لم تكن هذه بداية نموذجية لأسبوع العمل في سنغافورة، إذ كان الناس يصطفّون في محطة للحافلات في ضواحي المدينة الشمالية للقيام بشيء غير اعتيادي، ألا وهو القيام برحلة بحرية لمسافة تبعد أقل من ميل واحد عن جارتها ماليزيا. كانت تلك الرحلة، في وقت من الأوقات، بمثابة التنقل بين نيويورك ونيوجيرسي، إذ شهدت الحدود الحيوية اقتصادياً عبور ما يقرب من 300 ألف شخص يومياً، قبل تفشي فيروس كورونا، الأمر الذي أدى إلى إغلاق الحدود أمام معظم المواطنين منذ بداية الوباء.
اقرأ أيضاً: سنغافورة قد تعيد فرض قيود لمواجهة "أوميكرون"
لكن ذلك بدأ يتغير صباح الاثنين بالنسبة إلى عدد صغير جداً منهم. وبينما كان العالم بصدد إضافة "أوميكرون" إلى قاموس مفردات "كوفيد" المرعبة، كان هؤلاء المسافرون الذين لا يتجاوز عددهم بضع عشرات يشاركون في أكثر محاولات سنغافورة رمزيةً حتى الآن لفتح حدودها. إنه سؤال مفتوح عما إذا كان بإمكان الحكومة تحمّل المخاطر التي ستصاحب هذه الخطوة البسيطة.
اقرأ المزيد: كيف سيتغير مركز سنغافورة المالي بعد الجائحة؟
لمّ الشمل
لكن المشهد الطبيعي لتبادل الأماكن بحيّ "وودلاندز" -مع اصطفاف الأشخاص الذين يحملون حقائبهم بصبر فيما يلتزمون قواعد التباعد الاجتماعي ويُظهِرون أوراقهم في أيديهم- جاء متناقضاً مع خطورة ما كان يحدث. كان كثيرون من هؤلاء يستعدون لرؤية عائلاتهم للمرة الأولى منذ عامين، ولكن على الرغم من أن هذا لم يكن مشهداً مبكياً في المطار من فيلم "Love Actually" لعام 2003، فإنه شكّل علامة فارقة في مسار مكافحة سنغافورة للوباء، فهي جمهورية صغيرة وغنية تعتمد على استيراد العمالة والطاقة والغذاء والمياه، وتثق بقدراتها بما يكفي لتخفيف القيود على حدودها البرية. وتُعَدّ ماليزيا جارة استثنائية، بل أحد أهم شركاء سنغافورة التجاريين، إذ تتشارك الدولتان تاريخاً سياسياً وثقافياً عميقاً.
وفي حين تهدف عملية السفر البري، بالأساس، إلى لمّ شمل العائلات ويجري تنفيذها بطريقة تدريجية للغاية وتخضع لرقابة مشددة، فإنّ نجاحها أو فشلها سيوضح كثيراً بشأن رغبة بعض الاقتصادات المزدهرة، التي تحظى بمعدلات تلقيح مرتفعة، في الانفتاح حقاً. هل الهدف هو التعايش مع "كوفيد-19"؟ بالتأكيد. ولكن ما القدر الذي تستطيع تلك الاقتصادات تحمّله من تفشي المرض والمخاطر التي ينطوي عليها الانفتاح؟ لقد أصبح ذلك بمثابة سؤال "الساعة" فيما يتسابق العلماء لتقييم قابلية انتقال متغير "أوميكرون" وفاعلية اللقاحات الموجودة. وبناءً عليه فرضت الدول في جميع أنحاء العالم، بالفعل، قيوداً جديدة على السفر، إذ منعت اليابان الوافدين الجدد من الأجانب، فيما أخّرت أستراليا فتح الحدود أمام العمال والطلاب الأجانب، كما قد تؤجل كوريا الجنوبية إجراءات التخفيف المخطط لها.
العودة إلى الساحة الدولية
يعتبر كثيرون مطار سنغافورة الأرفع في شانغي بمثابة معيار لقدرة الدولة الآسيوية على الانخراط في الساحة الدولية من جديد، لكن يجب أن تشكل محطة حافلات "وودلاندز"، على الأقل، معياراً مفيداً بنفس القدر. كما يتميز الجسر الممتد عبر الحدود المائية في مضيق جوهور، بوصفه "ممراً برّياً"، عن الممرات الجوية الخالية من إجراءات الحجر الصحي للمسافرين الذين جرى تطعيمهم بين سنغافورة وكوالالمبور، التي بدأت أيضاً يوم الاثنين. يبدأ البرنامج بالتدريج، بضعة آلاف فقط كل يوم على متن حافلات تديرها شركتان فقط.
حتى لو أعرب الأشخاص الذين ينتظرون ركوب حافلة العاشرة صباحاً عن قلقهم بشأن إغلاق الحدود مرة أخرى، الأمر الذي قد يؤدي إلى محاصرتهم على الجانب الآخر، فلن يوقفهم ذلك، إذ تُعَدّ رؤية أُسَرهم أمراً يستحق المخاطرة.
بالنسبة إلى ناجاراجان، مهندس الصيانة البالغ من العمر 29 عاماً، والمقيم في إيبوه في شمال غرب ماليزيا، ستكون هذه العودة إلى الوطن أهم من أي شيء آخر تقريباً. في العام الماضي، وبينما كان عالقاً في العمل في سنغافورة، أنجبت زوجته ابنتهما، وهي طفلة رآها في الصور فقط. ناجاراجان الذي سيفاجئ عائلته بتلك الزيارة علّق متأثراً: "آمل أن يكونوا في المنزل". أما إيلي، الماليزية التي تعمل في مجال التمويل في سنغافورة ولم تتمكن من زيارة وطنها منذ عامين، فلم تكُن لتدَع "أوميكرون" يفسد يومها. كانت إيلي قد ملأت الاستمارات اللازمة وجرى تطعيمها بالكامل واتبعت الإجراءات لحجز مقعدها في الحافلة، وتساءلت ماذا كان بإمكانها أن تفعل أكثر من ذلك، وعندما سألتها عن أكثر شيء كانت تتطلع إليه، قالت: ”طعام أمي المطبوخ في المنزل. إنه أمر غالٍ".
مخاطر "أوميكرون"
بصرف النظر عن براغماتية هؤلاء الركاب، فقد تشككتُ حقيقةً بشأن قدرتهم على العودة. هل سيتمكن الأشخاص الذين لديهم تذاكر من استخدامها في الأيام والأسابيع المقبلة؟ يوم الأحد وقفت سنغافورة ممرات السفر لاستقبال المسافرين الذين تلقوا اللقاح مع عديد من دول الشرق الأوسط، فقط قبل ساعات من فتحها الباب لتلقي الطلبات، مشيرة إلى مخاطر تتعلق بـ"أوميكرون". كما حاولت سنغافورة مرات عدة خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية تدشين فقاعة للسفر الجوي مع هونغ كونغ، لكنها تخلّت عن تلك الجهود، ومن ثَم ألغت التجربة عشية انطلاق أولى رحلاتها.
كانت الحكومة حريصة على عدم استبعاد إجراء مزيد من التغييرات على قواعد التنقل الحدودية، التي لا تزال من أكثر القواعد صرامة في العالم. قال رئيس الوزراء، لي هسين لونغ، في خطاب ألقاه يوم الأحد: "لسنا متأكدين بعدُ، لكننا قد نضطر إلى التراجع بضع خطوات إلى الوراء قبل أن نتمكن من اتخاذ مزيد من الخطوات إلى الأمام".
آثار اقتصادية
إذا أغلقت سنغافورة أبوابها مرة أخرى فسيكون لذلك تأثير أكبر بكثير من مجرد إعاقة المغتربين الذين يزورون أُسَرهم أو السنغافوريين الذين يذهبون إلى أوروبا لممارسة رياضة التزلج. ليس عليك البحث كثيراً للعثور على دليل على نقص العمالة، إذ تقدّم السلطات الصحية 12 ألف دولار سنغافوري (8750 دولاراً أمريكياً) أتعاباً للباحثين عن الممرضات المتمرسات والتوصية بتوظيفهن. كما علّقت لافتات "مطلوب المساعدة" على جدران كل شيء من متاجر الوجبات الخفيفة النباتية في وسط المدينة إلى مراكز الباعة المتجولين في الأحياء المنتشرة في الضواحي. وفي أثناء تجوالي لتناول الغداء، في الأسبوع الماضي، قابلت روبوتاً لتوصيل الطعام يجري اختباره من قِبل شركة "غراب هولدينغز" (Grab Holdings).
تفادت سنغافورة تكبّد تكلفة اقتصادية باهظة نظير إجراءاتها الصارمة لمكافحة الوباء هذا العام، كون الانتعاش الكبير في التجارة العالمية أسهم في تعزيز اقتصادها، لكن التوسع سيكون أبطأ بكثير في عام 2022. وبالنسبة إلى دولة تعلن انفتاحها على العالم وتحظى بمعدل تلقيح مرتفع للغاية، لا ينبغي أن يكون استمرار تشغيل الحافلات أمراً مبالغاً فيه.