أثناء زيارة غلين كيلب معرضاً للشركات الناشئة خلال مايو الماضي في إستونيا للبحث عن توفير الدعم لشركته الجديدة، مر أمام جناح غير متوقع يخص حلف شمال الأطلسي (الناتو). حينذاك كان التحالف العسكري يدشن حملة توظيف لأول برنامج خاص به يهدف إلى تسريع وتيرة عمل الشركات.
كان كيلب يعلم أن صناعة الدفاع تولي المزيد من الاهتمام بالشركات الناشئة العاملة في مجال التكنولوجيا، إذ يعيش في تارتو، وهي مدينة صغيرة في إستونيا تقع على بعد بضع مئات من الأميال من الحدود الروسية. لكن يبدو أن الاهتمام يقتصر على أجهزة الاستشعار والأسلحة وليس مجال شركته.
كليب الفيزيائي كان قد ترك العمل الأكاديمي مؤخراً بعد إجراء تجربة بحثية في المختبر، إذ ابتكر مع اثنين من زملائه طريقة لبناء أنابيب خزفية دقيقة للغاية رقيقة مثل شعر الإنسان، والتي يمكن أن تشكل نسخاً أخف وأكثر كفاءة من خلايا الوقود المستخدمة لتشغيل الإلكترونيات أو الشبكات. قام الباحثون بتأسيس شركة تسمى "غالت تيك"( GaltTec) لتسويق اختراعهم.
في المعرض، قرأ كليب المواد التي أعدها "الناتو" بشأن برنامجه الجديد لتسريع أداء الشركات، ففكّر حينذاك وقال: "دعني أنتظر.. هذا نفس العمل الذي نقوم به". بعد مرور أشهر، انضمت شركة "كيلب" الناشئة إلى 43 شركة أخرى في الدفعة الأولى التي تلتحق ببرنامج "الناتو" لتسريع الابتكار المعروف اختصاراً باسم "ديانا"، وهو جزء من تجربة الحلف في مجال رأس المال الجريء.
برنامج "ديانا"
في عام 2023، كشفت المنظمة الأوروبية النقاب عن برنامج "ديانا" وصندوق بقيمة مليار يورو للاستثمار في التكنولوجيا، بأموال جمعتها من عشرات الدول الأعضاء. في حين أطلقت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) برامج مماثلة، فإن البرنامج يعد الأول من نوعه بالنسبة للجيوش الأوروبية.
أطلق الحلف المبادرة وسط موجة من عدم استقرار الأوضاع السياسية في القارة، وخاصة مع احتمال عودة دونالد ترمب، الذي يشوه سمعة الناتو، إلى رئاسة الولايات المتحدة. أسس الناتو صندوقه وبرنامجه بهدف تسريع الابتكار قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، لكن الصراع أكد سبب بحث الحلف عن وسائل جديدة لخوض الحروب ومنعها، والدافع لدخول قطاع الطاقة.
13 شركة تنضم إلى البرنامج
دعا الناتو الشركات الناشئة العاملة في مجال الأمن السيبراني والمراقبة ومرونة الطاقة للانضمام إلى البرنامج. وكانت الفئة الأخيرة من المجالات بمثابة التكنولوجيا التي تساعد الدول المتحالفة مع بعضها على التعافي من "انقطاع الطاقة"، في إشارة إلى الخوف الذي اجتاح أوروبا منذ نشوب حرب روسيا من احتمال اختناق إمدادات الطاقة.
وافقت 13 شركة ناشئة على الانضمام إلى البرنامج، تعمل أساساً في قطاع الطاقة النظيفة، والتي تجعل شبكات الكهرباء مرنة أو تدعم الشبكات الصغيرة. تعمل تلك الشركات على إعادة اختراع مجموعة من المكونات، بما في ذلك محولات الشبكة الكهربائية في لندن إلى توربينات الرياح في ريكيافيك بآيسلندا، وبطاريات التخزين في مدينة دلفت بهولندا.
قال ديب شانا، المدير التنفيذي لـ"ديانا": "اللحظة التي تفكر بها بشأن التغير المناخي، والمعركة الدائرة من أجل الموارد الطبيعية، تلك مشكلات نظامية عالمية قد نواجهها-وسوف نواجهها. سوف يتضح الأمر بشكل كبير ما إذا تفاقمت هذه المشكلات، وحينئذ سوف ينشأ الصراع".
100 ألف يورو منحة لكل شركة
يؤدي شانا مهام عمله من المركز الرئيسي لبرنامج "ديانا" في حرم "إمبريال كوليدج لندن"، حيث حصل على إجازة من منصبه كأستاذ جامعي. لكن معظم العمل يجري في مكان آخر. يوفر برنامج "ديانا" للشركات الناشئة إمكانية الوصول إلى شبكة مكونة من 23 موقعاً إقليمياً، عبر مدن مختلفة من تالين إلى سياتل، و182 مركز اختبار تضم مختبرات وآلات تدريب، كما يوفر لها الموارد "التي لا يمكنها الحصول عليها بسهولة".
يقدم "ديانا" بعض الأموال للشركات المشاركة –منحة قدرها 100 ألف يورو لكل منها في البداية– ولكن هذا ليس كثيراً، خاصة بالنسبة للشركات التي تستخدم الآلات الكبيرة والباهظة الثمن.
يأمل ماثيو ويليامز، مؤسس "أيونيت إنرجي" (Ionate Energy)، وهي شركة بريطانية ناشئة انضمت إلى "ديانا"، أن يتمكن البرنامج من توفير الوصول إلى مرافق الاختبار لمعدات محولات الشبكة الضخمة التي تعمل شركته على تحديثها. ويقول: "نحن بحاجة إلى مختبرات متخصصة للغاية… إنها أيضاً مكلفة للغاية".
أجرت "أيونيت إنرجي" تجارب مع أحد المرافق في إسبانيا والبرتغال باستخدام معداتها، والتي تم تصميمها لمساعدة الشبكات على إدارة إمدادات الطاقة المتجددة بشكل أفضل.
يصف كيلب شركة "غالت تيك" بأنها لا تزال في "مرحلة النماذج الأولية". يعتمد اختراعها على مادة إنتاج السيراميك ثاني أكسيد الزركونيوم، المعبأة في أنابيب مجوفة، والتي تعمل بمثابة المنحل بالكهرباء داخل خلية الوقود، مما يؤدي إلى توليد الكهرباء عبر تفاعل كيميائي.
في نهاية المطاف، يتخيل كيلب أن الجهاز سيكون صغيراً مثل بطارية الهاتف، وأخف وزناً نحو عشر مرات من خلايا وقود الهيدروجين الحالية، مما يسمح بتوصيله بسهولة إلى الأقمار الصناعية أو المسيرات.
نقطة انطلاق جيدة
تبدو الشركات الناشئة التي يدعمها "ديانا" مجهزة بشكل جيد لتقديم المساعدة لشبكات الكهرباء، لكنها لا تلبي خطورة التهديدات الأمنية التي يعتقد "الناتو" أن تغير المناخ يشكلها، بما في ذلك ارتفاع درجة حرارة الطائرات العسكرية ونشوب الحروب على الموارد، كما يقول ريتشارد ميلبورن، الباحث في كلية الدراسات الأمنية لدى "كينجز كوليدج لندن".
يرى ميلبورن أن التحالف يدعو الشركات إلى توليد كهرباء رخيصة الثمن وخالية من الانبعاثات في أماكن محصورة، ثم نقل هذه الاختراعات إلى القطاع التجاري، كما فعل الجيش مع نظام تحديد المواقع العالمي. ويقول: "من الممكن أن يقوم حلف شمال الأطلسي بإنجاز أمر عميق للغاية.. هذه نقطة انطلاق جيدة لكنها لا تزال دون المستوى الذي يسمح لها بالتوافق مع الخطاب السائد".
على عكس معظم برامج تسريع الابتكار التي تدعم التكنولوجيا المبتكرة دون التأكد من نجاحها، لا يشتري "ديانا" أي حصص في الشركات، بدلاً من ذلك، يحاول البرنامج توجيه الشركات الناشئة نحو التعاون مع أعضائه العسكريين.
في منتصف فترة برنامج تسريع الابتكار التي تستغرق عاماً وبدأت في شهر يناير الماضي، يقول "شانا" إن فريق عمله سيقوم بتوصيل الشركات التي تسعى للحصول على عقود في مجال الدفاع إلى الوكالات المهتمة، على الرغم من أنه لم يقدم تفاصيل محددة. كما يضيف: "يمكنك أن تعتبر ديانا برنامج وساطة".
حظر الاستثمار في الشركات
بدأ بعض المشاركين في تبادل الأفكار بشأن التطبيقات الدفاعية، إلا أن الشركات المشاركة في "ديانا" تقول إن البرنامج لا يدفعهم إلى العمل مع الجيوش. ويؤكد قادة البرنامج أنه مخصص للشركات مع العملاء التجاريين والحكوميين.
يقول دانيال ماكغواير من "ماكغواير ايرو بروبولشن سولشنز" (McGuire Aero Propulsion Solutions)، وهي شركة كندية تعمل في مجال تطوير التوربينات ضمن برنامج "ديانا":" الشركات تدرك أن العمل مع قطاع الدفاع يمثل بداخله الكثير من المتاعب".
من خلال الاستثمار في الشركات الناشئة، يجعل التحالف نفسه عرضة أيضاً لعمليات التدقيق بشأن استخدام الأموال العامة لدعم الشركات الناشئة، والمؤسسات التي تعاني من معدلات إخفاق مرتفعة. هناك خطر آخر يتمثل في أن الشركات الناشئة التي تخدم الجيش تواجه قلة فرص جمع رأس المال في وقت لاحق.
يرى فريديريك دي ميفيوس، رئيس "بلانيت فيرست بارتنرز" (Planet First Partners)، وهو صندوق أوروبي للاستثمار الجريء يعمل في مشاريع تكنولوجيا المناخ بقيمة 450 مليون يورو، أن برنامج "ديانا" "مثير للغاية" لقدرته على دعم التكنولوجيا المبتكرة التي لم يثبت نجاحها بعد. مع ذلك، يُحظر عليه الاستثمار في الشركات التي تبيع منتجاتها إلى الجيوش، كون المساهمين في الصندوق الذي يديره يستبعدون هذه الفئة، في إطار الحظر الشامل على تمويل الكحول أو الألعاب أو الأسلحة. يقول فريديريك: "عدد من المستثمرين لا يريد ذلك".
تحديات الطاقة
يقول أدريان دان، كبير مسؤولي القسم التجاري في "ديانا" إن التفويض الواسع للبرنامج يعني أن معظم الشركات الناشئة لن تواجه هذه القيود في التعامل مع الجيوش لاحقاً.
أسس "الناتو" شركته الاستثمارية الخاصة به، جزئياً، للتعويض عن التردد في تمويل التطبيقات الدفاعية. يرى شانا أن صندوق "الناتو" يدعم بعض الشركات الناشئة التي تعمل ضمن برنامج "ديانا"، رغم أن الصندوق ليس مجبراً على القيام بذلك، على حد قوله. لم يدعم صندوق "الناتو" أي شركات ناشئة بشكل مباشر حتى الآن. تبلغ ميزانية برنامج "ديانا" الذي يديره شانا "عشرات الملايين"، لكنه يقول إنها ستزيد في السنوات القادمة. بالنسبة للدفعات التالية من الميزانية، فهو يتصور أنها سوف تحفز شركات طاقة ناشئة تعمل على الشبكات الذكية أو الاندماج النووي، حيث تشير في هذا الصدد سينثيا شو، مديرة أولى في "ديانا" وخبيرة خلايا الوقود، إلى وقود الطائرات المستدام والذكاء الاصطناعي المستخدم من أجل اكتشاف مواد جديدة. قد يتعين عليهم استقطاب المزيد من الشركات العاملة في مجال تحويل الطاقة أيضاً.
تتذكر شو لقاءها بشركة طاقة في وارسو، أثناء حملة توظيف لدى "ديانا"، التي كانت مثار شكوك بشأن الشراكات العسكرية - لم تذكر اسم الشركة - فقط لأنها من دولة ليست عضواً في الناتو. وقالت لهم: "حسناً، لدينا أيضاً نفس تحديات الطاقة.. الأمر لا يتعلق فقط بإلقاء الصواريخ على الناس".