من قلب الأحراش على مقربة من ضفاف نهر سابارماتي التي كانت مرتعاً للجواميس وطيور المستنقعات، يطل أحدث مركز ماليّ في الهند . هناك، في ولاية غوجارات، يحتضن عدد قليل من الأبراج ذات الواجهات الزجاجية شركات توظف 20 ألف موظف ممن يأتون إليها يومياً، من أمثال "جيه بي مورغان تشيس آند كو" و"إتش إس بي سي هولدينغز".
اسم المركز الكامل هو "غوجارت إنترناشيونال فاينانس تك سيتي" (Gujarat International Finance Tec-City)، لكن الاسم الأكثر تداولاً هو "غيفت سيتي" (GIFT City). ويشغل المركز مساحة 886 فداناً بين غانديناغار -عاصمة ولاية غوجارات- وأحمد أباد أكبر مدن الولاية. واعتباراً من أكتوبر الماضي تمكنت البنوك الاستثمارية هناك من إدارة ما مجموعه 33 مليار دولار.
أهم ما يجذب هذه الشركات إلى هناك هو الإعفاء من عديد من القواعد والضرائب التي تعوق الأعمال التجارية وعمليات التداول في باقي أنحاء الهند. وتعتبر "غيفت سيتي" تجربة للأسواق الحرة داخل اقتصاد يصل حجمه إلى 3 تريليونات دولار -وهو أحد أسرع الاقتصادات نمواً في العالم- الذي كان متردداً منذ فترة طويلة في السماح للعملة الوطنية الهندية (الروبية) بأن تصبح تحت سيطرة المستثمرين الدوليين. والهدف من هذا المركز هو إنشاء مكان يرحب بالجميع ويسمح للتجارة المتمركزة حول الهند التي انتقلت إلى دبي أو موريشيوس أو سنغافورة بأن تعود من خلاله إلى وطنها الأم.
لماذا يختار المستثمرون "غيفت سيتي"؟
من الوهلة الأولى قد تبدو غوجارات موقعاً غير مؤهل لمثل ذلك النشاط، فالولاية الواقعة على الساحل الغربي للهند تُعتبر التاسعة من حيث عدد السكان، وهي تحظر بيع الكحول تعبيراً عن الاحترام الذي تكنه لمهاتما غاندي الذي وُلد فيها، في حين أن الكحول في العادة يكون حاضراً عند التفاوض على كثير من الصفقات المالية.
بدأ رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي التخطيط لـ"غيفت سيتي" في 2008، عندما كان لا يزال يتولى منصب رئيس حكومة ولاية غوجارات. وسمح صعوده إلى منصب رئيس وزراء الهند في 2014 بمنح المشروع دفعة سياسية أكبر وإعلاء مكانته. وفي خطاب وجهه في يوليو لمصرفيين وهيئات تنظيمية ومديرين تنفيذيين من الهند وخارجها، أعلن مودي أن "رؤية مستقبل الهند مرتبطة بـ(غيفت سيتي)".
قدمت حكومة مودي مجموعة من الحوافز، بما في ذلك إعفاء ضريبي بنسبة 100% لمدة 10 سنوات للشركات التي أنشأت فروعاً لها داخل مركز الخدمات المالية الدولية التابع لـ"غيفت سيتي"، والمعروف اختصاراً بـ"IFSC". كما جرى تعديل القواعد لتشجيع الشركات الهندية على استئجار السفن والطائرات عبر التعامل مع "غيفت سيتي" بدلاً من المراكز الأجنبية. وفي نهاية المطاف سيُسمح للجامعات الأجنبية بعدم التقيد باللوائح لكي تفتح فروعاً جامعية محلية لها هناك، كما يمكن للشركات استخدام مركز التحكيم الدولي في المدينة لتجنب آليات إنفاذ العقود سيئة السمعة في الهند.
تسهيل تداولات الروبية الهندية
من بين المخاوف الرئيسية التي يسعى المركز المالي إلى معالجتها افتقار الهند إلى قابلية التحويل الكاملة لعملتها، إذ يتطلب تحويل الأموال إلى عملات أجنبية وثائق معقدة، وهو ما يدفع التداول بالروبية والأصول المالية المقومة بهذه العملة إلى مراكز خارجية لا تستطيع الجهات التنظيمية الهندية مراقبتها، لكن في "غيفت سيتي" لا تنطبق معظم هذه القواعد، وهو ما يتيح التداول الداخلي في عقود مشتقات العملات الرئيسية، التي يمكن أن تتصدى لبعض التأثيرات التي تحدثها التداولات الخارجية على سعر صرف الروبية.
انتقل منتَج آخَر إلى المركز المالي، وهو مشتق رائج يعتمد على مقياس معياري للأسهم الهندية التي جرى تداولها في بورصة سنغافورة. وخلال 2022 فتحت البورصة الوطنية الهندية رابطاً تجارياً عابراً للحدود مع سنغافورة -على غرار الرابط بين هونغ كونغ وشنغهاي- حتى تسمح للمستثمرين العالميين بتداول مشتقات الأسهم المدرجة في السوق الهندية دون الحاجة إلى فتح فروع لهم داخل البلاد.
ارتفعت أحجام التداولات منذ أن أنشأت الحكومة الهندية هيئة تنظيمية موحدة في 2020، وهي هيئة مركز الخدمات المالية الدولية، وذلك لتبسيط الموافقات وعمليات الإشراف في المنطقة الاقتصادية الخاصة. وفي أكتوبر الماضي ارتفع متوسط حجم التداول اليومي في البورصتين الموجودتين داخل المركز المالي إلى 14.6 مليار دولار، مقارنة بـ3.4 مليار دولار قبل عامين، فيما قفزت المعاملات المشتقة التراكمية من قِبل البنوك إلى 466 مليار دولار، مقارنة بـ22 مليار دولار، وصعدت المعاملات المصرفية التراكمية إلى 303 مليارات دولار، من 45 مليار دولار.
خدمات مالية وتجارية جذابة
يقول إنجيتي سرينيفاس، رئيس هيئة مركز الخدمات المالية الدولية: "يلاحظ بعض المراكز الخارجية التي تطورت فيها الأعمال التجارية المتمركزة حول الهند أن في المشهد تغيراً، وقد لا تبقى الأمور على حالها في المستقبل، فالشركات تنجذب إلى التعامل مع المركز".
أيضاً ستتيح بورصة السبائك الدولية الجديدة لصانعي الجواهر المؤهلين استيراد الذهب مباشرة إلى الهند عبر بوابة "غيفت سيتي"، وهو ما يشكل تغييراً مقارنة بالقواعد الحالية التي تسمح فقط لبعض البنوك والوكالات المعينة المعتمدة من قِبل البنك المركزي بعمل ذلك. ومن المقرر أن يؤدي تخفيف القيود هذا إلى توسيع قاعدة المستوردين في الهند، التي تعد ثاني أكبر سوق استهلاكية في العالم. كما تحاول شركة لتأجير وتمويل الطائرات في "غيفت سيتي" الاستفادة من الطلب على الطائرات الجديدة في إحدى أسواق الطيران الأكثر سخونة في العالم، فيما ستبدأ قريباً في العمل على تأجير السفن.
بدأ "جيه بي مورغان" و"دويتشه بنك" عملياتهما في "غيفت سيتي" خلال يوليو الماضي. وسيقدم "جيه بي مورغان" للعملاء في البداية مشتقات الصرف الأجنبي، كما يستهدف تعزيز مكانته باعتباره واحداً من أكبر موردي السبائك المادية في البلاد. أما "دويتشه بنك" فيتطلع إلى الاستفادة من العدد المتزايد للشركات في الهند التي تحتاج إلى خدمات مصرفية عبر الحدود، وتتراوح هذه الخدمات بين التحوط والتمويل (في عام 2018 أبرمت مؤسسة "بلومبرغ إل بي"، مالكة شركة "بلومبرغ ماركتس"، اتفاقية لتوفير خدمات خبراء أسواق رأس المال لـ"غيفت سيتي").
"رؤية اقتصادية بلا روتين"
يقول سرينيفاسان فاراداراجان، المدير الإداري للأسواق الناشئة العالمية لدى "دويتشه بنك" في مومباي: "نعتقد أن سياسة (غيفت سيتي) تمثل نهجاً مدروساً بعناية تجاه تدويل الروبية، إذ تشبه في بعض خصائصها ما شهدته آسيا من نمو على مدى العقد الماضي".
جاكساي شاه، المؤسس والعضو المنتدب لشركة التطوير العقاري "سافي إنفراستراكشر" (Savvy Infrastructure)، هو واحد من الأشخاص الذين يراهنون على هذا النمو، إذ اشترت شركته، التي بنت البرج الذي يضم مكاتب "بنك أوف أميركا" والمقر المؤقت لهيئة مركز الخدمات المالية الدولية، قطعتَي أرض قريبتين لمضاعفة ممتلكاتها في "غيفت سيتي". يقول شاه: "أين سأعثر في مسيرتي المهنية مجدداً على مثل هذا النوع من المدن الذكية التي تتمتع برؤية اقتصادية دون روتين؟".
تُعَدّ "غيفت سيتي" المدينة الأولى في الهند التي تقدم خدمة المناطق المبردة، ونظام تكييف الهواء الموفر للطاقة، بالإضافة إلى إدارة مركزية للنفايات والمياه والكهرباء. ورغم تمتعها بشوارع وحارات جميلة ومراكز رياضية متطورة، فضلاً عن الإضافات الحديثة بما في ذلك مدرسة ومستشفى، فإن العمال يميلون إلى الخروج منها في المساء، إذ يستقلون الحافلات الكهربائية إلى منازلهم في المدن القريبة التي تحتوي على وسائل الترفيه، مثل دور السينما ومطاعم الوجبات السريعة.
بيئة آمنة للشركات
يقول بعض المديرين التنفيذيين الأصغر سناً في مومباي ودلهي وغوجارات، ممن طلبوا عدم الكشف عن هوياتهم لأنهم غير مصرح لهم بالتعليق، إنهم كثيراً ما يتلقون أسئلة عبر الهاتف حول ما إذا كان سيُسمح بالكحول أم لا. وصرح عديد من صانعي السياسات والمشرعين لـ"بلومبرغ ماركتس" بأنهم يتوقعون أن تقدم السلطات إعفاءً جديداً من القواعد للسماح بتراخيص شراء واستهلاك الكحول. كما تدرك حكومة الولاية أنها بحاجة إلى تعديل متطلبات الامتناع عن شرب الخمور، لجذب السكان وضمان نجاح المشروع، حسب قولهم.
هذه باختصار كانت قصة "غيفت سيتي"، التي تُعَدّ واحة للشركات، يمكن من خلالها الهروب من قواعد الهند والبيروقراطية، في محاولة لجذب مليارات الدولارات للعودة إلى الأسواق الهندية الداخلية. مع توفير "بيئة آمنة" يمكن لشركات التكنولوجيا المالية فيها التعامل مع منتجات جديدة ذات روابط سلسة مع الأنظمة العالمية، وقد تتمكن حتى من وضع رؤية لمستقبل الهند.