، حسني مبارك أن الأمر لا يتطلب الكثير عندما تحين لحظة الحسم.

يجب أن يشكّل هذا الاحتمال حافزاً للغرب لمواصلة دعم وسائل الإعلام المستقلة، حتى تلك التي تُبث من خارج روسيا، وإتاحة المعلومات للمواطنين العاديين. يجب أن تأمر فقط بزيادة الضغط الاقتصادي الذي يسحق روسيا بالفعل. لا شيء من هذا يضمن الديمقراطية، إذ إن البديل الفوري لبوتين ليس بالضرورة ديمقراطياً ليبرالياً، لكن الأولوية اليوم هي وقف التدمير العشوائي.

إلى أن يتحقق ذلك، فإننا نشهد حالياً فترة ظلامية. إذا استمرت المقاومة الضارية ضد روسيا في أوكرانيا، كما يبدو مرجحاً، فإن فترة طويلة من الصراع تنتظرها. حين أرى الوضع في كلٍّ من خاركيف وماريوبول وكييف، أتذكّر الضرر الذي أحدثته روسيا على أراضيها في منطقة الشيشان الانفصالية الجنوبية. تعهد بافيل غراتشيف، وزير الدفاع في 1994، بأنه سيسحق المتمردين "في غضون ساعتين من خلال فوج مظليين واحد". لم يتمكن من ذلك حتى حين وصلتُ إلى هناك في 2002 لكن لم يكن هناك مبنى سليم في العاصمة غروزني حيث تحوّلت ساحة مينوتكا المزدحمة ذات يوم لجبل من الأنقاض.

كان الناس يعيشون في ممرات، لأن الجدران الخارجية لمبانيهم السكنية قد هُدمت.

كما أن هذا سيعتم اقتصاد روسيا المنعزل والمكتفي ذاتياً، الذي سرعان ما سيفقد زخمه وبريقه. خلال الفوضى التي شهدتها موسكو في 1998، كان ما يزال هناك انفتاح رغم كل اليأس، وشعور بأن التحسن ممكن. كل ذلك ولّى، ففي ظل غياب رؤية طويلة المدى، سيستطيع هذا النظام أن يعد شعبه فقط بأنه سيبقى ويكون مستعداً لحل جميع المشاكل عبر إحكام قبضته.

تدخل روسيا الآن مرحلة مجهولة، يهيمن عليها النظام وسط حال تمزّق غير مسبوق. قد تفيد في هذا الصدد بعض المقارنات من العهد السوفيتي، لكننا نعلم من ذلك التاريخ أنه في حين أن القمع الوحشي فعّال كوسيلة سيطرة، فإنه لا يمكن أن يستمر.

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
هذا المقال لا يعكس موقف أو رأي "الشرق للأخبار"وهو منشور نقلا عن Bloomberg Mediaولا يعكس بالضرورة آراء مجلس تحرير Bloomberg أو ملاكها
تصنيفات
الآراء الأكثر قراءة