يعتزم بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي تقييد الائتمان برغم أنَّ التوقُّعات تشير إلى تباطؤ نمو الاقتصاد في الولايات المتحدة، وتراجع معدلات التضخم التي ارتفعت مؤخراً.
ومع حدوث أدنى خطأ في الإجراءات، يخاطر البنك المركزي، إما بالإفراط في استخدام أدواته وأسلحته، أو بمزيد من فقدان المصداقية.
استناداً إلى "مؤشر المفاجأة الاقتصادية" الذي يُصدره بنك "سيتي غروب"، تأتي البيانات الاقتصادية المرتقبة أقل من التوقُّعات إلى حدٍّ لم نشهده منذ الأيام الأولى من انتشار جائحة كورونا.
رئيس الاحتياطي الفيدرالي: تخفيف شراء الأصول قد يبدأ هذا العام... ولا تسرع في رفع الفائدة
تراجع الإنفاق
وتكشف الدراسات المسحية التي أجراها بنك الاحتياطي الفيدرالي لمدينة نيويورك أنَّ المستهلكين لا يُظهرون ميلاً إلى إنفاق ما يتلقونه من أموال التحفيز المرتبطة بانتشار جائحة كورونا، وقد ادّخروا 71% من الأموال التي صُرفت لهم في يونيو 2020، وادّخروا نسبة أكبر بلغت 74% من دفعات شهر ديسمبر، و75% من الأموال التي حصلوا عليها في شهر مارس.
كذلك؛ كانت محاولات الاحتياطي الفيدرالي لتنشيط الاقتراض والإنفاق عديمة الجدوى. فمنذ عام 2019؛ رفع البنك مستوى عرض النقود بمقياس (M2) بنسبة 34%، على أنَّ هذه النقود تعطَّلت مع انخفاض معدل الدوران بنسبة 22% إلى مستويات قياسية متدنية.
الوباء مازال ينهش الاقتصاد.. هذا ما سمعه باول في جلسات استماع الاحتياطي الفيدرالي
تداعيات "دلتا"
ومع توقُّف صرف 300 دولار إضافية بشكل أسبوعي، والتي تخصُّ إعانات البطالة الفيدرالية؛ ستنخفض الدخول الحقيقية – التي تآكلت فعلاً بسبب ارتفاع التضخم مؤخراً – من جديد بعد تراجعها بنسبة 1.7% على أساس أسبوعي خلال الفترة من شهر يناير حتى نهاية أغسطس الماضي.
وقد يتأثَّر النشاط الاقتصادي سلباً مرة أخرى بسبب سلالة "دلتا" المتحوِّرة سريعة الانتشار من فيروس كوفيد-19، إذ تؤجِّل شركات عديدة منها: "أبل"، و"أمازون"، و"ويلز فارغو"، و "شيفرون"، و "برودينشال فايننشال"، و"مايكروسوفت" فتح مكاتبها لجميع العاملين بها.
وارتفعت أعداد الوظائف الجديدة بمقدار 235 ألف وظيفة فقط في شهر أغسطس، مقارنة مع 1.1 مليون وظيفة في شهر يوليو، وسجلت أدنى مستوى لها منذ شهر يناير الماضي.
انخفاض التضخم
برغم أنَّ معدلات التضخم تنخفض بوتيرة أبطأ مما كان يأمل به مجلس الاحتياطي الفيدرالي؛ فإنَّها ستستمر في هبوطها مع زوال المعوقات المرتبطة بإعادة فتح الاقتصاد، واختناقات سلاسل التوريد. وقد انخفض فعلاً مؤشر أسعار المستهلك الأساسي الشهري من 0.9% في شهر يونيو إلى 0.3% في يوليو، ثم إلى 0.1% في شهر أغسطس.
من غير المرجح أن تحفِّز مخاوف ارتفاع التضخم المستهلكين على الإنفاق الاستباقي. وكالعادة، تعكس توقُّعات التضخم على مدار سنة واحدة حالة الماضي القريب، لكنَّ تقارير مسحية لجامعة "ميتشجان" أظهرت أنَّ المستهلكين يتوقَّعون تضخماً سنوياً بنسبة 2.9% على مدى خمس سنوات.
ولا شك أنَّ هذه التوقعات مغالية في ارتفاعها، بطبيعة الحال، في ضوء أنَّ الناس عموماً يميلون إلى المبالغة في تقديرات التضخم.
فإذا انخفضت الأسعار التي يدفعونها مقابل السلع، ينسب المستهلكون ذلك إلى مهارتهم في التسوق، ولكنَّهم يضجون بالشكوى عندما ترتفع الأسعار، و تُفرض عليهم بفعل قوى لا يسيطرون عليها.
يكشف معدل التعادل، الذي يمثِّل الفرق بين عائد سندات الخزانة الأمريكية التقليدية والعائد على سندات الخزانة المحمية من التضخم (TIPS)، أنَّ المتعاملين يتوقَّعون ارتفاعاً في معدلات التضخم في السنوات المقبلة. ومع ذلك؛ فإنَّ المعدل المتوقَّع ضمنياً الذي يبلغ 2.5% على مدى خمسة أعوام قادمة، هو المعدل نفسه في عام 2007.
تخفيض مشتريات السندات
وهكذا، برغم تباطؤ نمو الاقتصاد، وانخفاض معدلات التضخم، ألمح مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى التخفيف التدريجي من مشترياته الشهرية من سندات الخزانة بقيمة 80 مليار دولار، ومن الأوراق المالية المدعومة بقروض الرهن العقاري بقيمة 40 مليار دولار، ويحتمل أن تكون البداية من شهر نوفمبر.
ويخشى المستثمرون من أن يتبع الأمر بارتفاع أسعار الفائدة. كما أنَّ موجة بيع سندات الخزانة في شهر سبتمبر الماضي أعادت إلى الأذهان ذكرى فوضى واضطراب الأسواق من سحب برامج التيسير الكمي في عام 2013.
ومنذ 22 سبتمبر الماضي، قفز العائد على سندات الخزانة القياسية وفق استحقاق 10 سنوات من 1.3% إلى 1.5%، وعلى السندات من استحقاق 30 عاماً، من 1.8% إلى 2.1%.
هناك مغالاة لهذه الزيادة في عوائد السندات إلى حدٍّ كبير. فعلى مدى زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ كان التضخم مسؤولاً عن 60% من عوائد سندات الخزانة، كما أنَّ ارتفاع التضخم بنسبة كبيرة في السنوات المقبلة غير متوقَّع.
إنَّ الصين واقتصادات آسيا الأخرى من كبريات الدول المنتجة والمصدِّرة، لكنَّها بخيلة، وتقتر في الاستهلاك. ولذلك يتجاوز عرض السلع والخدمات مستوى الطلب، ويفرض واقعاً انكماشياً بدرجة عالية.
ارتفاع السندات
هناك عوامل أخرى تؤدي إلى تخفيض حدَّة التضخم، وتشمل ارتفاع أعمار السكان على مستوى العالم، بما يؤدي إلى تراجع الإنفاق الاستهلاكي. وحتى قبل ارتفاعها مؤخراً، كانت عوائد سندات الخزانة الأمريكية أعلى من عوائد الديون السيادية في كل دولة متقدِّمة أخرى تقريباً. ولذلك تجد سندات الخزانة الأمريكية جذابة بالنسبة للمستثمرين الأجانب، كما أنَّ زيادة قوة الدولار تدعم عوائد هذه السندات أكثر عند تحويلها إلى عملات أخرى.
مخاوف التضخم ترفع عائدات سندات الخزانة لأعلى مستوى في ثلاثة أشهر
من الممكن أن يؤدي تشديد الاحتياطي الفيدرالي لسياسته النقدية إلى تهدئة مخاوف المستثمرين من التضخم، وذلك لمعرفتهم بأنَّ صنَّاع القرار يتَّسمون باليقظة عند نقاط التحوُّل.
وقد ينتج عن ذلك استواء منحنى العائد مع قيام البنك المركزي بزيادة أسعار الفائدة قصيرة الأجل في وقت انخفاض عوائد السندات طويلة الأجل.
غير أنَّ هذا السيناريو يواجه رياحاً معاكسة؛ فارتفاع سعر الفائدة لليلة واحدة على أرصدة الاحتياطي الفيدرالي بواقع 100 نقطة أساس كان يترتب عليه تاريخياً زيادة بواقع 36 نقطة أساس في عوائد سندات الخزانة من استحقاق 10 سنوات، و 24 نقطة أساس في عوائد السندات من استحقاق 30 عاماً.
مخاطر رفع الفائدة
إنَّ الاحتياطي الفيدرالي يخاطر بتشديد السياسة النقدية إلى الدرجة التي تنتج عنها مشكلات مالية كبرى، فضلاً عن ركود في الاقتصاد.
وكذلك؛ فإنَّ زيادة سعر الفائدة بنسبة كبيرة قد يكشف عن مستويات مديونية زائدة تستدعي إشهار الإفلاس في عدد من القطاعات المالية، في حين تتعرَّض للخطر أنشطة شهدت مضاربات كبيرة، مثل أسواق العملات المشفَّرة، وشركات الاستحواذ ذات الأغراض الخاصة، بالإضافة إلى مستثمرين أفراد ارتبطوا بشركة "روبن هود ماركتس" للخدمات المالية.
وفي الوقت نفسه، يظهر بنك الاحتياطي الفيدرالي أكثر فأكثر كأنَّه ذراع من أذرع الحكومة الفيدرالية، لا يقوم بتمويل وزيادة عجز الموازنة عبر شراء سندات الخزانة فحسب؛ بل يقوم كذلك بتوفير السيولة النقدية لشراء الأسهم والأصول الأخرى المعروفة بأصول المخاطرة منذ الأزمة المالية لعام 2008.
منذ سنوات مضت، أطلقت "وول ستريت" مصطلح "خيار جرينسبان"، الذي يشير إلى أنَّ أيَّ ضعف تشهده سوق الأوراق المالية يمكن وقفه، أو بيعه إلى مجلس الاحتياطي الفيدرالي مقابل الحصول على دعم من البنك المركزي. ثم جاء "خيار برنانكي"، و تبعه "خيار يلين" ثم وصلنا الآن إلى "خيار باول".
كانت آخر مرة اتخذ فيها بنك الاحتياطي الفيدرالي موقفاً مستقلاً بحقٍّ دون أن يحظى بشعبية، هي عندما قام برفع أسعار الفائدة في عهد بول فولكر إلى مستويات تستدعي الركود في عام 1980.
غير أنَّ ذلك كان رد فعل على أوضاع مزرية: مثل ارتفاع معدل التضخم إلى أرقام مزدوجة (10% فأكثر)، ورفض البنوك المركزية الأجنبية مواصلة دعم الدولار الأمريكي.
إنَّني أعتقد أنَّ الاحتياطي الفيدرالي سوف يوقف سياسة تقييد الائتمان التي قد تتسبَّب في أزمات اقتصادية ومالية خطيرة.
غير أنَّ قدرة بنك الاحتياطي الفيدرالي على ضبط سياسته بما يكفي لاستعادة مصداقيتها دون أن يدفع أسواق المال والاقتصاد ككل إلى حافة الأزمة أصبحت محل شكٍّ وتساؤل.