تجنبت بريطانيا الضرر الناجم عن الانهيار الكامل للعلاقات التجارية الرسمية مع الاتحاد الأوروبي، لكنها ستظل تواجه أكبر إعادة ضبط للعلاقات التجارية للاقتصاد المتقدم منذ الحرب العالمية الثانية.
ويسمح الاتفاق الذي توصل إليه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بعد محادثات استغرقت 11 ساعة، يوم الخميس، للمرحلة النهائية من "بريكست" أن تمضي قدماً في صورة انسحاب منظم نسبياً في الأول من يناير.
ومع ذلك، لا تزال المملكة المتحدة تواجه صدمة عنيفة، حيث أنهى نظام جمركي جديد لتعبئة الاستمارات والمراقبة، الترتيبات التجارية السلسة التي كانت قائمة منذ السبعينيات.
والنظام الجمركي الجديد يحمل في طياته مخاطر بحدوث اضطرابات في الموانئ وحتى نقص الغذاء في المتاجر؛ في حين أن الاختناقات يمكن أن تؤدي فوراً إلى تباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع الأسعار.
ويجنب الاتفاق الشعور بالصدمة من حدوث "بريكست" بدون صفقة، والتي توقعت "بلومبرغ إيكونوميكس" أنه سيؤدي إلى خفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1.5% إضافية في عام 2021 مع سريان الرسوم الجمركية، مما يعمق الركود المتوقع بسبب فرض القيود لمواجهة السلالة الجديدة لكورونا.
ومع ذلك، على المدى الطويل، فإن الاختلافات الجديدة تعنى بالتوقع بانخفاض النمو الاقتصادي 0.5% سنوياً خلال العقد المقبل مقارنة بما لو ظلت المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي.
تذوقت المملكة المتحدة طعم الفوضى المحتملة هذا الشهر، عندما أغلقت فرنسا النفق الأوروبي أو بحر المانش بسبب تصاعد تفشي الفيروس في بريطانيا، مما أدى إلى تكدس آلاف الشاحنات على الطرق خارج ميناء دوفر.
وستتمتع لندن على الأقل بالإعفاء من الرسوم الجمركية لمُصنّعيها أثناء تعاملهم مع سوق الاتحاد الأوروبي الذي يشتري حالياً أكثر من 40% من الصادرات البريطانية.
سيتي غروب: الاتفاق الجديد يشكل وصولاً ضعيفاً مصحوباً بعدد أقل من الضمانات متوسطة الأجل التي ستؤثر بشدة على نمو اقتصاد المملكة المتحدة على مدى السنوات المقبلة
لكن هذ الإعفاء لا يصب في صالح المصرفيين، والمهندسين المعماريين، والاستشاريين في صناعة الخدمات المربحة، لأن الاتفاق لم يشملهم.
وجرى وضع قواعد جديدة للهجرة لتحل محل حرية تنقل الأشخاص، مما يجعل توظيف عمال ذوي خبرة من الخارج أكثر صعوبة. وقد يعاني الاستثمار الأجنبي بمجرد أن تتوقف المملكة المتحدة عن توفير وصول بسيط إلى السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي، والتي طالما كانت حافزاً كبيراً للشركات.
وخلال الشهر الجاري فقط، اختارت شركة "نيسان موتور"، نقل أعمالها إلى اليابان، عوضاً عن تصنيع سيارتها الكهربائية الجديدة بمصنعها في مدينة سندرلاند البريطانية.
وقال بنجامين نابارو من "سيتي غروب" في تقرير إن الاتفاق الجديد يشكل "وصولاً ضعيفاً مصحوباً بعدد أقل من الضمانات متوسطة الأجل" التي ستؤثر بشدة على نمو اقتصاد المملكة المتحدة على مدى السنوات المقبلة".
المصير الاقتصادي
يغلق اتفاق بروكسل فصلاً عن فترة نادرة، وافق فيها الناخبون بمنتهى الرضا في استفتاء لتحديد المصير الاقتصادي للمملكة المتحدة.
وبعد أربع سنوات ونصف، سيبدأ الاقتصاد البريطاني في مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين بمفرده، وسيصبح أقل قدرة على الوصول إلى فرص أكبر وأقرب منطقة تجارية له (الاتحاد الأوروبي)، ولكنه أيضاً أقل التزاماً بقواعده (التكتل).
إن التخمين بأن الوضع الجديد سيؤتي ثماره على المدى الطويل، هو ما يراهن عليه جونسون. ومن المرجح أن تشرع الحكومة البريطانية الآن في سلسلة من المفاوضات الثنائية حول الاتفاقيات التجارية، مع الولايات المتحدة، باعتباره من بين الأولويات. وستتمتع الحكومة البريطانية بسلطة أكبر إزاء اللوائح والضرائب، والتي يمكن استخدامها لمساعدة الشركات.
وأي ألم اقتصادي على المدى القريب سيطغى على أي حال من خلال الارتداد الفوري من عام من الإغلاق غير المسبوق لاحتواء تفشي فيروس كورونا.
ومن المقدر أن ينمو اقتصاد المملكة المتحدة بأكثر من 5% في عام 2021 حيث يتعافى من الركود الهائل الذي فرضه الوباء، وفقاً لتوقعات الاقتصاديين التي جمعتها بلومبرغ في وقت سابق من الشهر الجاري؛ على الرغم من أن قيود كوفيد-19 قد تعني وجود مخاطر سلبية على تلك التوقعات.
كما يقلل الاتفاق من الحاجة الملحة لتوفير مزيد من الحوافز المالية أو النقدية الطارئة لتخفيف أي متاعب.
وخفض بنك إنكلترا بالفعل سعر الفائدة القياسي إلى 0.1% واستأنف شراء السندات خلال العام الجاري لمساعدة الاقتصاد خلال الوباء.
ومع ذلك، كان أندرو بيلي محافظ بنك إنكلترا صريحاً بشأن الاتجاه الإيجابي المحدود للاتفاق، قائلاً "لا يوجد شيء اسمه اتفاق بدون شوائب".
وفي حين أن حدوث "بريكست" بدون اتفاق كان سيمثل أسوأ سيناريو –كونه يسحق أجزاء من قطاع التصنيع البريطاني المتضائل- فإن العلاقات التجارية الأضعف مع أوروبا القارية، بالإضافة إلى تباطؤ النمو السكاني بسبب تشديد الهجرة، من المحتمل أن يترك المملكة المتحدة على مسار نمو منخفض لفترة أطول.
ضعف الجنيه يسهم في زيادة التنافسية
وقد يوفر ضعف الجنيه الإسترليني بعض الدعم من خلال جعل الصادرات أرخص، وبالتالي زيادة تنافسيتها.
ولم يستعد الجنيه الإسترليني بالكامل خسائره الأولية التي تعرض لها في أعقاب استفتاء 2016، مما يعكس حالة عدم اليقين المستمرة.
وجرى ترجمة حالة عدم اليقين إلى استثمارات تجارية ضعيفة، والتي نمت أقل بكثير من المستويات المتحققة في الولايات المتحدة، وألمانيا، وفرنسا.
صناعة التمويل تمثل حوالي 7% من الاقتصاد البريطاني وتم استبعاد وصولها إلى الاتحاد الأوروبي من المفاوضات بشأن اتفاقية التجارة الحرة
ويمكن أن يزداد الوضع تردياً. فقد توقعت دراسة أجرتها كلية لندن الجامعية وكلية لندن للاقتصاد أن الاستثمار الأجنبي في المملكة المتحدة قد ينخفض بنسبة 37% بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وعلى الرغم من أن صناعة التمويل تمثل حوالي 7% من الاقتصاد البريطاني وتوفر أكثر من مليون وظيفة، فقد تم استبعاد مسألة وصولها إلى الاتحاد الأوروبي من المفاوضات بشأن اتفاقية التجارة الحرة. وتواجه مهن الخدمات الأخرى مصيراً مشابهاً.
ووضع عدد من البنوك الكبرى، بما في ذلك "غولدمان ساكس" و"جيه بي مورغان تشيس آند كو" بالفعل خططاً لنقل بعض العمليات من لندن إلى القارة الأوروبية.
وسواء تحول هذا التدفق إلى فيضان؛ فمن الممكن أن يصبح ذلك أحد الاختبارات الاقتصادية الأكثر أهمية لنجاح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في السنوات القادمة.