يَعقد المغرب وإسبانيا العزم على إحياء المشروع الكبير المتمثل في بناء نفق تحت قاع البحر يربط القارتين الأوروبية والأفريقية. لكن هذا الحُلم يواجه تحدّيات عدة، أبرزها التحديات الجيولوجية.
بدأ الحديث عن مشروع الربط القاري بين أوروبا وأفريقيا عبر مضيق جبل طارق بين المغرب وإسبانيا قبل 44 عاماً، حين التقى الملكان الراحلان، الحسن الثاني وخوان كارلوس الأول في 16 يونيو من عام 1979، واتفقا على تطوير المشروع.
لتحقيق هذا الحلم، أنشأ البلدان لجنة حكومية مشتركة، وشركتين متخصصتين حصرياً في الدراسات الضرورية للمشروع باسم "الشركة الوطنية لدراسة مضيق جبل طارق" (SNED) في المغرب، و"الشركة الإسبانية لدراسات الربط القاري عبر مضيق جبل طارق" (SECEGSA) في إسبانيا.
ما بين عامي 1980 و1989، جرى التوقيع على اتفاقيتين بين البلدين، الأولى اهتمت بإجراء دراسة الجدوى والدراسات الأولية على مستوى البيئة الفيزيائية والدراسات التقنية والجوانب الاجتماعية والاقتصادية، في حين تركّز إطار الاتفاقية الثانية على إنجاز العمليات الجيولوجية، من خلال حفر آبار وأنفاق استطلاعية.
اقرأ أيضاً: إسبانيا تعلن عن تسهيلات ائتمانية بـ800 مليون يورو لدعم علاقاتها مع المغرب
بعد أكثر من أربعة عقود، لا يزال هذا المشروع يراود البلدين اللذين يفصل بينهما البحر على مسافة 14 كيلومتراً تقريباً، فيما يصل حجم المبادلات التجارية بينهما إلى نحو 21 مليار دولار، وفقاً للأرقام الرسمية عن عام 2022.
إحياء المشروع
خلال القمة المغربية الإسبانية التي عُقدت بين البلدين في فبراير المنصرم في العاصمة الرباط، عاد المشروع إلى الواجهة بعد سنوات من النسيان، حيث كان موضوع نقاش بين وزارة النقل واللوجستيك المغربية ونظيرتها الإسبانية، وجرى التأكيد على ضرورة إعطاء دفعة جديدة للدراسات الخاصة به.
قال المكتب الصحفي لوزارة النقل والتنقل والأجندة الحضرية في إسبانيا، في رسالة إلى "اقتصاد الشرق"، إن اجتماعاً للجنة الحكومية المشتركة باعتبارها الهيئة التي تُوجه وتُنسق وتصادق على أعمال الشركتين، سيُعقد على الأرجح خلال العام الجاري، أو في العام المقبل على أبعد تقدير، وسيكون جدول الأعمال تطوير خطة العمل للسنوات المقبلة.
من الجانب المغربي، تشير مُعطيات حصلت عليها "اقتصاد الشرق" من الشركة الوطنية لدراسة مضيق جبل طارق (SNED) في المغرب، إلى أن اللجنة الحكومية عقدت 42 اجتماعاً منذ عام 1980، آخرها كان بتاريخ 29 أكتوبر من عام 2009 في مدينة طنجة شمال المغرب.
بعد سنوات من الدراسات، جرى الاتفاق في عام 1995 على حلٍ يقضي ببناء نفق تحت البحر للسكة الحديدية يسمح بنقل الأشخاص والبضائع بين القارتين، إلا أن تحقيق التقدم في هذا الصدد يستلزم انعقاد اللجنة المشتركة بين البلدين لحسم الأمر من الجانب التقني، ثم العمل على الترويج للمشروع للحصول على التمويل اللازم.
اهتمام أممي
نظراً إلى أهميته، حظي مشروع الربط القاري بين المغرب وإسبانيا باهتمام منظمات دولية متعددة الأطراف كالمفوضية الأوروبية، وإدارة عملية برشلونة، والشراكة الأورومتوسطية، واتحاد المغرب العربي. ويقوم الأمين العام للأمم المتحدة بتقديم تقرير باسم المجلس الاقتصادي والاجتماعي بشكل دوري حول تقدّم الدراسات بشأن المشروع.
اقرأ المزيد: المغرب يطمح لمضاعفة التجارة مع إسبانيا إلى 40 مليار يورو
جاء في التقرير الأخير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي، والعائد إلى عام 2017، أن "هذا المشروع يشجع على إقامة منطقة اقتصادية أوروبية متوسطية متكاملة، وإنشاء محور أساسي للنقل ضمن شبكة برية متكاملة بين أوروبا وأفريقيا، كما سيسهم على نحو كبير في توازن المنطقة وإنعاشها الاقتصادي بتسهيل حركة تنقل الأشخاص والبضائع بين أوروبا وأفريقيا".
في حال تحقق المشروع على أرض الواقع، سيمتد النفق على طول 28 كيلومتراً بعُمق أقصى يصل إلى 300 متر، وسيتيح إمكانية التنقل بين الطرفين في غضون نصف ساعة فقط انطلاقاً من منطقة "راس مالاباطا" في طنجة وصولاً إلى "بونتا بالوما" في الجانب الإسباني.
ويستلهم المشروع تقنيات البناء التي اعتُمدت في نفق المانش، المُسمى النفق الأوروبي، والذي يربط بين فرنسا وبريطانيا منذ تسعينيات القرن الماضي. لكن المشروع المغربي الإسباني يواجه صعوبات أكثر تعقيداً بالنظر إلى اختلاف التضاريس.
وإذا كان نفق "المانش" قد كلف حوالي 15 مليار يورو، فإن تكلفة بناء النفق المغربي الإسباني لم تتحدد بعد، علماً أن هناك تقديرات تشير إلى أنها ستكون في حدود 10 مليارات يورو أو أكثر بقليل.
منافع المشروع
بحسب نعيمة حمومي، الأستاذة في كلية العلوم التابعة لجامعة محمد الخامس في الرباط، فإن مضيق جبل طارق يحتل مكانة جغرافية استراتيجية بين أوروبا وأفريقيا، وبين المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط، وهو ما يجعل لمشروع الربط القاري منافع جيوسياسية واقتصادية عدة.
تعاونت حمومي مع "الشركة الوطنية لدراسات مضيق جبل طارق" لسنوات امتدت من 1989 إلى 1995، حيث أنجزت أعمالاً جيولوجية وجيوفيزيائية بَحرية في المضيق، إضافة إلى دراسة التكوينات الرسوبية للأرض الواقعة على الجانب المغربي.
قالت حمومي لـ"اقتصاد الشرق"، إن المشروع سيُعزز العلاقات بين المغرب وإسبانيا، ويسهم في تقريب القارتين، ناهيك عن تقوية شبكات النقل الأوروبية المتوسطية والأوروأفريقية، إضافة إلى تدبير تدفقات الهجرة.
اقرأ أيضاً: "البنك الأوروبي" يبحث عن شركاء للاستثمار بالهيدروجين الأخضر في المغرب
يُتوقع أن يسهم النفق في تنقل 9.6 مليون شخص و7.4 مليون طن من البضائع في عام 2030، وهي أرقام يمكن أن ترتفع إلى 11.3 مليون شخص و10.8 مليون طن من البضائع عام 2040، وفقاً لما جاء في تقرير مشترك للشركتين المغربية والإسبانية المكلفتين بدراسات المشروع. كما سيتيح المشروع أيضاً نقل الألياف الضوئية وخطوط الطاقة الكهربائية عالية الجهد.
تحديات جيولوجية
التحديات التي تطرح نفسها بقوة أمام هذا المشروع، تتعلق بالجانب الجيولوجي، نظراً لأن مضيق جبل طارق يقع في منطقة التقاء الصفائح التكتونية الأفريقية والأوروبية، والتي يمكن أن تكون مصدراً للزلازل. نوّهت حمومي في هذا الصدد بأن الدراسات تؤكد وجود حركة باتجاه الشمال الشرقي للصفائح الأفريقية بمقدار 2.15 سنتميتر سنوياً.
جانب آخر من التحديات يتمثل في تميز المنطقة بتعقيد جيولوجي مرتبط بطبيعة مواد الأرض وبنيتها على السطح وفي باطنها، حيث تضم رواسب "فوضوية" غير منظمة، تتكون من طين وكتل بطبيعة متغيرة، مثل الحجر الجيري والحجر الرملي والحجر الطيني، وهي كلها تتأثر بحركة الصفائح التكتونية.
بحسب الخبيرة المغربية نعيمة حمومي، فإن تنفيذ المشروع سيتطلب الاستفادة من نتائج الدراسات الجيولوجية السابقة، وإجراء تحقيقات جيولوجية وجيوتقنية إضافية، وهي تحديات تظل مطروحة في حال أعيد طرح المشروع على الطاولة من جديد.