تواصل روسيا العمل على إنشاء ممرين جديدين للنقل يربطان بين آسيا وأوروبا، حيث تحاول إضعاف تأثير العقوبات المفروضة عليها جراء حربها في أوكرانيا بنفس الوقت الذي تعطل فيه اضطرابات الشرق الأوسط التجارة العالمية.
يمكن لشبكات الشحن والسكك الحديدية التي تمر عبر إيران وممر بحري بالقطب الشمالي تعزيز تحول موسكو نحو القوتين الآسيويتين الصين والهند والذهاب بعيداً عن أوروبا. يملك البلدان القدرة على دمج روسيا في قلب حجم كبير من التجارة الدولية حتى بوقت تحاول فيه الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها عزل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسبب الحرب.
يمكن أن تخفض هذه الطرق من 30% إلى 50% من أوقات العبور بالمقارنة مع قناة السويس وتتفادي المشكلات الأمنية التي يعاني منها البحر الأحمر، حيث يهاجم المتمردون الحوثيون الملاحة الدولية جراء حرب إسرائيل ضد حماس في غزة. كما فاقمت الضربات الجوية بالصواريخ والطائرات المسيرة الإيرانية التي استهدفت إسرائيل الاضطرابات الإقليمية.
اهتمام خليجي وآسيوي بالطرق الروسية
بينما تتجنب الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون استخدام الطرق المدعومة من روسيا رغم وفورات التكلفة المحتملة، أبدت الاقتصادات الآسيوية والخليجية الكبرى اهتماماً بها.
مع ذلك، ما زالت هناك عقبات كبيرة؛ إذ تعيق البنية التحتية الإيرانية القديمة تطوير ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب الذي يربط الهند بالجزء الأوروبي من روسيا.
ورغم أن تسارع التغير المناخي يسفر عن ذوبان الجليد في القطب الشمالي الذي قد يجعل طريق بحر الشمال أو (NSR) خياراً أكثر قابلية للاستخدام، إلا أنه ما تزال هناك تحديات لوجستية ضخمة على طول الساحل النائي لروسيا.
إيران توقع مذكرة تفاهم مع "غازبروم" لتنفيذ مشاريع بـ40 مليار دولار
بدأت روسيا الاستعداد لاستثمار ما يفوق 25 مليار دولار لتحديث الطريق الذي يمر عبر إيران وتحسين المرافق على طول ساحل القطب الشمالي الروسي، بما يتضمن بناء أسطول من كاسحات الجليد المصنعة محلياً.
وأفاد تقرير نشرته صحيفة "إزفستيا" نقلاً عن مسؤول مجهول الهوية في وزارة الدفاع أنها تعتزم تسيير دوريات على طريق بحر الشمال بالاعتماد على شبكة من قواعد إطلاق الطائرات المسيرة.
كما أصدرت روسيا قرضاّ بقيمة 1.3 مليار يورو (1.4 مليار دولار) لإيران مايو الماضي لإنشاء خط سكة حديد منقوص حيوي يمتد 162 كيلومتراً (101 ميل) لربط مدينة رشت على طول ساحل بحر قزوين بمدينة آستارا على الحدود مع أذربيجان. وبمجرد اكتماله، سيسمح خط السكة الحديد بنقل إمدادات الشحن من سانت بطرسبرغ إلى بندرعباس، الذي يعد ميناء التصدير الرئيسي لإيران على الخليج العربي.
سكك حديدية لا تتأثر بالعقوبات
صرح بوتين خلال مؤتمر عبر الفيديو مع نظيره الإيراني إبراهيم رئيسي: "بعد اكتمال البناء سنتمكن من نشاء ممر نقل مباشر ودون انقطاع عبر خط السكة الحديد الممتد على طول الطريق بين الشمال والجنوب. وسيساعد هذا في تنويع طرق تدفقات نقل البضائع العالمية بصورة كبيرة".
روسيا وإيران تعتزمان تعزيز العلاقات التجارية في مواجهة عقوبات أمريكا
قد تنمو سعة النقل على طول الطريق بين الشمال والجنوب، والتي تشمل خط سكة حديد أطول يمر عبر آسيا الوسطى وشبكة بحر قزوين، 85% لتصل إلى 35 مليون طن سنوياً بحلول 2030، بحسب بنك التنمية الأوروبي الآسيوي.
سيربط هذا الخط روسيا بإيران والهند وكذلك بقية دول جنوب آسيا والخليج العربي وأفريقيا. في أغسطس الماضي، أرسلت روسيا أول قطار حاويات مباشر لها إلى المملكة العربية السعودية.
ذكر نيكيتا سماغين، محلل في مجلس الشؤون الدولية الروسي الذي أسسه الكرملين: "إذا توقفت الطرق الأخرى عن العمل، فسيواصل هذا الطريق العمل لأنه لا يتأثر بالعقوبات. وهذه هي الفكرة الرئيسية".
بلغت التجارة مع الصين رقماً قياسياً عند 240 مليار دولار خلال 2023 بفضل مبيعات النفط الروسي ومشتريات الإلكترونيات والمعدات الصناعية والسيارات، وهو أكثر من ضعف مبلغ 108 مليارات دولار الذي سجلته خلال 2020. نمت التجارة مع الهند إلى 64 مليار دولار تقريباً السنة الماضية، مقابل نحو 10 مليارات دولار قبل 3 أعوام، إذ زادت مشتريات نيودلهي من النفط الروسي منذ بدء حرب أوكرانيا.
تشجع التجارة الروسية المتنامية مع الصين الكرملين فعلياً على إنفاق المليارات لتحديث خطوط السكك الحديد الشرقية الشاسعة لتوسيع سعتها للنقل عن طريق الخط الرئيسي، الذي يمر عبر سيبيريا وبايكال بحلول 2030.
تعثر التجارة بين موسكو وأنقرة
رغم ذلك، فإن الازدهار التجاري التركي مع الجارة روسيا بدأ يتعثر، في ظل شن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حملة إجراءات صارمة ضد ما يسمى بالسلع مزدوجة الاستخدام، التي يمكن أن توفر للكرملين شريان حياة حيوياً لهجومها العسكري على أوكرانيا.
وكشفت بيانات أولية نشرتها وزارة التجارة التركية بوقت سابق من الشهر الجاري أن الصادرات التركية إلى روسيا انخفضت بمقدار الثلث خلال الربع الأول من السنة الحالية مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق.
الاقتصاد والنفط والحبوب وسوريا.. عناوين القمة الروسية-الإيرانية-التركية
على الجانب الآخر، تباطأ تطوير طريق بحر الشمال بفعل العقوبات الغربية جراء غزو أوكرانيا التي أوقفت خطة روسية لتصدير الغاز الطبيعي المسال من محطة "آركتيك 2" للغاز الطبيعي المسال إلى آسيا حيث جمد المستثمرون الأجانب الرئيسيون مشاركتهم فيه. وقوضت أيضاً العقوبات العقود الخاصة بالمحطة للحصول على السفن الكاسحة للجليد اللازمة للإبحار عبر المياه المتجمدة.
وتوقفت شركة الشحن الصينية "كوسكو" عن استخدام الطريق اعتباراً من 2022، رغم أن الرحلة من ميناء داليان في الصين، إلى ميناء روتردام في هولندا على طول طريق بحر الشمال تستغرق نحو 33 يوماً، بالمقارنة مع 48 يوماً عبر قناة السويس. وتوقفت جميع عمليات العبور بين آسيا وأميركا الشمالية وأوروبا عبر القطب الشمالي وسط مخاوف من انتهاك العقوبات، بعدما شكلت 40% من أحجام الشحن خلال 2021.
يأتي هذا رغم هجمات المسلحين الحوثيين اليمنيين المدعومين من إيران المستمرة منذ أواخر السنة الماضية التي استهدفت سفن في البحر الأحمر وما حوله، وهو الأمر الذي أجبر شركات الشحن الغربية على تجنب عبور قناة السويس واللجوء لطريق أطول حول الطرف الجنوبي من أفريقيا.
أوضح ميخائيل غريغورييف، خبير الشحن عبر القطب الشمالي والمالك المشارك ومدير شركة الاستشارات "غيكون" (Gecon): "تعتبر حركة العبور الدولية عبر بحر الشمال محفوفة بالمخاطر جراء التغيرات في الموقف الجيوسياسي".
اتفاقات لتطوير شحن الحاويات
رغم ذلك، وقعت شركة موانئ دبي العالمية في الإمارات العربية المتحدة خلال أكتوبر الماضي اتفاقية مع شركة "روساتوم" النووية الروسية التي تديرها الدولة لتطوير شحن الحاويات على امتداد الطريق بين فلاديفوستوك ومورمانسك.
وفي يناير، حضر بوتين حفل وضع العارضة لخمس كاسحات للجليد تعمل بالطاقة النووية من أصل سبعة تبنيها روسيا للخدمة على طريق بحر الشمال، واصفاً الأسطول بأنه يمنح البلاد "ميزة تنافسية هائلة".
عند تدشين سفينتين سابقتين في نوفمبر 2022، صرح بوتين بأن السفن "ستساعد روسيا بصورة كاملة على إطلاق العنان لإمكاناتها التصديرية وإنشاء طرق لوجستية فعالة، بما فيها جنوب شرق آسيا".
في هذه الأثناء تسثتمر الهند بميناء تشابهار الإيراني -وهو الوحيد الذي يسمح بالوصول المباشر إلى المحيط الهندي- بعدما وافقت الولايات المتحدة على إعفائها من العقوبات على روسيا.
وأوضحت فيشالي باسو شارما، المستشارة السابقة في أمانة مجلس الأمن القومي الهندي، أن خط السكك الحديدية المدعوم من روسيا ويمر عبر إيران يفتح طريق الوصول إلى آسيا الوسطى، بما فيها أفغانستان الحيوية للغاية، كما "يوفر مساراً أقصر إلى أوروبا".
واختتمت: "يبدو أن الأسواق الناشئة تتحرر أخيراً من هيمنة البلدان المتقدمة".