بالنسبة لمصرفي محنك مثل جان مارك فورنري، فإن أقل ما يمكن قوله عن الطريقة التي حرّك بها الأموال عام 2014 أنها تبعث على الاستغراب.
فورنري، الذي عمل خلال مسيرته المهنية المرموقة مستشاراً لوزير مالية فرنسي، وارتقى السلم الوظيفي إلى أعلى المراتب في مجموعة "كريدي سويس"، وأدار شركة الاندماج والاستحواذ الخاصة به، قام في ذلك العام بإغلاق شركته في جزر الباهاماس وتحويل نحو 1.5 مليون دولار من حساب غير معلن في البنك السويسري إلى حسابٍ باسمه في لندن. عملية تحويل الأموال هذه، أدّت إلى إضاءة كافة الإشارات التحذيرية لدى هيئة مراقبة مكافحة غسيل الأموال في فرنسا ولفتت انتباه مصلحة الضرائب. وبعد بضع سنوات، كشفت مداهمة الشرطة لمنزله خارج باريس في 2017 عن وجود نحو 6.5 مليون دولار مخبأة في حساب آخر لم يتم الإبلاغ عنه، وكان هذه المرة في بنك "مورغان ستانلي" في الولايات المتحدة.
إلاّ أن فورنري، والذي كان من المقرر أن يواجه محاكمة بتهمة الاحتيال الضريبي، توفي أواخر العام الماضي عن عمر يناهز 61 عاماً ودفنت أسراره معه. لكن تفاصيل القضية ظهرت مجدداً، عندما تم تقديم مدير ثروة فورنري والمحامي السويسري الذي ساعده في تأسيس شركته في جزر البهاماس للمحاكمة في باريس الأسبوع الماضي، وذلك في أحدث مثال على عزم السلطات الجنائية الفرنسية على ملاحقة المتهربين من الضرائب المزعومين فحسب، ولكن أولئك الذين يمكن اعتبارهم مسهلين ومساعدين لهم أيضاً.
الوسطاء كالمحتالين
لاقت الجهود الحثيثة لتوسيع نطاق المساءلة للمسهلين والمتعاونين على الاحتيال الضريبي نجاحاً في فرنسا. فقد نجم عن القضية البارزة التي رفعتها شركة "باركيه ناشيونال فاينانسيير" (Parquet National Financier) في السنوات الأخيرة، على سبيل المثال، إدانة خمسة مصرفيين سابقين في مجموعة "يو بي أس" (UBS Group AG)، وفرض غرامة قياسية بلغت 5.5 مليار دولار على البنك الذي يتخذ من زيورخ مقراً له. وفي قضية أخرى، وقع محامي الضرائب لدى وريثة مصممة الأزياء نينا ريتشي والرئيس التنفيذي لشركة "ريل أند سي" (Reyl & Cie) في شباك تحقيقٍ بخصوص حساب سويسري سري لوزير فرنسي.
حيث اعتبر المدعي العام سيباستيان دي لا توان خلال المحاكمة أن "اللوم يقع أيضاً على الوسطاء، فهم قد يكونون مسؤولين تماماً كالمحتالين أنفسهم". وهو يسعى حالياً للحصول على عقوبة السجن لمدة 18 شهراً، مع وقف التنفيذ، وغرامة قدرها نحو 300 ألف يورو للمحامي السويسري جون ميتزغر، وسجن لمدة عام واحد، مع وقف التنفيذ، وغرامة قدرها 150 ألف يورو لمدير الثروة ميشيل غلاس.
لم يكن لأي منهما أي علاقة بالملايين السرية في حساب "مورغان ستانلي"، ويؤكد كلاهما أنه ليس لديهما أي فكرة عن حالة الفوضى التي كانت تعم الشؤون الضريبية لشركة فورنري. كاشفين أن فرق الامتثال في بنك "كريدي سويس" في بريطانيا قامت بمراجعة حساب الشركة، المسجلة في جزر البهاماس، لدى البنك السويسري مرّاتٍ عدّة ولم يكن هناك ما يثير أي مخاوف على الإطلاق.
مكانة المتهم
أثناء مخاطبته القضاة، قال المحامي السويسري ميتزغر: "كان الأمر بالنسبة لي بمثابة المفاجأة، بل حتى الصدمة، عندما علمت بأن شخصاً بمكانة السيد فورنري لم يعلن عن ثروته". لافتاً إلى أن أصل الأموال، وهي خيارات أسهم مكتسبة من العمل في "كريدي سويس"، تدعو للاعتقاد بأنه "لم تكن عليها أي شائبة من وجهة النظر الضريبية".
إلاّ أن القاضي كريستين مي، والتي تشرف أيضاً على قضية "يو بي أس"، كانت متشككة، معتبرة أن نوع الشركة التي تم إنشاؤها في جزر الباهاماس لصالح فورنري "يمكن استخدامها كغطاء لإخفاء الأصول عن إدارة الضرائب الفرنسية. ألم يخطر هذا ببالك؟"
من المتوقع صدور حكم في القضية بتاريخ 24 يونيو. ورفض كل من "كريدي سويس" و"مورغان ستانلي" التعليق على القضية. وكذلك فرانسوا اسكلاتين، محامي ابنة فورنري.
يشتبه المحققون الفرنسيون في أن ميتزغر أنشأ عن قصد الشركة في جزر البهاماس لمساعدة فورنري على إخفاء أكثر من مليوني دولار من خيارات أسهم "كريدي سويس" عن سلطات الضرائب الفرنسية. أما غلاس، مدير أمواله، فهو متهم بالتمهيد لهذه الخطوة من خلال تقديم فورنري إلى ميتزغر في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
في ذلك الوقت، كان فورنري قد استقال من منصبه نائباً لرئيس "كريدي سويس فيرست بوسطن" في أوروبا ليبدأ شركته المتخصصة "بيوسيفايل فاينانس" (Bucephale Finance) لاستشارات عمليات الاندماج والاستحواذ ومقرها باريس.
لكن غلاس - الذي كان يعمل في بنك "كريدي سويس" في ذلك الوقت - ينفي أي تورط له في شركة جزر البهاماس. مفصحاً أنه عندما أخبره فورنري عنها، فإن السبب الذي قدّمه "لم يجعلني أشك فيه".
يتابع غلاس قائلاً: "لم يكن يرغب فورنري بأن يعرف الكثير من الناس في بنك "كريدي سويس" عدد خيارات الأسهم التي لديه". غير أنه يشير إلى أنه في حين أن الشركة في جزر البهاماس حدّت من عدد موظفي "كريدي سويس" الذين يعرفون ذلك، إلاّ إنها لم تكن لتحمي هوية فورنري في حالة إجراء تحقيق.
هدف سهل
إن وفاة فورنري جعلته هدفاً سهلاً خلال المحاكمة. ويرى جان بيير فيرسيني-كامبينشي، محامي ميتزغر، أن المزاعم بشأن محاولة المصرفي الفرنسي الراحل التهرب من الضرائب لم تكن واضحة لموكله. وفي سعيه إلى إيجاد ثغرات في قضية الادعاء، يلفت فيرسيني-كامبينشي إلى حقيقة أن حساب فورنري في "مورغان ستانلي" لم يتم تعقبه رغم أنه ليس لديه وجود اعتباري في جزر البهاماس وكون الحساب باسمه الشخصي.
فورنري كان قد بدأ قبيل وفاته بترتيب شؤونه الضريبية. وبحسب القاضي مي، فإن المستحقات التي تم تجنّبها ضريبياً في حساب شركة جزر البهاماس بلغت نحو 540 ألف يورو (658 ألف دولار). كما أن من بين التعاملات الأخرى غير المعلنة لعام 2014، دفعة بنحو 100 ألف يورو لاستئجار فيلا في بلدة "سان جيان كاب فيرات" بمنطقة الريفيرا الفرنسية، وبيع شركة "بيوسيفايل" لعمل فني للفنان بيير سولاجي، وبيع قطعتين من مصنوعتين من مينا ليموج (Limoges) بأكثر من 300 ألف يورو.
في حين كشف محامي إدارة الضرائب الفرنسية أن صفقة بحوالي 3 ملايين يورو لتسوية مستحقات فورنري أوشكت على الانتهاء.
تخرّج فورنري من "إيكول ناسيونال دأدمينيستراسيون" (Ecole Nationale d’Administration) النخبوية الفرنسية، والتي خرّجت رؤساء للبلاد ورؤساء تنفيذيين لكبريات الشركات. وكان فورنري قد عمل مستشاراً لعمليات الاندماج والاستحواذ لأكبر الأسماء الفرنسية. وتتضمن إنجازاته في "كريدي سويس" أنه كان المستشار الرئيس لشركة "توتال فينا" (Total Fina SA) في معركتها للاستحواذ على شركة "إلف أكويتاين" (Elf Aquitaine) في عام 1999، لإنشاء واحدة من أكبر مصافي النفط في أوروبا.
وخلال مطالعته، قال غلاس لمحكمة باريس: "حتى يومنا هذا، لا أفهم لمَ يخاطر شخص بمكانته بهذا الشكل. هذا غير منطقي بالنسبة لي".