تمكنت الشركات الناشئة في المملكة العربية السعودية خلال 2023 من تجنّب التباطؤ الذي شهدته الشركات المماثلة على مستوى العالم خلال 2023، حيث جمعت أكثر من نصف تمويلات القطاع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال 2023، مسجلة نمواً بلغ 22% على أساس سنوي.
الفورة التي شهدتها السوق السعودية، جاءت في وقت تراجعت فيه قيمة الأموال المستثمرة بالشركات الناشئة في الولايات المتحدة، وهي سوق معيارية، بنحو 30% خلال الفترة ذاتها، مسجلة 170.6 مليار دولار وفقاً لبيانات شركة "بيتش بوك" للاستثمار الجريء الصادرة الشهر الماضي.
وقد تمكنت الشركات الناشئة في السعودية من حصد ما يزيد على 1.38 مليار دولار خلال العام الماضي من خلال 125 صفقة. غالبية هذه التمويلات جاءت في الأشهر الأخيرة من العام، بدعم مباشر من التمويل الذي حصلت عليه كلّ من "تمارا" و"تابي" للمدفوعات الإلكترونية، و"نعناع"، و"فلاورد" للتسوق الإلكتروني، ما قلب مشهد التمويل "شبه المتوقف"، وأنعش قيمة الصفقات في القطاع، وفق المدير التنفيذي لشركة "ماغنيت" فيليب بحوشي.
اقرأ أيضاً: شركات التكنولوجيا المالية البريطانية تتجه إلى السعودية لجذب المستثمرين
الصورة المختلفة في السعودية بررها بحوشي، في رد على أسئلة "الشرق" عبر البريد الإلكتروني، بثلاثة عوامل رئيسية، هي: توسيع البنية التحتية الرقمية؛ والسياسات الاستباقية من قبل الحكومة والكيانات التابعة لها؛ والوعي المتزايد بين المؤسسين والمستثمرين بالحلول القابلة للتطوير في السعودية.
مبادرات حكومية
المبادرات التي أطلقتها الحكومة والكيانات التابعة لها، كانت من بين أبرز العوامل الداعمة لهذا النمو. وفي هذا الصدد، لفت بحوشي إلى مبادرات عدة، من بينها تأسيس صندوق الصناديق "جدا"، إضافة إلى صندوق الابتكار التقني العميق بميزانية تقدر بـ200 مليون دولار، وبناء جسر مع الهند لتسهيل الوصول إلى المواهب والموارد لرواد الأعمال من البلدين، ناهيك عن إطلاق صندوق مشترك مع كوريا الجنوبية بقيمة 160 مليون دولار مخصص لدعم الشركات الناشئة.
كما أعلنت "أرامكو" في يناير الجاري، تخصيصها 4 مليارات دولار إضافية لبرنامج رأس المال الجريء، ما يرفع إجمالي مخصصاتها في هذا المجال إلى 7.5 مليار دولار.
يُعدّ ما سبق أمثلة على مشهد الدعم الحكومي للشركات الناشئة، وهو يدلّ على أن إنشاء الصناديق المدعومة من الحكومة والسياسات الاستراتيجية التي تهدف إلى رعاية نظام الأعمال للشركات الناشئة، سيلعب دوراً محورياً في دفع النمو في القطاع خلال السنوات المقبلة، على الرغم من الرياح الدولية المعاكسة، وفق بحوشي.
اقرأ أيضاً: السعودية تستعد لاقتحام صناعة أشباه الموصلات باستثمارات ضخمة
مشهد النمو الذي شهدته المملكة جاء بسبب "التحولات الجوهرية" في مشهد ريادة الأعمال في المملكة، فضلاً عن السياسات والتنظيمات الناشئة، وظهور مديري صناديق متخصصين في الشركات الناشئة، وفق وليد البلاع، الشريك العام في صندوق "سُكنى فنشرز" (Sukna Ventures) للاستثمار.
وأضاف في رد على أسئلة "الشرق" عبر البريد الإلكتروني، أن التحول الجوهري في مشهد ريادة الأعمال مرده قصص النجاح التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الماضية، على غرار صفقة الاستحواذ على "كريم" أو حتى "سوق"، وهي قصص "غيرّت تفكير رواد الأعمال"، وأسهمت في ظهور الشركات المحلية على رادار شركات التمويل الإقليمية والعالمية، وهو ما ظهر في أمثلة عديدة من بينها حصول "تابي" على تسهيل ائتماني من "جيه بي مورغان" بقيمة 700 مليون دولار في ديسمبر الماضي.
دور رؤية السعودية 2030
أسهمت رؤية المملكة 2030 التي تهدف إلى تنويع الاقتصاد بعيداً عن النفط، في إحداث تحوّل في مشهد الشركات الناشئة، إذ عملت على إلغاء القيود التنظيمية التي كانت تحدّ من نمو هذه الشركات، وزادت من تدفق رؤوس الأموال وحسنت ظروف التمويل وتدفق المواهب.
كمثال على ما سبق، أفاد نبيل كوشك، الرئيس التنفيذي للشركة السعودية للاستثمار الجريء في مقابلة سابقة مع "الشرق"، بأن أكثر من 13 شركة ناشئة سعودية تجهز ملفاتها للاكتتاب العام خلال العامين الجاري والمقبل، ما يعطيها فرصة أكبر وانكشافاً أعلى على رؤوس الأموال.
زيادة الاستثمارات وحلول التمويل، تتطلب جذب مهارات متخصصة ورواد أعمال. ولهذه الغاية، أعلنت السعودية في يناير الجاري، إطلاق 5 فئات جديدة من تأشيرة الإقامة المميزة، من بينها "الكفاءة الاستثنائية" و"رائد أعمال" و"مستثمر أعمال"، وهي فئات كلها يمكن أن تصب في خدمة الشركات الناشئة التي تبحث عن المواهب والمستثمرين.
من جهته، أشار البلاع إلى أن الرؤية والبرامج الحكومية، أدت إلى تسريع عملية الحصول على تراخيص ريادة الأعمال، وجذب المزيد من المستثمرين الأجانب إلى السعودية، لتصل نسبتهم إلى 50% من مستمري رأس المال الاستثماري الجريء في 2022.
فرص النمو
على الرغم من أن النمو الذي شهدته الشركات الناشئة شمل العديد من القطاعات، إلا أن التكنولوجيا المالية كانت المهيمنة على المشهد، وهو ما تجلّى في صفقتي تمويل لـ"تابي" و"تمارا" مثلتا ما يزيد على 70% من قيمة التمويلات خلال العام الماضي.
رجّح المدير التنفيذي لشركة "ماغنيت" أن يُظهر المستثمرون اهتماماً متزايداً بجولات المراحل المبكرة، مما يوفر فرصة للمشاريع الناشئة في المملكة خلال السنوات المقبلة، معتبراً أن المملكة تستعد لأن تشهد طفرة في الشركات الناشئة التي تتوسع في الأسواق المحلية، وتنخرط في مساع تنافسية للحصول على حصة في السوق.
اقرأ أيضاً: السعودية تعرض في "دافوس" رؤيتها لاقتصاد أكثر استدامة
كما اعتبر أن المشهد في المملكة جاهز لعمليات الدمج، حيث تتطلع الشركات الناشئة المحلية في مرحلة النمو إلى التوسع في كل أنحاء المنطقة. وفي الوقت ذاته، يتطلع العديد من اللاعبين الإقليميين والعالميين إلى التوسع في السعودية، ما يعزز التنافسية ويسهم في نمو الشركات المحلية أيضاً.
قطاعات جديدة
البلاع طالب بضرورة فتح مجموعات قيمة جديدة أعمق في الاقتصاد، للوصول إلى المزيد من الشركات المليارية، خصوصاً أن المنطقة شهدت تحول 5 شركات إلى هذه الفئة، هي: "سويفل"، و"كيتوبي"، و"إي أم بي جي"، و"فوري"، و"كريم". وفقدت "سويفل" لاحقاً هذا اللقب، ما يسلط الضوء على المخاطر التي تواجه الشركات الناشئة ورحلتها التي لا تنتهي بمجرد الحصول على التمويل.
اقرأ أيضاً: السعودية تبني سجلاً رقمياً متكاملاً لأكثر من 8 ملايين عقار
وإضافة إلى التكنولوجيا المالية والتسوق الإلكتروني، هناك الكثير من القطاعات التي تحقق نمواً في السعودية، على غرار الأغذية والمشروبات والخدمات اللوجستية، وفق ما يقوله البلاع، والذي أشار إلى أن السوق لا تزال بحاجة إلى مزيد من هذه الخدمات. ولكنه لفت إلى بعض المجالات الأخرى، مثل تكنولوجيا العقارات التي تحظى باهتمام أكبر من قبل شركات الاستثمارات، خصوصاً مع وجود نية لإعادة هيكلة القطاع في المملكة، وجعله أكثر تنافسية، إضافة إلى التكنولوجيا المتطورة.