بدأت الشركات الأوروبية تستهلك كميات أكبر من الغاز طبيعي، مع تراجع الأسعار إلى مستويات ما قبل اندلاع حرب أوكرانيا، ما يضع ضغوطاً محتملة على عمليات التجهيز لفصل شتاء آخر يتسم بإمدادات روسية محدودة.
تظهر بوادر التعافي بصورة أساسية في قطاع التكرير، والذي يمكن أن يتنقل ببساطة بين المواد الخام التي تتنوع من الغاز الطبيعي إلى زيت الوقود. كشفت بيانات هولندية في وقت سابق من الشهر الجاري، أن قطاع البترول في البلاد شهد زيادات أسبوعية في استهلاك الغاز هي الأكبر خلال العام الجاري، في حين أظهرت أرقام شبكات الإمداد بالغاز في فرنسا وإسبانيا مؤشرات على زيادة طلب المصافي خلال فبراير الماضي عما كان عليه قبل عام.
استنزاف المخزونات
من شأن أي تعافٍ سريع أن يكون حاسماً بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي وكيفية استعداده لفصل شتاء ثان في غياب خط أنابيب غاز يأتي من روسيا. قد يدفع تعافي الطلب الأسعار إلى ما يفوق 100 يورو (109 دولارات) لكل ميغاواط/ساعة خلال العام الجاري، من 40 يورو تقريباً حالياً، ويستنزف المخزونات، بحسب مصرف "إس إي بي" (SEB) السويدي، وهو الرأي الذي تتفق معه شركة "فيتول غروب" (Vitol Group)، إحدى أكبر شركات تجارة الغاز.
قال باتريك بويان، الرئيس التنفيذي لشركة "توتال إنرجيز" خلال عرض تقديمي في لندن الثلاثاء الماضي: "تحولت بعض الصناعات التحويلية في العام الماضي إلى الاعتماد على الوقود بدلاً من الغاز، وتبدو أنها نشطة تماماً في الوقت الراهن في التحوّل من الديزل أو الوقود إلى الغاز، الأمر الذي يزيد من الطلب".
علاوة على المصافي، ستشكل مصانع البتروكيماويات أيضاً مؤشراً جيداً على التعافي، حيث يمكنها أن تتحوّل مرة أخرى وبسهولة إلى استخدام الغاز لتوليد الكهرباء والتدفئة، بحسب شركة "إنرجي أسبيكتس" (Energy Aspects).
قالت الشركة التي تقدم خدمات استشارية للقطاع: "ستحتاج القطاعات الأخرى كثيفة استهلاك الغاز وقتاً أطول للتعافي على مدى 2023، نظراً لأن عمليات تقليص الطلب جاءت نتيجة الحد من الإنتاج وليس بسبب تبديل نوع الوقود".
توقعات وكالة الطاقة
في ظل صعود أسعار الغاز إلى مستويات قياسية أثناء ذروة أزمة الطاقة، هبط الطلب على الغاز للاستخدام الصناعي في إسبانيا بنسبة بلغت 40% خلال سبتمبر الماضي على أساس سنوي. وتراجع الاستهلاك الإجمالي للمصانع ومحطات الطاقة 20% خلال العام الماضي في أوروبا، ما يشكل نصف التراجع القياسي تقريباً في إجمالي الاستهلاك لعام 2022، بحسب وكالة الطاقة الدولية. وتتوقع الوكالة أن يتعافى الطلب في القطاع خلال العام الجاري بنسبة 10% تقريباً.
هوت العقود الآجلة للغاز الهولندي القياسي 90% تقريباً من مستوى ذروة تجاوز 340 يورو لكل ميغاواط/ساعة في أواخر أغسطس الماضي. أكدت شركة "إيناغاز" (Enagas) المشغلة للشبكة، أن شهر فبراير الماضي شهد زيادة في استخدام شركات التكرير الإسبانية بلغت نسبتها 8.1%، ما ساهم في الحد من إجمالي التراجع الناجم عن القطاع ككل، ليسجل 9.5% مقارنة بالعام الماضي.
تكشف بيانات شبكة "سي بي إس" أن استهلاك الغاز في الصناعات البترولية والكيميائية في هولندا بدأ أيضاً يتخطى مستويات العام الماضي خلال الشهر الجاري.
القطاع الصناعي
قالت مايفا كوزين، كبيرة خبراء الاقتصاد لمنطقة اليورو في "بلومبرغ إيكونوميكس": "يعني تراجع تكاليف الطاقة، في موازاة -ربما- صعود الطلب جراء إعادة فتح الاقتصاد الصيني، أننا نتوقع أن يسفر الإنتاج الصناعي عن بعض المساهمات الإيجابية لنمو منطقة اليورو العام الحالي".
رغم أن مصرف "غولدمان ساكس غروب" يتوقع أن يبدأ التعافي الصناعي في التصاعد مع نهاية الشهر الجاري، فإن محللين آخرين حذّروا من أنه ربما لا يزال يحتاج بعضاً من الوقت.
قالت "إنرجي أسبكتس": "سيتطلب الأمر وقتاً حتى تهبط رسوم الغاز من الموردين بصورة كافية وعلى مدى فترة طويلة لمديري المصانع، لتبني قرار استئناف الإنتاج".
انتقال المصانع
رغم هبوط الأسعار، إلا أنها ما زالت تفوق كثيراً متوسطها التاريخي. يعني ذلك أن قدراً من الطلب ربما يتبدد للأبد مع انتقال المصانع إلى مناطق من العالم تتمتع بتكاليف أقل في مجال الطاقة.
تستعد شركات الكيماويات "باسف" (BASF) و"داو" (Dow) و"لانكسيس" (Lanxess) للتخلي عن آلاف الوظائف ونقل الاستثمارات إلى خارج ألمانيا، لأنها لا تنتظر أن تمدها برلين بالطاقة التي تحتاج إليها بصورة موثوقة بأسعار قريبة من تلك التي دفعتها ذات مرة مقابل الغاز الآتي عبر خط الأنابيب الروسي.
أظهر استطلاع رأي أجرته رابطة "في سي آي" الكيميائية الألمانية في وقت سابق من العام الجاري، أن نحو نصف الشركات تعتزم تقليص الاستثمار في البلاد خلال 2023 جراء زيادة تكاليف الطاقة. أوضح أوليفر وجان، وهو محلل في "ألستر ريسيسرش" (Alsterresearch) أن الإنتاج سينتقل غالباً إلى دول تحظى بقيم وأنظمة سياسية مشابهة.
كتبت "في سي آي" في تقرير أصدرته الشهر الحالي: "باتت التوقعات المستقبلية إيجابية نوعاً ما في ثالث أكبر قطاع في ألمانيا، واستقرت الأوضاع بفضل التراجع الهائل في أسعار الطاقة والمواد الخام خلال الأشهر الأخيرة، إذ إنها بلغت الحضيض على ما يبدو. وعلى النقيض من وقت تفشي الوباء أو الأزمة الاقتصادية العالمية، لن يكون هناك تعافٍ قوي هذه المرة".