قصفت القوات الروسية صوامع الحبوب والمزارع، ونهبت القمح الأوكراني الذي يقول دبلوماسيون أمريكيون إن موسكو تحاول الآن بيعه. أُغلقت موانئ أوكرانيا على البحر الأسود بالألغام لحماية الخط الساحلي من هجوم البحرية الروسية، التي تقوم أيضاً بتعبئة الشحنات.
ومع ذلك، إذا أراد المرء تصديق الرئيس فلاديمير بوتين، فإن الأنانية والعقوبات الغربية هي المسؤولة عن أزمة الغذاء الحالية التي أدت إلى ارتفاع الأسعار - وليس الغزو الروسي لدولة من أكبر مصدري القمح والذرة وزيت عباد الشمس في العالم.
يحاول بوتين ابتزاز الغرب لرفع الإجراءات العقابية، وهذا أمر متوقع، لكن الأمر الأكثر إثارة للقلق هو تضخيم الكرملين للأكذوبة القائلة بأن الدول الغنية تتدخل وتعاقب دون أدنى اهتمام بالدول الأفقر.
في العالم الناشئ، تنتشر بين السكان شكوك بالفعل بشأن الدوافع الغربية، ناهيك عن الحساسية الشديدة لارتفاع تكاليف الغذاء، وتخشى الحكومات أن يؤدي مزيج آثار الوباء وارتفاع أسعار السلع إلى احتجاجات. قال وزير الدفاع الماليزي، هشام الدين حسين، أمام تجمع أمني في سنغافورة نهاية هذا الأسبوع، في خطاب شدد على المخاطر المقبلة، مع إشارة واضحة إلى الاضطرابات في سريلانكا والتضخم المرتفع في باكستان إن: "الصراع يدور في أوروبا، لكن التداعيات والأضرار عالمية".
اقرأ أيضاً: روسيا تكسب في معركة أزمة الغذاء العالمية التي أحدثتها
اكتشف الكرملين فرصة لإحداث انقسام، إذ إنه يؤجج هذه المخاوف وينشر انعدام الثقة، في وقت تحتاج فيه أوكرانيا بشدة إلى الدعم العملي، ويعد التحالف الأوسع أمراً ضرورياً لعزل روسيا اقتصادياً. لقد حان موعد دبلوماسية الغذاء الأكثر حزماً.
يجب على الدول الغنية التي تفرض عقوبات على روسيا أن توضح أنها تدرك أن القلق بشأن الجوع العالمي ليس أمراً بلا أساس - فالحرية ليست مجانية – وعليها أن تواجه مسألة التكاليف، إلى جانب تقديم سبب تحمل تلك التكاليف على نحو يتردد صداه.
تخوض روسيا حرب غزو ضد دولة تعتبرها مُستعمرة، وهو أمر مألوف للكثيرين في العالم الناشئ. وكما قال الرئيس، فولوديمير زيلينسكي لنفس ذلك الجمهور في سنغافورة، مستشهداً بقول عن الزعيم السنغافوري، لي كوان يو "إذا أكلت السمكة الكبيرة السمكة الصغيرة وأكلت الأسماك الصغيرة الجمبري" سيكون الكثيرون عرضة للخطر.
اقرأ أيضاً: أفريقيا تواجه اضطرابات اجتماعية بسبب أعنف زيادة في أسعار الغذاء
لكن يمكن للدول الغنية أيضاً تهدئة بعض الذعر. القضية هنا ليست النقص، بل إمكانية الوصول والسعر. يجب عليهم دعم أوكرانيا في جهودها العاجلة لإخراج الحبوب وغيرها من المنتجات المكدسة من البلاد، سواء عن طريق البر أو البحر، بينما يستعدون أيضاً لتقديم الدعم للمزارعين والمشترين، إذا أصبح ذلك مكلفاً للغاية لدرجة لا يمكن عملياً تحملها.
الحواجز التجارية
وفي الوقت نفسه، يجب على المجتمع الدولي تخفيف الحواجز التجارية وغيرها من الحواجز أمام المنتجات والمدخلات الغذائية، والتأكد (خاصة بالنسبة للأسمدة) من أن الإفراط في الامتثال للعقوبات لا يجعل الوضع السيئ أكثر سوءاً.
بالطبع، تكمن المشكلة في أن هذه الحرب تدور بين بلدين من أكبر مصدري الغذاء في العالم، وروسيا وأوكرانيا تُزودان على وجه الخصوص الدول الأفقر في العالم، التي تعتمد على القمح لاستهلاك الكثير من السعرات الحرارية التي تحتاجها. ووفقاً لـ"منظمة الأغذية والزراعة" التابعة للأمم المتحدة، استحوذ البلدان على ما يقرب من ثلث صادرات القمح العالمية العام الماضي.
اشترت إريتريا جميع قمحها من روسيا وأوكرانيا في عام 2021، بينما قامت مصر - أكبر مستورد للقمح في العالم - باستيراد معظم احتياجاتها من هناك. وتعد روسيا (جنباً إلى جنب مع حليفتها بيلاروسيا) أيضاً منتجاً رئيسياً للأسمدة، ما يعني أن مصدري الأغذية الآخرين يتأثرون بدورهم بتقلباتها، فضلاً عن أنها مصدر رئيسي للنفط والغاز، ما يدفع كل شيء مرة أخرى من النقل إلى الأسمدة النيتروجينية إلى أسعار أعلى.
اقراً أيضاً: 4.3 مليار دولار خسائر قطاع الزراعة الأوكراني بسبب الغزو الروسي
أسوأ ما في الأمر، أن الغزو جاء في وقت كانت فيه أسعار المواد الغذائية في ارتفاع بالفعل على مدار غالبية عامين، وذلك بسبب "كوفيد-19"، وارتفاع أسعار الطاقة، وتكاليف الخدمات اللوجستية والأسمدة، بالإضافة إلى الاضطرابات المناخية.
وسجّل مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار الغذاء، الذي يقيس السلع الأكثر تداولاً عالمياً، رقماً قياسياً في مارس. ترك كل ذلك البلدان الفقيرة أكثر عرضة للخطر، واستنزف العملات الأجنبية.
أسلحة بوتين
يعرف بوتين أنه يستطيع استخدام الإمدادات الغذائية الأساسية والمدخلات كأسلحة لإلحاق الألم بأوكرانيا، حيث استهدف بالفعل أهدافاً زراعية وجعلت قواته من المستحيل إيصال الإمدادات إلى البلدات الجائعة مثل ماريوبول. لقد أعاد ذكريات المجاعة الوحشية التي لحقت بأوكرانيا في عهد الزعيم السوفيتي، جوزيف ستالين، في جهوده لكبح القومية والاستقلال الثقافي.
لكن موقف روسيا أكثر قوة كوسيلة لإجبار حلفاء أوكرانيا على اتفاقية "فاوستية" من شأنها مبادلة الأسمدة والمنتجات الزراعية بتخفيض العقوبات، والضغط عليهم بشكل أكبر باستخدام الجنوب العالمي. لا يمكن منح بوتين ذلك الحيز.
يجب على دول الحلفاء مواجهة كل من بوتين والجوع بدعم مالي حقيقي. من شأن مبادرات مثل "مرفق تمويل واردات الأغذية" الذي اقترحته منظمة الأغذية والزراعة أن تقطع شوطاً ما لتخفيف فاتورة استيراد الغذاء العالمية، والتي سترتفع بمقدار 51 مليار دولار هذا العام، منها 49 مليار دولار نتيجة ارتفاع الأسعار.
اقرأ أيضاً: اقتصادي: أسواق الحبوب ستواجه أكبر أزمة إمدادات في عصرنا
يمكن، بل وينبغي توسيع تلك المبادرات عبر بث الأخبار الجيدة في جميع أنحاء العالم. يُعدّ دعم الشؤون المالية للبلدان مهم أيضاً، مثل شبكات الأمان الاجتماعي، والمساعدات الإنسانية في نهاية المطاف. ويجب تقاسم العبء غير المتكافئ.
ثم هناك حاجة، بالنسبة لأوكرانيا كما هو الحال بالنسبة للأسواق العالمية، لتحرير ملايين الأطنان المترية من الحبوب المحتجزة في البلاد. إن الجهود الحيوية لاستخدام الطرق البرية وفك الحظر على الموانئ جارية بالفعل، ولكن كما يشير ديفيد لابورد، وهو زميل باحث كبير في المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية، فإن الطرق البرية بطيئة ومكلفة، في حين أن البديل البحري معقد، خاصة أن أي تصعيد من شأنه أن يعرض طرق أخرى في البحر الأسود لا تزال تعمل للخطر. يجادل الباحث بأن المسألة لا يمكن أن تتركز في الحصول على الحبوب بأي ثمن طالما كانت هناك طرق أكثر فعالية لدعم المشترين والأوكرانيين.
اقرأ أيضاً: محاصيل الحبوب الأوكرانية معرضة للخطر بسبب تكدس الصوامع
من الضروري أيضاً إبقاء الأسواق مفتوحة، وهذا يعني تشجيع البلدان على عدم وضع حواجز، وتخفيف تفويضات الوقود الحيوي، ولكن أيضاً ضمان ألا تؤثر العقوبات في مجالات لا ينبغي لها أن تؤثر فيها. لذا فإن جهود الولايات المتحدة لتشجيع شركات الشحن على حمل الأسمدة الروسية مهمة. يمكن أن يساعد المزيد من الدعم القانوني والفني شركات الشحن والمصرفيين وشركات التأمين على التحرك ضمن الاستثناءات الحالية.
ستخدم الحلول الأخرى العالم بشكل جيد بعد هذا العام، والعام المقبل، بما في ذلك توفير معلومات أفضل للمزارعين حول الاستخدام الأكثر كفاءة لمغذيات المحاصيل، وتعزيز الإنتاج المحلي للأسمدة وتنويع المحاصيل والاستهلاك لتأمين الإمداد، نظرا لأن الحرب في أوكرانيا قد كثفت من أزمة الغذاء التي يعِد تغير المناخ بتفاقمها.
ربما يكون بوتين قد بدأ معركة الغذاء هذه، لكنها معركة لا يزال بإمكان بقية العالم الانتصار فيها.