مبنى الشاي الذي يقترب عمره من 100 سنة في منطقة شورديتش في لندن يعتبر رمزاً مثيراً للحنين إلى واحدة من أعظم السلع البريطانية تقديراً. ما يزال الشاي يقدم داخل هذا الموقع حيث أماكن مخصصة للقهوة في المكاتب التي تشغل مستودعاً سابقاً لشركة "ليبتون" الأسطورية، أو لدى مستأجري المطاعم الذين يصعب الحجز عندهم على غرار "برات" و"لايل"، أو بالفرع المحلي لإمبراطورية النادي الاجتماعي "سوهو هاوس" الذي يحتل زاوية هناك. عدا ذلك، يمثل الشاي فقط الاسم المدون على اللافتة الكبيرة المعلقة على السطح، فلم تعد مؤسسة عاملة بالوقت الحالي في مبنى الشاي. عملياً، بينما باتت "ليبتون" لفترة قصيرة شركة متعددة الجنسيات، استحوذت عليها "يونيليفر" على مراحل بداية من الحرب العالمية الثانية. ومع حلول 2022، تغير اسمها إلى "إكاتيرا" (Ekaterra) وبيعت إلى شركة "سي في سي كابيتال بارتنرز" (CVC Capital Partners). ولم تعد علامة "ليبتون" التجارية -وقد كانت موضع سخرية من قبل البريطانيين على مدى عقود لرداءة جودتها- متوفرة بصورة كبيرة في المملكة المتحدة.
خلال الأسابيع القليلة الماضية، نشرت كل من صحيفة "ذا تايمز" هنا في لندن وصحيفة "نيويورك تايمز" مقالات عن تفوق القهوة على الشاي على مستوى المشروبات التي يتناولها البريطانيون –هذا كشف شبه كارثي في بلد تحظى فيه ثقافة احتساء الشاي بتقديس على غرار اليابان بل وتزيد عليها بتعلق عاطفي غريب- وهذا يكرم إمبراطوريات الشاي التي غيرت مجرى التاريخ (لا داعي لذكر الصينيين، من فضلك). كان الشاي في يوم من الأيام باهظ الثمن بطريقة لا تصدق، وساعد على إنقاذ بريطانيا مما يطلق عليه جنون مشروب الجين خلال القرن الثامن عشر ليحل -بفضل زيادة الواردات وهبوط الأسعار- محل عصير ثمار العرعر الكحولي (الذي تعرض أيضاً لضرائب باهظة). ثم ساعدت ثقافة كاملة من أدوات الشاي والخزف باهظة الثمن الطبقة الوسطى الناشئة في التعبير عن ازدهارها. بات "الشاي" اسم وجبة خفيفة (ما يعادل كلمة ميريندا بالإسبانية).
استراحة القهوة
لكن في هذا الزمان، تحولت استراحة احتساء الشاي إلى استراحة القهوة، وبات الجلوس للحصول على إبريق أو رشفات من الشاي مع سندويتشات خياراً أكثر شعبية بين السياح مقارنة بالسكان المحليين. باعت محلات السوبر ماركت في المملكة المتحدة 533 مليون عبوة قهوة خلال السنة المنتهية في مارس 2023. فماذا عن الشاي؟ باعت 287 مليون عبوة فقط. استطلاع آخر شارك فيه 2400 بريطاني كشف عن أن 63% منهم تناولوا القهوة بانتظام مقابل 59% بالنسبة للشاي.
الحق أن بريطانيا بدأت تخسر معركة الشاي منذ عدة أجيال. لا يعود التراجع فقط إلى هوس صانع القهوة وجاذبية حبوب البن ذات المزرعة الواحدة (علاوة على شركتي "ستاربكس" و"نسبريسو" وكبسولة القهوة التي تضفي شعوراً بالرقي التكنولوجي). لفهم الأمور بشكل أفضل بواسطة المنخرطين بالمجال، تحدثت مع واحدة من أشد المدافعين المتحمسين عن الشاي الجيد وهي صديقتي هنريتا لوفيل، الرئيسة التنفيذية لشركة "رير تي كومباني" (Rare Tea Company)، التي تدعم وتشتري وتوزع شاي الأوراق السائبة عالية الجودة في المملكة المتحدة وعلى مستوى العالم. يعود الأمر لزمن الحرب العالمية الثانية.
"ستاربكس" تعتزم إضافة 100 متجر في بريطانيا العام الجاري
تقول لوفيل: "يتوقع الأشخاص حالياً أن يكون الشاي رخيصاً فعلاً. يتعارض هذا مع ممارسات ما قبل الحرب. اعتاد البريطانيون إنفاق نسبة مئوية من دخلهم على الشاي تفوق المشروبات الكحولية. اشترى الأشخاص الشاي بجودة يمكنهم تحمل تكلفتها من البقالة". لكن الحرب حضرت ومعها نظام الحصص المقننة. حصلت الحكومة اعتقاداً منها بأن السكان سيغضبون بدون توفير شاي (كان لا بد من استيراده)، على أرخص نوع متاح ووزعته بطريقة متساوية على كافة السكان. (بالمقارنة، لم تفرض حصصاً مقننة للنبيذ). بلغت الحصة أونصتين لكل شخص بالغ أسبوعياً، أو ما يعادل ثلاثة أكواب تقريباً يومياً. تشير لوفيل، التي كتبت مذكرات عن حياتها في القطاع، تحت عنوان "المنقوع: مغامرات الشاي" أو (Infused: Adventures in Tea) إلى أنه "ستحصل دوقة على نفس مقدار الشاي الذي يحصل عليه صبي في إسطبل الخيل".
الشاي رمز للمساواة
لم تتبدل الظروف كثيراً عندما انتهت الحرب حيث كانت بريطانيا في حقبة ما بعد الإمبراطورية فقيرة لكنها ما زالت تظن أن الشاي كان سمة للمساواة بين أفراد المجتمع. هكذا استمر نظام الحصص المقننة خلال الخمسينيات من القرن الماضي. وضع ذلك سقفاً لسعر الشاي يراعي الظروف الاجتماعية. أدرك الأشخاص معنى الشاي السيئ (ومن هنا جاء القبول البطيء لاستخدام أكياس الشاي عندما قدم ليبتون الاختراع الأميركي خلال حقبة الخمسينيات) لكنهم غير مستعدين لدفع ثمن الشاي الأغلى سعراً والأفضل جودة بمجرد انتهاء نظام الحصص المقننة. أضافت: "كان الإعجاب بالشاي الجيد كسراً لروح المساواة الاجتماعية، ويعد رفاهية غير ضرورية. عبث. وأكياس الشاي؟ حالياً، يُستهلك 97.5% من الشاي في بريطانيا باستخدام كيس الشاي، بحسب رابطة الشاي والمنقوعات في المملكة المتحدة. تشعر لوفيل، بطلة الشاي السائب، بالأسى لهذه الحالة. رغم أن القهوة أغلى من الشاي في بريطانيا، إلا أن البريطانيين لا يرغبون في دفع المزيد مقابل مشروب غمر حياتهم على مدى أكثر من 300 سنة.
إنفوغراف: الصين أكبر سوق للشاي في العالم بمبيعات 99.8 مليار دولار
تسبق القهوة واقعياً الشاي في المملكة المتحدة، وللمشروبين أوجه تشابه قد تنذر بدورات قابلة للمقارنة. يحتوي الشاي على مجموعة كبيرة من أصناف الأوراق والأماكن على غرار حبوب البن التقليدية. كلاهما يعطي مشروباً جيداً سواء سادة أو بالحليب (مع إضافة سكر أو بدون). مرت القهوة بمراحل من التوسع التجاري الذي أوصلنا إلى البن المطحون والقهوة الفورية قبل أن تصبح أكثر انتشاراً بين عامة الناس بفضل "ستاربكس" ثم أكثر تخصصاً بواسطة قهوة "بلو بوتل" (Blue Bottle) المصبوبة باليد. كانت أكياس الشاي هي النموذج المبدئي لكبسولات القهوة ولكن عليك اختيار نوع السم المناسب لك. البلاستيك والنانوبلاستيك في غالبية الأمثلة السابقة يجعلهما غير صديقين للبيئة ويعد الألمنيوم الذي يمكن التخلص منه بعد الاستخدام مرة واحدة أقل ضرراً بكثير، لكن تأثيره الإيكولوجي ضئيل فعلاً فقط بالنسبة للبصمة الكربونية الهائلة لإنتاج البن.
لا داعي للقلق
أجد شخصياً الشاي ذا الأوراق السائبة أسهل تحضيراً وأقل نشراً للفوضى عند تنظيف المخلفات الناجمة عن حبوب البن عالية الجودة المطحونة قبل استخدامها مباشرة وهي الممارسة الرائجة حالياً. لكن هذا الأمر قد يكون خاصاً بي أنا فقط. تطلبت مني وظيفتي الأولى بمجال الصحافة أن أصنع القهوة للموظفين أول شيء عند الصباح. كل ما كان علي فعله هو وضع الكمية المطلوبة من البن المطحون في صينية ترشيح وأصب الماء عبر فتحة بالماكينة. ما قدمته كان رديئاً دائماً. كثيراً ما اشتكى زملائي، حتى أثناء تجرع القهوة. لن أتمكن من تناوله لمدة 15 سنة.
من يعلم؟ من المحتمل أن تفقد القهوة تفوقها في يوم من الأيام وقد يصبح جيل الشباب من البريطانيين مهووساً بمذاق الشاي، وسحر تلك الأواني الخزفية العتيقة. في النهاية، ما يزال الشاي تجربة رائعة في آسيا، حيث بدأ الأمر برمته. لكن لا يستحق أن تقلق بشأنه.