لم يكن مفاجئاً تأجيل إطلاق مركبة "ستارلاينر" الفضائية "CST-100" من شركة "بوينغ" يوم السبت الماضي.
كان من شأن تلك الرحلة أن تصبح أولى رحلات الشركة التي تحمل رواد فضاء إلى محطة الفضاء الدولية، منذ أن منحت "ناسا" في عام 2014 عقوداً لـ"بوينغ" و"سبيس إكس" الناشئة للقيام بهذه المهمة.
عانت "بوينغ" من التأجيل والخطوات الفاشلة منذ أن قبلت التحدي المتمثل في إنهاء اعتماد الولايات المتحدة على روسيا في نقل أطقم "ناسا" ومعداتها إلى محطة الفضاء الدولية.
ألغيت المهمة قبل أقل من أربع دقائق على انتهاء العد التنازلي للإقلاع، بعد إنذار باحتمال وجود مشكلة لدى إجراء مراجعة تلقائية زائدة من أحد أجهزة الكمبيوتر.
قد تنطلق الكبسولة الفضائية حاملة اثنين من رواد الفضاء يوم الأربعاء.
حتى لو أقلعت مركبة "ستارلاينر"، المثبتة على متن صاروخ "أطلس 5" (Atlas V) من شركة "لوكهيد مارتن"، ووصلت إلى المحطة الفضائية، فلا يعد ذلك نجاحاً باهراً. فالشراكة بين "بوينغ" و"لوكهيد مارتن" تحت اسم "يونايتد لنش ألايانس" (United Launch Alliance) تأخرت حوالي سبع سنوات في أول مهمة مأهولة لها، كما أن صاروخ "أطلس 5" هو صاروخ للشحن اقترب من نهاية عمره الافتراضي.
من الصعب معرفة مقدار الأموال التي تستنزفها شركة "بوينغ" في مجال الفضاء، لأنها تختبئ تحت غطاء خسائر وحدتها المتخصصة في الصناعات الدفاعية، لكنها مشكلة لا تستطيع الشركة تحملها.
يجب على "بوينغ" أن تفصل نشاطها في مجال الفضاء وتدمجه مع شركة فضاء جريئة وريادية (بدعم من شركات رأس المال الجريء ذات الملاءة المالية الكبيرة التي يحلم مديروها بالذهاب إلى الفضاء). فهذه الوحدة بحاجة ماسة إلى تغيير جذري حتى تستطيع المنافسة، ولم يعد بإمكانها أن تكتفي بأمجادها السابقة عندما كان صاروخ "ساتورن" محرك بعثات "أبولو" إلى القمر.
اقرأ أيضاً: لماذا استغرقت الولايات المتحدة 51 عاماً للعودة إلى القمر؟
يجب أن يكون هدف الشركة هو مضاهاة نجاح "سبيس إكس" والمساعدة في خفض تكلفة الرحلات الفضائية في الوقت الذي تسعى فيه "ناسا" إلى إنزال البشر على المريخ مع استخدام القمر كمحطة على الطريق.
مشاكل "بوينغ" الخطيرة
فشلت "بوينغ" حتى الآن في مهمتها في إنهاء اعتماد الولايات المتحدة على روسيا في نقل الأشخاص والإمدادات إلى محطة الفضاء الدولية. ووافقت روسيا العام الماضي على الاستمرار كشريك في محطة الفضاء حتى عام 2028.
ومع احتدام التوترات الجيوسياسية، تخطط روسيا الآن لبناء محطتها المدارية الخاصة بها. ولا ينبغي أن نُفاجأ إذا انضمت الصين إلى هذه الخطة. ولولا وجود صاروخ "فالكون 9" التابع لشركة "سبيس إكس"، الذي أطلق تسع بعثات مأهولة منذ عام 2020، لتمكنت روسيا من "حبس" الرواد الأميركيين في الفضاء.
ليس ذلك في مصلحة البلاد ولا شركة "بوينغ" التي تعاني من مشاكل خطيرة تتعلق بالجودة والسلامة في مصانع الطائرات، والتي انتقدتها "إدارة الطيران الفيدرالية".
ووفقاً لتيم كلارك، رئيس شركة "طيران الإمارات"، أكبر مشترٍ لطائرات "بوينغ" التجارية عريضة البدن، فإن "بوينغ" مشغولة تماماً بمحاولة إحداث تحول في نشاطها الرئيسي، وقد يستغرق إصلاحها سنوات.
قال كلارك لـ"بلومبرغ نيوز" أثناء مقابلة في دبي نهاية الأسبوع الماضي: "بالنسبة لي، ستكون هذه فترة توقف لمدة خمس سنوات تبدأ من الآن. لا أعتقد أنهم سيستعيدون خط إنتاجهم على جميع أنواع الطائرات".
اقرأ أيضاً: رئيس "طيران الإمارات": "بوينغ" تحتاج لسنوات للخروج من أزمتها
تحتاج شركة "بوينغ" إلى إصلاح يشارك فيه الجميع لعملية تصنيع الطائرات التجارية. وإذا لم تتمكن من إحداث تحول في نشاط صناعة الطائرات بها، فإن الشركة ستنهار. هذه هي الأولوية القصوى، ولا شيء آخر يقترب من مستوى أهميتها. وقد أظهرت سلسلة من الأخطاء التي ارتكبتها الشركة، أن الإدارة تفتقر إلى القدرة على التعامل مع هذه الفوضى، بالإضافة إلى إصلاح نشاطها في مجال الفضاء.
أنشطة "بوينغ" المتعددة
لا يسري ذلك على وحدات "بوينغ" الأخرى. فقد بدأت شركة "بوينغ غلوبال سيرفيسيز" (Global Services) في عام 2017 كامتداد لنشاط إنتاج الطائرات التجارية، وهي أكثر وحدات الشركة ربحية في الوقت الحالي.
وجمعت الشركة أنشطة الدفاع والفضاء والأمن في وحدة واحدة. أما نشاط الدفاع فهو نشاط مرتفع الجودة ويجب الاحتفاظ به بسبب أوجه التداخل بينه وبين صناعة الطائرات التجارية، بما في ذلك المنصات المشتركة لطائرة الحراسة الدورية "P-8"، وناقلة التزود بالوقود في الجو "بيغاسوس كيه سي -46" (KC-46 Pegasus).
أما الأعمال الأمنية، التي تشمل الأمن السيبراني، فهي تشترك مع الدفاع أكثر من الفضاء، كما أن الحاجة إلى حماية الشبكات في تزايد مستمر.
وحدة الفضاء هي شركة خدمات شاملة تقوم بصيانة محطة الفضاء، وبناء وخدمة الأقمار الاصطناعية، وتعمل كمتعاقد رئيسي مع "نظام الإطلاق الفضائي" التابع لـ"ناسا" (Space Launch System)، والذي صُمم لإعادة رواد الفضاء الأميركيين إلى القمر والمريخ.
أطلقت شركة "يونايتد لونش ألايانس" صاروخ "فولكان" (Vulcan) الجديد في يناير بعد سنوات من التأخير. وقد صُمم "فولكان" لمنافسة عائلة صواريخ الرفع الثقيل "فالكون" (Falcon) من إنتاج "سبيس إكس".
شركة مستقلة لسباق الفضاء
هناك إقبال محتمل وقيمة في قيام شركة تركز على نشاط وحيد في هذا السباق الفضائي الثاني، لكن شركة "بوينغ" الفضائية تحتاج إلى التركيز والقيادة الجريئة، التي لن تحصل عليها في ظل الإدارة الحالية. فبالإضافة إلى الحفاظ على وحدة الطائرات التجارية من الانهيار، ينشغل الرئيس التنفيذي ديف كالهون بالبحث عن خليفة له، بعد أن وافق على ترك منصبه في نهاية هذا العام.
سجلت وحدة الدفاع والفضاء والأمن خسارة تشغيلية بقيمة 1.8 مليار دولار في عام 2023. وهناك تكهنات بأن "بوينغ" تريد التخارج من شراكتها في مجال الفضاء مع شركة "لوكهيد". كما ذكرت "بلومبرغ نيوز" أن الشركة تتطلع إلى بيع شركتين صغيرتين تعملان في مجال الدفاع. غير أن ذلك لن يساهم كثيراً في حل مشكلاتها.
فبالنسبة للبلاد، يجب أن تظل صناعة الفضاء متقدمة بعدة خطوات على روسيا والصين، التي هبطت بأول مركبة فضائية لها على الجانب المظلم من القمر يوم السبت - وهو نفس اليوم الذي ألغت فيه "بوينغ" مهمة "ستارلاينر".
يجب على "بوينغ" أن تتخلى عن وحدتها في مجال الفضاء وتسمح لشركة مدعومة من مستثمرين أثرياء بإصلاح ثقافتها وجذب مواهب جديدة. فبدلاً من العمل على رحلات القمر والذهاب إلى المريخ، تحتاج "بوينغ" إلى التمسك بنشاطها الأساسي والتركيز على أولويتها الرئيسية – وهي بناء طائرات تجارية عالية الجودة في الوقت المحدد وفي حدود الميزانية.