"كينز" توقع أن يعمل الأفراد 15 ساعة أسبوعياً بفضل التكنولوجيا لكن المشكلة تحولت إلى كيفية قضاء أوقات الفراغ

تقليل ساعات العمل لا يعني سوى المزيد من تعاسة العاملين

موظفة تعمل عن بعد من الشرفة - المصدر: بلومبرغ
موظفة تعمل عن بعد من الشرفة - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

- مقال رأي

يشعر العاملون بالإجهاد الوظيفي، لذلك لا عجب أن يتحمس الكثيرون لدراسة حديثة أُجريت في المملكة المتحدة تدّعي زيادة سعادة الموظفين -دون خسارة في الإيرادات- في الشركات التي خفضت ساعات العمل الأسبوعية 20%، أي التي تتيح 4 أيام عمل فقط في الأسبوع.

بخلاف أسبوع عمل مكون من 4 أيام، يتزايد عدد الأميركيين الذين يفضلون تخفيض ساعات عملهم ويقررون العمل بدوام جزئي، حتى في ظل توافر فرص العمل بدوام كامل. ويأتي هذا على رأس توجهات تشمل الاستقالات الصامتة والهادئة.

يبدو أننا في عصر العمل الأقل، فحتى قبل الجائحة، كان الأميركيون يعملون ساعات أقل. الواقع إننا لم نقضِ وقتاً أقل من ذلك في العمل، لذا إذا شعرنا بالإجهاد الوظيفي، فربما لا تكون المشكلة في العمل.

توقعات كينز والتكنولوجيا

الطموح في العمل لأقل مدة أمر قديم قِدَم العمل ذاته. توقع الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز أن أحفاده -رغم أنه لم يحظَ بأي أحفاد- سيحتاجون للعمل 15 ساعة أسبوعياً فقط لأن التكنولوجيا ستقوم بمزيد من المهام لصالحنا، بينما ما زلنا نعمل أكثر من 15 ساعة بكثير أسبوعياً. لم يكن "كينز" مخطئاً، فهناك توجه بالفعل لخفض ساعات العمل.

لا شك في أن التكنولوجيا قد زادت من إنتاجية القوى العاملة، والمثال الأحدث هو التكنولوجيا التي تبنيناها خلال جائحة كورونا، والتي سمحت لعدد أكبر من الأفراد بالعمل من المنزل، ووفرت وقت المواصلات والثرثرة أو التزين. رغم أن "كينز" لم يكن ليتصور وجود هاتف ذكي يمكّن مديرك من الوصول إليك في أي وقت طوال اليوم.

قدّرت دراسة أجراها الاقتصاديان مارك أغويار وإيريك هرست في 1965 أن الرجال ما بين 21 و65 من العمر عملوا بمعدل 51 ساعة في الأسبوع، وتراجع هذا المعدل إلى 39.9 ساعة فقط في 2003، واستقر منذئذ.

ما زالت النساء تشكل قطاعاً أصغر في القوى العاملة، لكن كثيرات منهن يعملن خارج المنزل منذ الستينيات وعدد أكبر منهن يعمل بدوام جزئي. وارتفع متوسط ساعات عمل المرأة من 20 إلى 26.3 ساعة بحلول 2003، وما زال هذا المعدل ثابتاً نسبياً.

قاست الدراسة نفسها العمل في المنزل، مثل المهام المنزلية، وكشفت أن التكنولوجيا أدت إلى انخفاض كبير في مدد العمل بمهام مثل جزازة العشب وغسالة الأطباق. عندما شمل الاقتصاديان كل صور العمل، قدّرا انخفاض ساعات العمل بمعدل 7.6 للرجال و6.44 للنساء.

أوقات الفراغ

الفائدة من العمل الأقل مدة هي زيادة وقت الفراغ. وزادت ساعات فراغ الرجال 20% تقريباً ما بين 1965 و2003. كما زادت ساعات فراغ النساء 10%، رغم أن الزيادة بدأت في التراجع ثانيةً في التسعينيات مع انتشار الأبوة المفرطة (helicopter parenting) وقضاء النساء مزيداً من الوقت في رعاية أطفالهن. حالياً، تمضي المرأة العاملة تقريباً مع أولادها ضعف الوقت الذي كانت تمضيه في الستينيات.

المفاجأة أنه في 1965 كان الرجال الأقل تعليماً يعملون لساعات أكثر، لكن هذا التوجه انعكس، والآن يميل أصحاب الدخول الأعلى للعمل لمدة أطول. بحلول 2003، كان الرجال المتعلمون يعملون أكثر ممن لم يحصلوا على شهادة ثانوية بخمس ساعات أسبوعياً، وما زال هذا واقعاً.

عملَ الرجال الحاصلون على تعليم ثانوي أو أدنى عدد ساعات أقل من الرجال الأعلى تعليماً بنسبة 3.6% في 2003، وتراجع الفارق في 2018 ليصبح 1.6%، وربما تقلصت الفجوة حالياً بمعدل أكبر، فمنذ الجائحة كان أغلب المستقيلين الصامتين في العمل من الرجال المتعلمين.

صراحةً، إذا كنا نهدف للوصول إلى 4 أيام فقط من العمل الأسبوعي، فأصحاب الدخول الأعلى هم من يمكنهم تحمل ساعات العمل الأقل، لكنها مسألة غير واقعية في كل أركان الاقتصاد، إذ لن يتحمل كثير من العاملين بالساعة –الأقل دخلاً- من تقليل ساعات عملهم الأسبوعية 20%، وذلك حال أغلب العاملين الذي يتقاضون رواتب.

تأثير اقتصادي

يمكن لأسبوع العمل ذي الأربعة أيام أن يُضر بالاقتصاد أيضاً. ومع رفع التكنولوجيا لإنتاجيتنا سنتمكن من زيادة الإنتاج في وقت أقل، لكن تلك الزيادات لن تكفي لتعويض ساعات عمل أقل بنسبة 20%. أشارت الدراسة البريطانية إلى إمكانية ذلك، غير أن نطاق الدراسة كان صغيراً نسبياً، و88% من الشركات التي شاركت فيها تعمل في مجال التسويق أو المهن الحرة أو الإشراف الإداري أو الأعمال الخيرية أو غير هادفة للربح، وهذا لا يتناسب مع النطاق الأكبر للاقتصاد.

يؤدي تقليل ساعات العمل إلى خفض الإنتاج في بعض الوظائف، ما يعني توفير عدد أقل من السلع والخدمات، وهذا يفاقم من نقص العمالة ويرفع معدل التضخم ليزيد الجميع فقراً.

حتى الشركات التي شاركت في الدراسة اشتكت من أن 4 أيام عمل أسبوعية أدت لمزيد من الارتباك، لأن بقية العالم يعملون 5 أيام أسبوعياً، وواجهت الشركات التي تسمح للعاملين باختيار إجازاتهم مشكلات في التنسيق بين موظفيها.

إذاً، اقتصادنا ليس مستعداً لتقليل ساعات العمل 20%، لكن يوجد توجه حقيقي للشعور بالإجهاد الوظيفي بين من يعملون لساعات أقل. السؤال هنا هو ما السبب؟ كيف يرتفع عدد من يشعرون بالإجهاد الوظيفي إذا كانت ساعات عملهم أقل ويمتلكون وقت فراغ أكبر مما حظيت به الأجيال السابقة؟

الافتقار للراحة الحقيقية

ربما يكمن السبب في أنه مع تراجع عدد ساعات العمل، لا يبدو أننا ننال راحة حقيقية. المدة التي يقضيها الوالدان في رعاية الأطفال أطول مما قضتها الأجيال السابقة. فنحن نمضي أوقات فراغنا بشكل مختلف، ورغم زيادتها، وحتى الاستجمام في أوقات الفراغ لم يعد منعشاً كما كان، فنقضي الوقت في التحديق في شاشاتنا وألعاب الفيديو المليئة بالإثارة، وقللنا وقت القراءة أو قضاء الوقت مع الأشخاص في دائرتنا الاجتماعية. هذه الميول ترتبط بزيادة القلق والتعاسة عند المراهقين والبالغين معاً.

ربما يكون مصدر إرهاقنا ليس عدد ساعات العمل الفعلية، بل كيف نمضي أوقات الراحة. العمل من المنزل زاد الطين بلة، فمع أننا قد نوفر الوقت ونرفع إنتاجيتنا، زادت مدة جلوسنا وحدنا أمام الشاشة، وتلك مفارقة ساخرة في أكثر من جانب. توقع "كينز" أن تحررنا التكنولوجيا من العمل، وخفضت ساعات عملنا وزادت من وقت فراغنا، لكنها زادت أيضاً من شعورنا بالإرهاق والتعاسة.

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
هذا المقال لا يعكس موقف أو رأي "الشرق للأخبار"وهو منشور نقلا عن Bloomberg Mediaولا يعكس بالضرورة آراء مجلس تحرير Bloomberg أو ملاكها
تصنيفات

قصص قد تهمك

الآراء الأكثر قراءة