خلّفت أحداث العام الماضي ذكريات أليمة لا تُنسى لدى الكثيرين ممن كانوا يتداولون العملات المشفرة بغرض كسب الدخل.
في سلسلة من التغريدات دوّنها يوم 7 نوفمبر الجاري، وصف ترافيس كلينغ الذي يدير شركة "إيكيغاي أسيت مانجمنت" (Ikigai Asset Management) هذه الأحداث، بالقول: "أسوأ يوم في مسيرتي المهنية، وأحد أسوأ أيام حياتي، كان ذلك اليوم الذي جمّدت فيه إف تي إكس (FTX) عمليات السحب من المنصة". فبعد أربعة أيام، تقدّمت البورصة التابعة لسام بانكمان فريد بطلب للحماية من الإفلاس، ما قاد بالتالي إلى أتعس الأيام في تاريخ التشفير.
كتب كلينغ: "كانت الأسابيع الأولى قاسية بشكل مفزع. لم أنم بالقدر الكافي على الإطلاق. سيطرت عليّ مشاعر الرعب والذنب والخزي. لقد قمنا بتسريح معظم أفراد فريق العمل".
بعد مرور عام على هذه التطورات، تغيرت الصناعة إلى الأبد- لكنها أصبحت في الوقت ذاته مألوفة في نواح عديدة، وبشكل ملحوظ.
في أغلب الأحيان، اختفى المتداولون اليوميون الذين أصابتهم الصدمة، وانهارت الرافعة المالية السخية التي كانت قد دفعت "بتكوين" إلى أعلى مستوى لها في نوفمبر 2021 بالقرب من 69 ألف دولار. حدث الأمر ذاته مع مشاهير ومؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي يبيعون الرموز غير القابلة للاستبدال وعملات الميم. الجهات التنظيمية التي كانت قد قرّرت عدم الاهتمام بهذه الصناعة، بادرت بتشديد قبضتها التنظيمية عليها، فيما بدأت الشركات المالية الكبيرة مثل "بلاك روك" (BlackRock Inc) تتحرك لتبنّي التشفير، مراهنة على احتمال منح لجنة الأوراق المالية والبورصات الأميركية أول تصريح بممارسة النشاط لصندوقها المتداول في البورصة الذي يستثمر مباشرة في "بتكوين".
بتكوين قرب أعلى سعر في عام وسط أنباء عن طرح صندوق تداول فوري للعملة المشفرة
"بتكوين" تعوض خسائرها
ربما يكون المؤشر الأكثر واقعية على أن التشفير قد تجاوز تلك الكبوة، هو أن "بتكوين" عوّضت جميع خسائرها منذ انهيار العملة المستقرة "تيرا يو إس دي" (TerraUSD) في مايو 2022، التي كانت قد أثارت موجة من الانهيارات أدت في نهاية المطاف إلى انهيار "إف تي إكس".
قال جيف دورمان، كبير مسؤولي الاستثمار في شركة "أركا" (Arca) لإدارة الأصول: "الناس ذاكرتهم قصيرة".
يرى بعض المراقبين أن الصناعة لا تزال تعاني من المضاربة المتزايدة، ومن عدم كفاية الضمانات.
أصبحت عملة "تيذر" المستقرة -وهي أحد أركان القطاع التي لطالما عصفت بها التكهنات حول جودة الأصول التي تدعمها، والادعاءات بأن المجرمين يستخدمونها- أكثر هيمنة في الأشهر الأخيرة. لا تزال منصة "بينانس" (Binance)، وهي أكبر بورصة تشفير، تعمل من دون وجود مقر رسمي لها.
قالت هيلاري ألين، أستاذة القانون في كلية القانون بالجامعة الأميركية في واشنطن، والتي كتبت عن تأثير التشفير على الاستقرار المالي: "لا تزال الصناعة تقدم في المقام الأول أصولاً يمكن تكوينها من لا شيء، وبقيمٍ يمكن التلاعب بها بشكل بارز. ما زلنا نرى منصات تشفير تمارس أنشطة الوساطة -مع كل ما في ذلك من تضارب مصالح تنطوي عليه- ولا تزال هناك مزاعم بأن المنصات تخلط بين أصول العملاء".
بتكوين تخترق 36 ألف دولار وسط آمال بالموافقة على صناديق تداولها
فيما يلي بعض التغيرات التي طرأت على التشفير منذ انهيار "إف تي إكس":
السوق
في الوقت الذي انهارت فيه "إف تي إكس"، كانت سوق التشفير بالفعل ترزح تحت وطأة أشهرٍ عديدة من الانهيارات، أطاحت بكل من "تيرا يو إس دي" وصندوق التحوط "ثري أروز كابيتال" (Three Arrows Capital) وشبكة الإقراض "سيلزيوس" (Celsius Network). لكن انهيار "إف تي إكس"، التي كانت يوماً ما واحدة من أكبر منصات التشفير من حيث أحجام التداول، كان الأكثر إضراراً بسوق التشفير، وفقاً لآرون براون، وهو مستثمر في مجال التشفير، والذي يكتب لمنصة الرأي في "بلومبرغ".
قال براون: "لم تكن (إف تي إكس) سوى ذروة عام من الانهيارات التي ضربت مجال ائتمان التشفير. فالانهيار خفّض بشكل حاد أرباح التداول السهلة، ورسوم الصرف من المتداولين الأفراد، كما أضرّ الانهيار بالمضاربات والرموز غير القابلة للاستبدال وغيرها من الأصول التي كانت متضخمة".
تراجع عدد الصفقات خارج المنصات، ولم يتبقّ منها سوى الصفقات الأكثر تحفظاً بشكل أساسي، وفقاً لتيغان كلاين، وهو مؤسس مشارك في شركة "إيدج أند نود" (Edge & Node) التي طوّرت مشروع تشفير يُسمى "ذا غراف" (The Graph). أدى ذلك إلى استنزاف السيولة، إلى جانب تهاوي الرافعة المالية.
قال كلاين: "اختفت الرافعة المالية. وقد سحب الكثير من المستثمرين الأموال من (إف تي إكس)، أو أن لديهم أموالاً عالقة بها".
أطلق عدد من بورصات العملات المشفرة برامج إقراض جديدة في الأشهر الأخيرة، بينما يُتوقع أن تظهر العديد من مشاريع الإقراض قريباً، على أمل سد الفجوة. يمكن أن تساعد الموافقة على إطلاق صندوق متداول قائم على "بتكوين" في زيادة السيولة أيضاً.
أما الرموز المشفرة غير القابلة للاستبدال فهي واحدة من أكثر جوانب التشفير تضرراً، حيث اشتُهرت بمجموعاتها الكرتونية مثل "بورد إيب ياكت كلوب" (Bored Ape Yacht Club)، وشخصيات "كريبتو بونكس" (CryptoPunks)" المنقّطة. انخفض التداول الأسبوعي للرموز غير القابلة للاستبدال إلى نصف ما كان عليه عندما أفلست "إف تي إكس".
قفزة بتكوين تؤشر على تفاعل الأسواق حال إطلاق صناديق لتداول العملة المشفرة
الملاحقات التنظيمية
شأنه شأن أي حدث وقع قبله، نبّه انهيار "إف تي إكس" الحكومات في جميع أنحاء العالم إلى الحاجة إلى تشديد القيود المتعلقة بالتشفير. وفي غضون فترة وجيزة، بدأت لجنة الأوراق المالية والبورصات ولجنة تداول السلع الآجلة في الولايات المتحدة، تلاحقان كبريات المنصات مثل "بينانس" (جنباً إلى جنب مع رئيسها التنفيذي تشانغبنغ "سي زد" تشاو)، و"كوين بيس غلوبال" (Coinbase Global Inc) و"كراكن" (Kraken).
قال جاكوب جوزيف، محلل الأبحاث في شركة تحليلات التشفير "سي سي داتا" (CCData): "كثفت الأجهزة التنظيمية رقابتها على المنصات المركزية منذ انهيار (إف تي إكس)".
من جانبه، اعتمد الاتحاد الأوروبي إطار "ماركتس" (Markets) لتنظيم الأصول المشفرة في مايو، والذي يوفر إطاراً قانونياً جديداً لهذه الصناعة. كما أدخلت كل من هونغ كونغ ودبي قواعد تنظيمية جديدة للعملات المشفرة خلال الصيف الماضي، وتعهدتا بتضييق الخناق على الممارسات المخالفة، باعتبارهما مركزين جديدين للصناعة. وفي الوقت ذاته، واصلت الجهات التنظيمية في جميع أنحاء العالم تضييق الخناق على "بينانس"، التي أنهت أعمالها في دول مثل كندا وهولندا نتيجة هذه الضغوط. بالنسبة إلى "تشاو" فهو ليس رائد التشفير الوحيد الذي يجد نفسه في مرمى النيران. في يوليو الماضي، وبعد عام من تقدّم منصة "سيلزيوس" بطلب للحماية من الإفلاس، أُلقي القبض على رئيسها التنفيذي السابق أليكس ماشينسكي، ووُجهت إليه تهمة الاحتيال (دفع ببراءته من هذه التهمة). قبل أسبوع، أُدين بانكمان فريد بسبع اتهامات بالاحتيال والتآمر بعد محاكمة استمرت شهراً أفضت إلى تحريك شهادة ملك التشفير السابق ضدّ عدد من أقرب أصدقائه.
دبي تفرض غرامة على "ثري أروز" بسبب مشروع عملات مشفرة جديد
قال كوري كليبستن، الرئيس التنفيذي لشركة "سوان" (Swan) للخدمات المالية في "بتكوين": "يظهر حكم الإدانة هذا أن مرتكبي هذه الأنواع من عمليات الاحتيال سيواجهون القانون في نهاية المطاف، ويلقون عواقب جرائمهم، حتى في مجال التشفير".
رأس المال الجريء
خلال الأيام الحافلة بالزخم في عام 2021 وأوائل 2022، كان أصحاب رؤوس الأموال من أكبر الداعمين لهذه الصناعة، حيث ضخوا مليارات الدولارات في الشركات الناشئة في مراحلها الأولية.
لكن انهيار "إف تي إكس" أثار تراجعاً متسرعاً، حيث انخفض تمويل مشاريع التشفير بـ63% إلى ملياري دولار خلال الربع الثالث مقارنة بمستواه قبل عام، وفقاً لشركة "بيتش بوك" (PitchBook).
قال ديفيد باكمان، الشريك الإداري في شركة "كوين فند" (CoinFund) لاستثمار رأس المال الجريء في التشفير: "نشهد عدداً أقل من الدولارات التي تُنفق في هذا القطاع". وأضاف أن رؤوس الأموال التي تركز على التكنولوجيا انصرف اهتمامها عن التشفير، وتركز على مجالات جديدة أكثر زخماً مثل الذكاء الاصطناعي.
تعرضت شركات رأس المال الجريء التي ضخّت ما يقرب من ملياري دولار في "إف تي إكس"، لانتقادات شديدة لعدم اكتشاف الاحتيال. تواجه كل من "سيكويا كابيتال" (Sequoia Capital) و"توما برافو" (Thoma Bravo) و"باراديغم" (Paradigm) دعوى قضائية جماعية أقامها مستثمرون سابقون في "إف تي إكس" يزعمون فيها أن شركات رأس المال الجريء الثلاث روّجت لشرعية "إف تي إكس".
يقول باكمان إنه نتيجة لذلك، يجري المستثمرون حالياً عمليات فحص حول هذه الخلفية لمؤسسي الشركات، ويطلبون بيانات ثابتة عن عدد من المؤشرات مثل الإيرادات وزيادة عدد العملاء، مضيفاً: "إنهم بحاجة إلى أكثر من خطة عمل".
وفقاً لباكمان، تكيّفت الشركات الناشئة مع هذا الوضع أيضاً، فاختارت بشكل متزايد إطلاق أنشطتها في أماكن مثل سنغافورة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، والتي يُنظر إليها على أنها أكثر ملاءمة للتشفير مقارنة بالولايات المتحدة.
من جانبها، قالت كيت لورانس، الرئيسة التنفيذية لشركة "بلوكسيليرات في سي" (Bloccelerate VC) إن "الوفرة غير المنطقية" التي ميّزت السباق المحموم نحو التشفير، طغت على الحاجة إلى التدقيق في الاستثمارات المحتملة، ولكن الوقت الآن مختلف كثيراً بالنسبة إلى شركات رأس المال الجريء. ولفتت إلى أن "الفحص النافي للجهالة "لم يعد أمراً يمكنهم تجاهله".
بريطانيا تعتزم تنظيم العملات المشفرة "وفق قواعد مشددة"
التمويل اللامركزي
أدى انهيار بورصة "إف تي إكس"، وهي بورصة مركزية، إلى إعادة التركيز على التمويل اللامركزي، وفقاً لبول فيراديتاكيت، الشريك الإداري في شركة رأس المال الجريء للتشفير "بانتيرا كابيتال" (Pantera Capital).
أضاف: "نشهد فئة جديدة من شركات التمويل اللامركزي في مجال المشتقات والمنتجات المهيكلة، والشركات التي تأمل في توفير حدّ فاصل بين الضمان والتسوية، والشركات التي توفر المزيد من الشفافية حول الائتمان".
على الرغم من أن القيمة الإجمالية للعملات المشفرة المقفلة على تطبيقات التمويل اللامركزي لا تزال منخفضة مقارنة بالعام الماضي، فإنها انتعشت في الأشهر الأخيرة.
يقول كلاين، من "إيدج أند نود"، إن "إف تي إكس" نبّهت إلى خطر المحافظة على الأصول الرقمية الخاصة ضمن منصة تداول مركزية. لا يزال مستخدمو "إف تي إكس" السابقون يسعون إلى استرداد نحو 16 مليار دولار من العملات المشفرة التي كانت عالقة في المنصة عندما انهارت.
على الرغم من كل محاولات البحث عن الذات هذه، والتغيير الذي جلبه الانهيار الفوضوي الذي أحدثه انهيار "إف تي إكس"، قد تكون المنصة المفلسة على وشك الشروع في الفصل الثاني من مسيرتها. فهناك ثلاثة عروض تتنافس في مزاد لشراء ما تبقى من أصول "إف تي إكس" سعياً لإعادة تشغيلها. يقول كلاين: "الأمر يبدو كأنه: هل تمزح معي؟ ألم تتعلم شيئاً".