تستهدف العقوبات على روسيا بسبب غزوها أوكرانيا، أكبر البنوك والشركات والأثرياء في البلاد، وهي ذات تأثير غير مباشر في مجالات أبعد أيضاً، من خلال الضغط الذي تشكّله على الروس العاديين الذين يعيشون في الخارج.
هؤلاء المغتربون ليست لديهم طائرات خاصة، وليسوا بمديري ثروات هائلة. لكنَّهم اعتادوا على الخدمات المصرفية السهلة عبر الإنترنت، وتحويلات العملات الرخيصة، والتدفق المستمر للسلع، والخدمات بين أماكن إقامتهم الحالية في الخارج، وبلدهم الأم. لكن، في ظل العقوبات الجديدة؛ بالإضافة إلى التغييرات السياسية المفاجئة من قبل روسيا، والانخفاض الحاد في قيمة الروبل؛ انهارت هذه الروابط في غضون أيام قليلة.
اقرأ أيضاً: أمريكا تفرض عقوبات على النخبة الحاكمة في روسيا
قالت مارينا غريتسكايا (32 عاماً) التي انتقلت إلى لندن من روسيا العام الماضي لتولي وظيفة مجال الاتصالات: "لدي بعض الآمال الغبية في أنَّ سعر العملة سيتغير، وأنَّ الوضع سيكون أفضل".
أبقت غريتسكايا حساب التوفير مفتوحاً في "بنك تينكوف" (Tinkoff) الروسي، وهو من نوعية "البنوك عبر الإنترنت"، ويحظى بشعبية لدى المستهلكين الصغار في السن الذين يتعاملون براحة مع الخدمات المصرفية عبر الإنترنت. الأصول التي تحتفظ بها غريتسكايا كانت تبلغ قيمتها الإجمالية في الأسبوع الماضي حوالي 7400 دولار. ويوم الإثنين؛ انخفض الروبل بأكثر من 30% مقابل الدولار، ليتبخّر بسبب ذلك أكثر من 2000 دولار من مدخراتها.
تقول غريتسكايا: "إنَّه راتب شهر كامل".
اقرأ المزيد: العقوبات تمزق خطط الملياردير مورداشوف المرسومة بعناية
لدى روسيا واحدة من أكبر الجاليات حول العالم؛ إذ يعيش حوالي 11 مليون شخص ولدوا في روسيا خارج حدودها، وفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في عام 2020. وهذا يجعلها تتقدّم على سوريا والصين، ويضعها على قدم المساواة مع المكسيك من ناحية سكان الشتات.
آلاف الطلاب
من المعروف أنَّ بعض المغتربين الروس هم من الأثرياء. كما أنَّ عدداً قليلاً منهم باتت تشمله شبكة العقوبات الآخذة في الاتساع التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها، والتي شملت حتى الآن أكثر من 100 فرد وكيان، والشركات التابعة لهذه الكيانات. مع ذلك؛ فإنَّ الكثيرين لديهم ميزانيات أكثر تواضعاً. الولايات المتحدة؛ على سبيل المثال، كانت موطناً لـ4805 طلاب من روسيا في العام الدراسي الذي انتهى في عام 2021، وفقاً لـ"معهد التعليم الدولي". وبالنسبة إلى المملكة المتحدة؛ بلغ هذا الرقم 3380 طالباً، وفقاً لـ"وكالة إحصاءات التعليم العالي" البريطانية.
حظرت عقوبات الدول تلك - بالإضافة إلى عقوبات الاتحاد الأوروبي والاقتصادات الكبرى الأخرى - العديد من الأنشطة المالية، وحجزت مليارات من أصول البنك المركزي الروسي في الخارج، كما قيّدت الأماكن التي يمكن للمواطنين الروس السفر إليها.
كرد فعل؛ قام البنك المركزي الروسي برفع سعر الفائدة الرئيسي بأكثر من الضعف إلى 20%، ووضع ضوابط على تدفق رأس المال. ويوم الأربعاء، ظلت بورصة موسكو مغلقة لليوم الثالث على التوالي. وفي الداخل الروسي أيضاً؛ حاول المواطنون سحب أكبر قدر ممكن من الدولارات الأمريكية، مما أدى إلى خلق طوابير طويلة أمام أجهزة الصراف الآلي.
كارثة اقتصادية
يقول مارك غاليوتي، الأستاذ الفخري في "جامعة لندن العالمية" (UCL) المتخصص في الدراسات السلافية ودراسات أوروبا الشرقية: "سيكون الأمر كارثياً للغاية... لا أعرف كيف سيتعامل هؤلاء الأشخاص اقتصادياً".
لا يرى غاليوتي إمكانية أن تغيّر الضغوط المالية على الروس العاديين في الخارج، من المسار الذي يسلكه بوتين.
يقول غاليوتي: "بوتين لا يهتم إذا تم الضغط على الأوليغارشية (الأقلية الروسية المتسلِّطة)". وعند سؤاله عن أولئك الذين يملكون دخلاً أقل بكثير في الخارج؛ يجيب غاليوتي: "هؤلاء ليسوا بأي حال من الأحوال من الأشخاص الذين يمكن أن يكون لهم أي تأثير على بوتين. ومن غير المرجح أن يكترث لذلك".
لاجئون بالملايين
أتى الغزو الروسي بالخراب على أوكرانيا. شنّت القوات الروسية التي تطوق مدينة خاركيف الأوكرانية التي يبلغ عدد سكانها 1.8 مليون نسمة، هجمات صاروخية يوم الإثنين على حي سكني، مع ورود أنباء عن سقوط عشرات القتلى والجرحى. وفرّ حوالي ثلاثة أرباع المليون أوكراني من البلاد إلى الاتحاد الأوروبي، في حين تتوقَّع الأمم المتحدة أن يصل عدد اللاجئين إلى 4 ملايين في نهاية الأمر.
بعيداً عن خط الجبهة؛ تركت الحملة الدولية للرد على الحرب، المغتربين الروس غير متأكدين مما إذا كانت الخدمات المالية ما تزال تعمل أو توقفت عن ذلك، وكم من الوقت بقي لديهم ليستمروا في الاستفادة منها.
عدم يقين
انتقلت إيرينا بيلوفا (32 عاماً)، من موسكو إلى العاصمة الأمريكية واشنطن في يناير 2020، وهي تعمل الآن في قسم أسواق رأس المال في شركة وساطة متخصصة في مجال الرهون العقارية. ما تزال عائلتها في روسيا، وقد تضررت بشدة من انخفاض الروبل. أدى عدم الاستقرار والفرض المستمر لمزيد من عقوبات "سويفت"، إلى تركها في حالة من عدم اليقين بشأن ما إذا كانت ستتمكّن من مساعدة أسرتها.
تقول بيلوفا: "لا أعرف ماذا أتوقَّع... الوضع يسوء يوماً بعد يوم، ولا نعرف ما هي الخطوة التالية في العقوبات.. لكنَّني أخشى حقاً أن أكون بحاجة إلى إرسال أموال إلى عائلتي في روسيا، ولا أعرف ما إذا كنت سأتمكّن من القيام بذلك".
بدورها؛ تقول ماريا ماكدونالد، التي شاركت في تأسيس وكالة تسويق في لندن، وانتقلت إلى هناك من روسيا قبل ست سنوات، إنَّها ليست متأكدة تماماً من سبب عدم عمل بطاقة "باركليز" البريطانية الخاصة بها في محرك بحث "ياندكس" (Yandex)، الذي يقدّم خدمات مشابهة لـ"أمازون" في روسيا. ترسل ماريا عادة الطعام والهدايا إلى عائلتها في الوطن لتذكرهم بأنَّها تفكر بهم.
هي لا تعرف ما إذا كانت معاملاتها المعتادة قد فشلت، لأنَّ الولايات المتحدة والقوى الأوروبية التزمت بحجب بعض البنوك الروسية من نظام رسائل "سويفت"، أو بسبب تشديد روسيا مؤخراً لضوابط رأس المال أو لسبب آخر تماماً.
تقول ماكدونالد: "يحاول الناس معرفة ما يُسمح لنا بفعله".
التخلي عن الروبل
من ناحية العمل، تقول ماكدونالد، إنَّ شركتها المسجلة في المملكة المتحدة دفعت مدفوعات مسبقة لعمالها الروس المتعاقدين شهراً مقدماً، وطلبت منهم فتح حسابات في البنوك التي لا تخضع للعقوبات حالياً. وتقول، إنَّها شاهدت الكثير من أصدقائها يحاولون تحويل ما لديهم من عملة الروبل إلى الدولار أو حتى إلى عملات مشفَّرة.
إيفلينا لافروفا، هي واحدة أيضاً من المغتربين الروس الذين يفكرون في استخدام العملات المشفَّرة كوسيلة للدفع، إن لم تتمكّن من استخدام البنوك. انتقلت السيدة البالغة من العمر 37 عاماً إلى الولايات المتحدة من روسيا في عام 2019، وهي تدير اليوم وكالة تسويق لشركات "ويب 3" الناشئة في مدينة نيويورك.
تقول لافروفا: "تصبح رهينة الوضع السياسي، حتى لو لم تكن تعيش في وطنك".
العملات المشفرة
تجري لافروفا كل عملياتها المصرفية من خلال المؤسسات الأمريكية. وشاغلها الرئيسي هو ما إذا كانت البنوك ستمنع المواطنين الروس من الاحتفاظ بالحسابات التي سجلت بجوازات سفرهم الأجنبية.
تشرح لافروفا قائلةً: "إذا حدث ذلك؛ يمكننا استخدام منصات العملات المشفَّرة كبديل.. لكن لا يمكنك دفع كل شيء عن طريق العملات المشفَّرة. وعلى أي حال؛ ستحتاج إلى سحب الأموال من البطاقة الائتمانية أو الصرف نقداً".
ما تزال بورصات العملات المشفَّرة تحاول معرفة تحركاتها التالية. ارتفعت عملة "بتكوين"، التي كانت متخلّفة عن الركب في عام 2022، بأكثر من 15% منذ أواخر فبراير بسبب ظهور رواية مفادها أنَّ عدم الاستقرار المالي في روسيا، قد يجعل العملة المشفَّرة، غير المربوطة بأي حكومة، جذابة بشكل متزايد.