من وراء تدمير صناعة السيارات الأمريكية؟

خلال العقود الماضية تراجعت حصة شركات السيارات الأمريكية في السوق الأمريكية لصالح السيارات المستوردة - المصدر: بلومبرغ
خلال العقود الماضية تراجعت حصة شركات السيارات الأمريكية في السوق الأمريكية لصالح السيارات المستوردة - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

- مقال رأي

خلال العقود الستة الماضية، تراجعت حصة أكبر ثلاث شركات أمريكية لصناعة السيارات - "جنرال موتورز" و"فورد" و"كرايسلر" - في السوق الأمريكية من أكثر من 90% إلى أقل من 50% اليوم.

في هذا المقال نحاور "كينيث وايت"، مؤلف كتاب "تجريد ديترويت: جنرال موتورز ونهاية الشركة الأمريكية"، (The Sack of Detroit: General Motors and the End of American Enterprise) حول أسباب هذا التراجع.

"رالف نادر"

جو نوسيرا: يدور كتابك حول ما حدث لشركة "جنرال موتورز" في منتصف الستينيات، وكيف أن ذلك لم يضر فحسب صناعة السيارات الأمريكية، بل وضع الولايات المتحدة على مسارٍ مناهض للأعمال التجارية، لم تتعافَ منه بالكامل، وأعتقد أنه إذا قمت بتلخيص فرضيتك في جملة واحدة فستكون: "كل ذلك خطأ رالف نادر".

كينيث وايت: حدث شيء شبه كارثي لشركة "جنرال موتورز" في الستينيات، وما زالت تداعياته معنا حتى اليوم، وقاد "رالف نادر" -السياسي الأمريكي والمرشح السابق للرئاسة عن حزب الخضر- تلك الظاهرة، لكنه ليس بمفرده، لقد كان جزءاً من حركة فكرية كانت مهتمة بتقليل، إن لم يكن تشويه، دور الشركات في الحياة الأمريكية، وكان يرتبط ارتباطاً وثيقاً بأشخاصٍ في المناصب العليا في الحكومة الأمريكية، بجانب ما عرف بصناعة الضرر (محامون تبنوا البحث عن الأضرار في بيئة عمل الشركات، وسعوا إلى إخضاعها للتنظيمات)، والمثقفين المتعاطفين مع الرسالة المناهضة للشركات، والحقيقة هي أنهم جميعاً تسببوا فيما حل بديترويت.

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

"التشكيك في الشركات"

جو نوسيرا: ما الذي حدث لتتحول الدولة من مؤيدة بشكلٍ أساسي للشركات ومناصرة للنمو، إلى متشككة بشكل أساسي في الأعمال التجارية، ومفترضة أن الشركات كانت دائماً السبب في كل شيء خاطيء؟

كينيث وايت: منذ عهد "أيزنهاور" في الخمسينيات، وحتى عهد "كينيدي" في أوائل الستينيات، لم يكن لأمريكا أولوية أهم من النمو الاقتصادي، وكان يُعتقد أن النمو ينتج في المقام الأول عن طريق الإنفاق الاستهلاكي، وأراد "كينيدي" تنمية الاقتصاد بنسبة 5% سنوياً، وكان هذا مهماً في سياق الحرب الباردة، لأنه كان علينا أن ننمو أسرع من الروس، وكان هناك اعتقاد في جميع مستويات المؤسسة السياسية في ذلك الوقت أن المصلحة الأعلى لأمريكا، تكمن في النمو الاقتصادي، وأن كل الأشياء الجيدة تنبع من ذلك.

ولكن في منتصف الستينيات ظهرت وجهة نظر أخرى، تقول بأن النمو الاقتصادي لم يكن أهم شيء في الولايات المتحدة، بل في الواقع كان سيئاً لها، وكانت البلاد غنية بما فيه الكفاية، وكان الاقتصاد بالفعل كبيراً بما يكفي، وأصبح الشيء المهم حينها هو تحويل انتباه الحكومة ومواردها إلى السلع العامة، في شكل مدارس أفضل، ومجتمعات أفضل، والمزيد من الإنفاق العام.

وظاهرياً، قد يبدو ذلك معقولاً، لكن النهج الذي اتبعه العديد من الأشخاص الذين أرادوا تنفيذ هذا الانتقال، كان إخضاع الأعمال للقطاع العام، وبالأخص للحكومة الفيدرالية، وخلال هذه العملية، تسببوا في الكثير من الضرر للصناعة في الولايات المتحدة.

سيارة "كورفير"

جو نوسيرا: يبدو الأمر وكأنه شيء ظهر من الثقافة المضادة، لكنك تركز على "كورفير" (Corvair)، السيارة المُصنعة من قبل "جنرال موتورز" والتي تمحور حولها كتاب "رالف نادر"، "غير آمنة... بأي سرعة كانت"، أو "Unsafe at Any Speed"، فكيف أدى هذا الجدل إلى تحول الرأي العام ضد الشركات؟

كينيث وايت: شن "نادر" حملة ألقى فيها باللوم على "ديترويت" لصنعها مركبات غير آمنة، وقتل 40 ألف شخص سنوياً، على الطرق السريعة، وجادل أصحاب تلك الحملة بأن السائقين ليسوا مسؤولين عن وفيات الطرق السريعة، وإنما هي "ديترويت"، لأنها صنعت سيارات غير آمنة، وفرضتها على جمهور أمريكي غير مرتاب وغير حذر.

وارتكبت المدينة "القتل بواسطة السيارة"، وهي عبارة كانت شائعة في ذلك الوقت، وفي الأساس، كان "نادر" وحلفاؤه يتهمون "ديترويت" بقتل الأمريكيين من أجل كسب المزيد من المال.

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

إخضاع "ديترويت"

جو نوسيرا: لطالما سلمت بأن بعض هذه الإجراءات كانت يجب أن تُتخذ، وأن هؤلاء الذين قالوا إن السيارات لم تكن آمنة بما يكفي كانوا في الواقع على حق، فهل تقول إنهم كانوا مخطئين؟

كينيث وايت: نعم كانوا مخطئين في عام 1966، لأنه في عام 1964، كانت عولجت بالفعل معظم المشاكل الرئيسية المتعلقة بتصميمات السيارة الداخلية، واستخدمت الحكومة الفيدرالية قوتها الشرائية للإصرار على أن تكون جميع السيارات التي تشتريها بها مقود آمن، وتصميمات داخلية مبطنة، وما إلى ذلك، كما تم الانتباه لجميع مخاوف المؤسسة الطبية الأمريكية بشأن الجزء الداخلي من سيارات "ديترويت" ومعالجتها في هذا الوقت.

لكن "نادر" وأصدقاؤه، كانوا يؤمنون بأن "ديترويت" تُصنع سيارات مصممة تماماَ للاصطدام، بغض النظر عن مدى تهور وعدم مسؤولية السائقين. وحولوا الانتباه عن السائق والجهود المبذولة لجعل الناس يرتدون أحزمة الأمان ويقودون برصانة، والتي كانت المفاتيح الحقيقية لتحسين سلامة السيارات.

وعارض "نادر" وطاقمه بشدة هذه الجهود، وأرادوا التركيز على "ديترويت"، وأرادوا أن تخضع المدينة للتنظيم الفيدرالي، وبالتالي ركزوا كل التركيز على السيارة وليس السائق.

في النهاية، أدى ذلك إلى انتكاسة هائلة في سلامة السيارات الأمريكية، وتحولت الولايات المتحدة من كونها بيئة القيادة الأكثر أماناً في العالم إلى المركز الـ18 أو الـ20، وتراجع معدل التقدم في تحسين سلامة السيارات بعد تدخل "نادر"، وأدى التركيز على السيارة، بدلاً من السائق، وإلقاء اللوم على "ديترويت" بدلاً من الأشخاص خلف عجلة القيادة إلى نتائج مضللة بشأن سبب سلامة السيارات.

التحول إلى السيارات المستوردة

جو نوسيرا: كيف قادت تلك الجهود في 1966 إلى تدهور مكانة "ديترويت"؟

كينيث وايت: كانت سيارة "كورفير" هي أساس ملاحقة "نادر" القضائية لمدينة ديترويت، وقال إنها كانت سيارة مُسبِبةٌ للحوادث، وغير آمنة على أي سرعة، وعرضة للخروج عن السيطرة والانقلاب وقتل الناس دون سبب.

ومن خلال توجيه تلك الاتهامات، تمكن من قتل أعمال "كورفير" لدى "شيفروليه" و"جنرال موتورز"، وقد عثرتُ على الكثير من وثائق "جنرال موتورز" الداخلية التي تُظهر أن أزمة السلامة، قد ألحقت أضراراً بالغة بعلامتها التجارية، وبالوضع المالي للشركة.

ونجح "نادر" وأصدقاؤه في مجلس الشيوخ، وفي البيت الأبيض، في عهد "ليندون جونسون" من إقناع الأمريكيين بأن سيارات "ديترويت" وسيارات "جنرال موتورز" بالأخص - كانت "جنرال موتورز" في ذلك الوقت تبيع نصف سياراتها في السوق الأمريكية - غير آمنة على أي سرعة، ونتيجة لذلك توقف الناس عن شرائها، وبدؤوا يتجهون لاستيراد السيارات.

وكانت "ديترويت" تقوم بعمل ممتاز في مقاومة الواردات حتى منتصف الستينيات، ثم اندلعت أزمة السلامة، وفي غضون خمس سنوات، تحولت السيارات المستوردة من كونها الخيار الثاني في السوق الأمريكية، لتشكل ما يقرب من 25% من مبيعات السيارات.

وبعد أن واجهت "جنرال موتورز" صعوبة أكبر في بيع سياراتها، كان عليها خفض الإنتاج، وتبخرت أرباحها، وخسر سعر سهمها 30 إلى 40% من قيمته، واستغرق الأمر حوالي 40 عاماً ليتعافى، ولم تعد الشركة التي كانت تتمتع بأحدث الآلات، وقلب "ديترويت"، وقلب الصناعة الأمريكية، والمشروع الصناعي الأكثر إثارة للإعجاب في العالم، كما كانت بعد ذلك.

الصدام مع الشركات

جو نوسيرا: الجزء الثالث من فرضيتك هو أن ما حدث في منتصف الستينيات، عندما تعرضت شركة "جنرال موتورز" للتشهير، وأصبح "نادر" بطلاً، كانت لحظة فارقة في تاريخ الشركات الأمريكية، وخلق نموذجاً للنشطاء و"محامي الضرر" وأعضاء الكونجرس، وما إلى ذلك للهجوم على صناعات أخرى، وهذا في الواقع أعاد تشكيل طريقة تفكير البلاد وتعاملها مع الأعمال.

كينيث وايت: كانت هناك صدامات تنظيمية سابقة في الولايات المتحدة تعود إلى "تيدي روزفلت" وعصر الصفقة الجديدة أو "نيو ديل" (مجموعة من البرامج الاقتصادية التي أطلقت في الولايات المتحدة بين عامي 1933 و1936)، ولكن بعد ستينيات القرن الماضي، ظهرت روح جديدة ضد الشركات.

ويمكنك أن ترى هذا التحول في الولايات المتحدة، في ذلك العقد من التأييد بنسبة 100% للأعمال التجارية، إلى مؤيدة جزئياً للشركات، والجزء الباقي يؤيد إصلاح أو تقليل أو وقف أهمية الشركات في الحياة الأمريكية.

وهكذا ظهرت "صناعة الضرر"، والتي تكسب رزقها أساساً من العثور على الأضرار في بيئة الشركات، وظهر أعضاء في الكونجرس، يدركون أن العثور على مشكلة لدى المستهلك، وجعلها محور حملتهم، هو بمثابة طريق واضح لزيادة شعبيتهم، وتعزيز فرص انتخابهم.

وبعد ذلك كان لديك مجموعة كاملة من المدافعين عن المصلحة العامة وشركات المحاماة العامة، على غرار "نادر"، والذين تدفقوا إلى واشنطن في أواخر الستينيات والسبعينيات، وباشروا أعمال تنظيم سلوك الشركات، وكانت واقعة "نادر" هي الشرارة التي أشعلت هذا الحريق الهائل من التشريعات الأكبر والحماية التنظيمية للأمريكيين من الشركات.

المراقبة لازمة

جو نوسيرا: للإنصاف هناك الكثير من فضائح العمل التي كانت وهمية، ولكن عدد منها كان حقيقياً، وأنت لم تتحدث كثيراً في الكتاب عن كيف كان المجتمع الأمريكي ليصلح تلك المشكلات إذا لم تكن لديه ثقافة "محامي الضرر" وأفراد المصلحة العامة وما إلى ذلك، فكيف كنت لتمنع الأشياء السيئة من الحدوث؟

كينيث وايت: ليس لدي مشكلة مع التنظيم، وقلت هذا مراراً في الكتاب، وأعتقد أن التنظيم ضروري لأن الشركات إذا تُركت لرغباتها ستسعى لتحقيق الأرباح على حساب المصلحة العامة.

وأنا أؤيد تماماً بعض اللوائح التنظيمية للشركات، ولكن ما أتحدث عنه هو حوادث متكررة حيث يصبح الضرر الاجتماعي الذي تم تحديده - كما هو الحال مع سلامة السيارات وفيما بعد مع المواد الأفيونية والتبغ - فرصة لمن يشنون تلك الحملات لمهاجمة الشركات، وإلقاء اللوم عليها فيما هو في الأساس فشلاً اجتماعياً.

وهذا في رأيي يأتي بنتائج عكسية ومضرة على الشركات والقطاع الصناعي في الولايات المتحدة، وفيما يتعلق بالحد من الأضرار الاجتماعية، تعد هذه المبادرات غير مجدية، لأنها تنقل الكثير من الأموال من الشركات لـ "محامي الضرر" أو إلى الولايات، لكن ليس لديها أي تأثير على حل المشكلة.

"الأفيون"

جو نوسيرا: لا أخالفك الرأي، ولكن أعتقد أنه فيما يتعلق بمشكلة "الأفيون" تصرفت الشركات بشكل سيء.

كينيث وايت: لقد تصرفوا بشكل سيء، وشركات "التبغ" تصرفت بشكل سيء، وتتصرف الشركات على نحو سيء في كل صناعة، وهذه حقيقة من حقائق الحياة، وأؤكد مرة أخرى، أن هذا شيء يجب أن نقلق بشأنه، لكن هذه الهجمات على الشركات، والطريقة التي نتبعها في محاولة حل المشكلة من خلال مقاضاتها وتنظيمها بشكل عقابي لا تنجح، وبدلاً من ذلك يمكن اتباع نهج أكثر ذكاءً وعقلانية لحل المشكلات دون الإضرار بالقطاع الخاص.

"قوانين الضرر"

جو نوسيرا: والآن بعد 40 عاماً من تحقيقات الكونجرس والدعاوى القضائية الجماعية، ما الذي يمكن أن يحل محل نظام "الضرر"؟ كيف يمكن تصحيح الأخطاء؟ هل هي مجرد مسألة تنظيم معقول مقابل تنظيم غشيم؟

كينيث وايت: نظرياً لدى كل دولة في العالم عملية تنظيم أقل عنفاً وحدة من قوانين "الضرر" في الولايات المتحدة، وهناك جميع أنواع الخيارات الإدارية بخلاف جعل الأطراف تقاتل بعضها البعض في الميادين السياسية والقانونية.

وكما قلت في كتابي، إنها طريقة حل خلاف من العصور الوسطى تقريباً، وتتمثل في تواجه طرفين مع جميع محاميهم وجميع مؤيديهم ومبالغ ضخمة من المال وراءهم فقط لمحاولة التغلب على حماقة كل طرف منهما في قاعة المحكمة أو في جلسة استماع.

وبذلك يقضون كل وقتهم ويصرفون كل انتباههم في محاولة كسب المعركة بدلاً من حل المشكلة الفعلية، وبشكل عام يرى الأشخاص من خارج الولايات المتحدة والذين لديهم أنظمة ضرر أخرى - سواء من بريطانيا أو أستراليا أو كندا أو فرنسا أو ألمانيا أو من بيئات تنظيمية أخرى - أن طريقة تعامل الأمريكيين مع هذه المشكلات مجنونة.

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
هذا المقال لا يعكس موقف أو رأي "الشرق للأخبار"وهو منشور نقلا عن Bloomberg Mediaولا يعكس بالضرورة آراء مجلس تحرير Bloomberg أو ملاكها
تصنيفات

قصص قد تهمك