قبل أقل من عقد من الزمن، كان مطار هيثرو في لندن المطار المحوري بلا منازع لأوروبا، مع آلاف الركاب يومياً، وخطة توسّع طموحة تضمّنت مُدرّجاً جديداً كلياً. كما كانت "الصالة 5" لا تزال جديدة، حيث استضاف أكبر مبنى قائم بذاته في المملكة المتحدة سلسلة من المتاجر والمطاعم الجذابة، بما في ذلك مطعماً أسسّه الشيف الشهير غوردون رامزي؛ وبالتالي ارتبط المطار بالطموح والنمو وبريطانيا المنفتحة.
لكن الأمور تتغير؛ فاليوم يخوض مطار هيثرو نزاعاً آخر مع شركات الطيران بعد إصراره على وقف مبيعات التذاكر خلال موسم العطلات المدرسية المربح، وهي خطوة قد تُكلِّف ما يصل إلى 500 مليون دولار من الإيرادات الضائعة.
يكافح المطار لإدارة اندفاع المصطافين بعد الجائحة، إذ أصبحت الطوابير الطويلة من المسافرين المحبطين مشهداً مألوفاً. ورفضت إحدى شركات الطيران، وهي طيران الإمارات، في البداية الامتثال لقرار الحد الأقصى للركاب، واصفة إياه بـ"كارثي وغير معقول" قبل أن تتراجع عن موقفها. كما اضطرّت حكومة المملكة المتحدة إلى التدخل، وطالبت بخطة إنعاش "موثوقة ومرنة" من المطار.
اقرأ أيضاً: وصفت إدارة المطار بـ"المتعجرفة".. "الإمارات" ترفض طلب "هيثرو" بخفض رحلاتها
في الواقع، ما يزال أي احتمال لوجود مُدرَّج ثالث بعيداً لسنوات، حيث يتساءل النقّاد عمّا إذا كان مطار هيثرو يحتاج إلى مساحة أكبر بالنظر إلى أنه لم يستطع حتى التعامل مع سعته الحالية، وذلك بغض النظر عن المخاوف البيئية.
مع النقص المزمن في العمالة في بريطانيا تزامناً مع فوضى السفر، أصبحت متاعب مطار هيثرو رمزاً لدولة تعاني من الركود الاقتصادي، والاضطرابات السياسية، ومكان ينقصه اليقين بشكل متزايد في العالم.
ليس مطار هيثرو وحده بالطبع؛ فقد كان الصيف الحالي حامي الوطيس للسفر الجوي عبر أوروبا، حيث يُعدّ مطار غاتويك في لندن، ومطار شيفول في أمستردام، ومطار فرانكفورت، من بين عدد من المطارات التي تحدّ من طاقتها الاستيعابية. ومع ذلك، تعرّضت المملكة المتحدة لضربة أشد من نظيراتها في القارة، نظراً لضعف عدد الباحثين عن عمل ومحدودية المعروض من العمالة الأوروبية بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
أثار الخلاف مع شركة طيران الإمارات احتمال حدوث تمرّد من شركات طيران أخرى مترددة في كبح تدفقات الركاب بعد عامين من السفر الخارجي المحدود. وفي وقت متأخر من يوم الجمعة، أعلنت شركة الطيران والمطار عن تغيير في مواقفهما.
وفقاً لبيان مشترك، قالت طيران الإمارات إنها "مستعدة وراغبة في العمل مع المطار لتصحيح الوضع خلال الأسبوعين المقبلين، للحفاظ على توازن الطلب والقدرة الاستيعابية وتزويد الركاب برحلة سلسة وموثوقة عبر مطار هيثرو هذا الصيف؛ وقيّدت طيران الإمارات المزيد من المبيعات على رحلاتها من مطار هيثرو حتى منتصف أغسطس لمساعدة مطار هيثرو على زيادة موارده، والعمل على تعديل السعة".
كانت علاقة المطار بشركات الطيران متوترة بالفعل بعد أن حاول زيادة الرسوم بنسبة تصل إلى 95%، مقارنة بمستويات ما قبل "كوفيد" للتعويض عن الجائحة؛ وأدّتْ الخطة إلى قيام ويلي والش، الرئيس السابق للخطوط الجوية البريطانية، باتهام رؤساء المطار بأنهم "لا يملكون أي عقل تجاري". وفي يونيو، حدّدت هيئة الطيران المدني في المملكة المتحدة الرسوم بمتوسط سعر أقصى يبلغ 26.31 جنيهاً إسترلينياً (31.17 دولاراً) لكل راكب في عام 2026، بانخفاض عن 30.19 جنيهاً إسترلينياً اليوم، ليكون ذلك انتصاراً لشركات الطيران وهزيمة لمطار هيثرو.
اقرأ أيضاً: مطار “هيثرو" ينوي رفع رسومه 56% مثيراً حنق شركات الطيران
تصاعدت التوترات بسبب تأثير جائحة "كوفيد" التي تسبّبت في خسائر بقيمة 180 مليار دولار لشركات الطيران وفقاً لاتحاد النقل الجوي الدولي (IATA)، الذي يديره "والش".
علاوةً على ذلك، قال روب موريس، الرئيس العالمي للاستشارات في شركة "أسيند باي سيريوم" (Ascend by Cirium): "إنّ صناعة الطيران، بما في ذلك المطارات، عالقة بين المطرقة والسندان حيث لم يكن أمامها خيار سوى تقليص قوتها العاملة في ذروة الجائحة، عندما لم تكن هناك عائدات؛ وهذا يعني أيضاً أنه من خلال إعادة التوظيف، فإنها تُعرّض عودتها إلى الربحية والنمو للخطر".
اقرأ أيضاً: خسائر مطار "هيثرو" تتجاوز 5 مليارات دولار في عامين بسبب "كورونا"
جعلت قوانين العمل الليبرالية نسبياً في المملكة المتحدة من السهل على مشغلي المطارات، وشركات الطيران فصل الموظفين في وقت مبكر من الجائحة؛ ومع ذلك، فقد كافح هؤلاء لاحقاً لاستبدال العمال بالسرعة الكافية عندما انتعش الطلب؛ حيث وجد بعض الناس وظائف مفضلة في أجزاء أخرى من الاقتصاد، بدلاً من العودة إلى وظائفهم القديمة في المطارات أو على متن الطائرات.
كتب محللو وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني هذا الأسبوع: "تؤدّي متطلبات التصريح الأمني الصارمة في هذا القطاع، ووجود مجموعة أقل من المرشحين بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي القادرين على تلبية معايير الموافقات، إلى تباطؤ عمليات التوظيف في المطارات وشركات الطيران في المملكة المتحدة؛ كما أن مستويات البطالة المنخفضة في البلاد تعني أيضاً أن المطارات وشركات الطيران بحاجة إلى زيادة الأجور وتقديم المزيد من الحوافز لتوظيف الموظفين، وزيادة التكاليف والضغط على الهوامش".
اقرأ أيضاً: نقص موظفي شركات الطيران يهدد بإفساد إجازات الصيف للملايين
في حين أن مطار هيثرو في وضع لا يحسد عليه، تتهم شركات الطيران المطار بالفشل في توقع قفزة كبيرة في الطلب على الإجازات الخارجية بمجرد إلغاء قيود "كوفيد"، حيث قلّل جون هولاند كاي، الرئيس التنفيذي لمطار هيثرو، من أهمية زيادة الحجوزات في أبريل، قائلاً إن الكثير من الطلب جاء من "الأشخاص الذين يستفيدون من القسائم أو يقومون برحلات مؤجلة". وفي الشهر الماضي، قال إنَّ الأمر قد يستغرق 18 شهراً أخرى حتى يعود القطاع إلى طاقته الكاملة، ما دفع رئيس شركة "فيرجن إيرويز" (Virgin Airways)، شاي فايس، إلى وصفه بأنه "عذاب الرب".
في الواقع، يُظهر موسم الذروة لهذا العام القليل من الدلائل على إنتاج نوع الإيرادات التي كان من الممكن تحقيقها. وبينما يقول مطار هيثرو إنه يوسّع نطاق التوظيف وسيُوظّف قريباً عدداً من الأشخاص في مجال الأمن بمستوى مشابه لعددهم خلال فترة ما قبل الجائحة، فلا يوجد ضمان بأن الطلب سيظل مرتفعاً بعد فصل شتاء يتّسم بارتفاع قياسي في أسعار الطاقة وتكاليف الغذاء.
من جانبه قال موريس من شركة "سيريوم": "بالنسبة لمطار هيثرو وبقية صناعة الطيران، أعتقد أنه من الأساسي التركيز على الترتيب لصيف 2023، على الرغم من أن التوقعات الاقتصادية القاتمة تجعل من الصعب للغاية التنبؤ بالطلب".
حوّلت شركة "هولاند كاي" (Holland-Kaye) بعض اللوم عن المطار، حيث تقول إن شركات الطيران ليس لديها عدد كافٍ من العمال، و"على وجه الخصوص عمال المناولة الأرضية الذين تتعاقد معهم شركات الطيران لتوفير خدمات تسجيل الوصول، وتحميل الحقائب وتفريغها، وتغيير اتجاه الطائرات".
يُضيف الخلاف الحالي إلى الشعور بالإحباط حول السفر الجوي في وقت كان من المتوقع أن يعكس احتضان حريات ما قبل "كوفيد"، حيث أصبحت بدلاً من ذلك صور الركاب النائمين المحتشدين في طوابق صالات المطار تهيمن على موسم العطلة الصيفية.