هناك عنصر مفقود في عرض الملياردير جيم راتكليف لشراء حصة أغلبية في نادي "مانشستر يونايتد" لكرة القدم، وهو عنصر الدَّين. الشيخ جاسم بن حمد آل ثاني، صاحب العرض المنافس، أكد أن عرضه للاستحواذ على النادي سيكون بلا ديون. ولم يذكر "راتكليف –الذي سبق له الاستدانة– شيئاً عن هذا الأمر. لذا على محبي النادي التحلي بهدوء الأعصاب.
هناك ما يكاد يصل إلى حد الاشمئزاز الأخلاقي من استخدام الدَّين في المملكة المتحدة. أضف إلى ذلك أن محبي "مانشستر يونايتد" بالفعل يشعرون بالضيق من أن مالكي النادي الحاليين، وهم عائلة "غليزر"، راكموا الديون وحصلوا على توزيعات أرباح.
لكن الحقيقة المزعجة هي أن الأموال المقترَضة كانت عاملاً رئيسياً لنجاح مجموعة "إنيوس" (Ineos Group)، المملوكة لـ"راتكليف". وتُعتبر الشركة حالة نموذجية لبيان كيفية تحوّل الدَّين كأفضل وسيلة لتمويل مشروع طالما توافرت سمات معينة لهذا المشروع.
بدايات "إنيوس"
الخلاصة هي أن "إنيوس" تأسست من خلال عملية شراء شركة كيماويات تقع في مدينة "أنتويرب" البلجيكية عام 1998 من شركة "إنسبيك" (Inspec) المدرجة في بورصة لندن، وهي أحد الاستثمارات السابقة لشركة "أدفنت إنترناشونال" (Advent International) للاستثمار المباشر. وعمل "راتكليف" سابقاً في شركة "أدفنت"، كما كان جزءاً من فريق الإدارة في "إنسبيك"، وقاد عملية الاستحواذ على الوحدة البالغة قيمتها 84 مليون جنيه إسترليني (101 مليون دولار).
أعقب ذلك أكثر من 20 عملية استحواذ في العقد الذي تلاه، مع الاستدانة حسب الاحتياج. لكن عملية استحواذ واحدة كانت الأبرز بين كل العمليات الأخرى– والتي تمثلت في شراء وحدة "إنوفين" (Innovene) للبتروكيماويات التابعة لشركة "بي بي" (BP) في 2005 بقيمة 9 مليارات دولار.
وكانت قيمة الشركة المستهدف شراؤها أكبر بنحو 3 أضعاف من قيمة المشتري من حيث الإيرادات السنوية. واستدانت "إنيوس" بشكل أكبر بغرض إتمام الصفقة، إذ قفز صافي الدَّين إلى 7.9 مليار يورو (8.4 مليار دولار) خلال عام واحد، بعدما كان 600 مليون يورو.
"إنيوس" تشق طريقها للأمام
ثم دفعت الأزمة المالية العالمية "إنيوس" إلى الحافة. وتقدمت شركة البتروكيماويات المنافسة "ليونديل بازل" (LyondellBasel) بدعوى لإشهار إفلاسها، لكن مقرضي "إنيوس" كان رأيهم أن استرداد أموالهم أصبح أمراً أكثر ترجيحاً، إذا ما تركوا "راتكليف" وفريقه يركزون على مهامهم، إذ وافقوا على التنازل عن تعهدات القروض.
وسجل صافي الدَّين في نهاية 2009 مستوى مرتفعاً بلغ 7 أضعاف الأرباح قبل احتساب الفوائد والضرائب والإهلاك والاستهلاك. ونجحت "إنيوس" في شق طريقها للأمام.
أعقب ذلك المزيد من عمليات الاستحواذ والمشروعات المشتركة، التي موّلها مزيج من السيولة النقدية والديون. اشترت "إنيوس" في 2019 فريق نادي "نيس" لكرة القدم، وتشمل مجموعتها من الاستثمارات في قطاع الرياضة النادي السويسري "لوزان سبورت" لكرة القدم وثلث فريق "مرسيدس إيه أم جي بتروناس" (Mercedes-AMG Petronas) لسباقات "فورمولا 1". وظلت المديونية تحت السيطرة، إذ بلغ متوسطها نحو 3 أضعاف الأرباح قبل احتساب الفوائد والضرائب والإهلاك والاستهلاك منذ الأزمة المالية وانخفضت لأقل من الضعفين في نهاية 2021.
الدروس المستفادة
يقدِّم ذلك دروساً مستفادة لكل من المستثمرين ومحبي كرة القدم.
أولاً، تُعد هذه الصورة وصمة أخرى في جبين سوق الأسهم في المملكة المتحدة. ومن الصعب تخيل أن "إنسبيك" كان بإمكانها أن تصبح "إنيوس" كشركة عامة. وكان أحد الدوافع وراء عملية البيع الأصلية في "أنتويرب" هو الحاجة لتهدئة مخاوف المساهمين بشأن الطبيعة الدورية للكيماويات السلعية.
رغم صعود أسهم "إنسبيك" عند بيعها لـ"راتكليف"، كان الملياردير في الجانب الرابح من الصفقة. وكانت عوامل تمثلت في طلب سوق الأسهم لتوزيعات الأرباح، ونفورها من الاستدانة، والضعف المُرجَّح لسعر السهم في أدنى مراحل دورة الكيماويات ستستبعد استراتيجية الدمج التي سعى "راتكليف" لتنفيذها.
على خلاف ذلك، فإن تمويل الدَّين والملكية الخاصة يوائمان الكيماويات السلعية بشكل مثالي. يود مستثمرو السندات بالأساس الحصول على الفائدة ومدفوعات الأصل في الموعد المحدد، وبإمكانهم تحمل ما يطرأ من تقلبات.
القروض صديق وفي
القروض صديقك الوفي، شريطة أن تحدد مواعيد استحقاق الدَّين بحيث لا تحل آجالها خلال أزمة. وإلى جانب ذلك، اتسمت "إنيوس" بالانتهازية في تمويل القروض التي حصلت عليها بشروط جذابة للغاية، عندما فتحت أسواق الائتمان أبوابها من جديد بعد الأزمة.
يتعلق الأمر بما هو أكثر من الدَّين، فقد استهدفت "إنيوس" وحدات لا يرغب أحد في شرائها داخل شركات كبيرة للنفط والكيماويات. تُقدِّم تلك الأنشطة عادةً تخفيضات سهلة في التكلفة تعزز الأرباح وتخفض معدلات الاستدانة.
وعلى عكس ما تفعله أي شركة استحواذ، لم يضطر "راتكليف" للتفكير في مشترٍ مستقبلي لكل عملية استحواذ. الفكرة هنا هي الحفاظ على الأصول على المدى الطويل.
إلى أي مدى ينبغي لمحبي "مانشستر يونايتد" الشعور بالاطمئنان –أو بالحيرة– بشأن هذا الأمر برمّته؟
ديناميكيات مختلفة
الديناميكيات المالية للكيماويات السلعية ولنادٍ عالمي لكرة القدم أبعد ما تكون عن بعضها البعض. ففي حالة الكيماويات السلعية، أنت تشتري أحد الأصول التي تولِّد النقد ولا يهتم أي شخص بها بالفعل، بسعر يعادل مضاعف ربحية منخفض للغاية، مع وجود إمكانية خفض التكاليف.
أما مع أحد الأصول الممتازة مثل نادٍ رياضي، فإن العكس صحيح. تسحب أجور اللاعبين وانتقالاتهم لأندية أخرى السيولة النقدية، كما تُعقد الصفقات بأسعار تعادل مضاعف ربحية مرتفع للغاية.
لكن ماذا عن خفض التكاليف؟ انس ذلك الأمر، فأنت لا تُدير فريق لكرة القدم بالطريقة نفسها التي تُدير بها مصفاة تكرير.
لكن الفطنة المالية العامة لها أهمية كبيرة. تملك "إنيوس" سجلاً مالياً تُحسد عليه، كما أنها ظلت صامدة في مواجهة الأزمات وحافظت على أغلب ما اشترته من أصول لفترة طويلة للغاية. وهذه مؤهلات مقنعة تجعل الشركة أهلاً لقيادة النادي.