انتخابات ألمانيا.. نقطة تحوّل في تاريخ ما بعد الحرب بأكثر من طريقة

الانتخابات الألمانية - المصدر: بلومبرغ
الانتخابات الألمانية - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

على حافة المنطقة الجبلية المعروفة بـ"الغابة السوداء" في جنوب غرب ألمانيا؛ يؤدي أحد أعظم أنهار أوروبا خدعة ساحرة. يختفي نهر الدانوب هنا في مهده، وعلى بعد 20 قدماً فقط أو نحو ذلك، بين الصخور المسامية أدناه لقرابة نصف عام. ثم يتنقل عبر شقوق الحجر الجيري ليظهر مرة أخرى بعد مسيرة 60 ساعة تقريباً على بعد أميال عدَّة باتجاه الجنوب. ومن هناك يتدفَّق الدانوب، إلى بحيرة كونستانس، وينضمُّ إلى أحد الممرات المائية الرئيسية الأخرى في أوروبا، وهو نهر الراين. لذلك، انطلاقاً من البقعة ذاتها، واعتماداً على الظروف الموسمية، ستتدفَّق المياه إما شرقاً، مثل نهر الدانوب لتصب في البحر الأسود، أو مثل نهر الراين على طول الطريق إلى بحر الشمال.

اقرأ أيضاً: ألمانيا تعتزم تخصيص 30 مليار يورو لإعادة الإعمار بعد الفيضان

إنَّه تشبيه مغرٍ للانتخابات الفيدرالية الألمانية المقرر إجراؤها الشهر المقبل، التي لم يتحدَّد مسارها بعد. لكن من المؤكَّد أنَِّ صدى نتيجتها سيتردد في جميع أنحاء أوروبا والعالم من ورائها. ومع مغادرة المستشارة أنغيلا ميركل منصبها الذي شغلته لفترة طويلة، أصبحت المنافسة مفتوحة بصورة مفاجئة. وبذلك، يصبح من المحتمل أن يحدد المنعطف ذاته، إذ يمتد نهر الدانوب تحت الأرض، مستقبل البلاد.

الخضر يقتربون من قيادة حكومة أكبر اقتصاد في أوروبا

المصدر: غيتي إيمجز
المصدر: غيتي إيمجز

في حين كان صعود حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) اليميني المتطرف محور الانتخابات السابقة في عام 2017؛ فإنَّ الحملة الانتخابية المقبلة في 26 سبتمبر ستدور حول المزيد من تراجع الأحزاب الحاكمة، وتنامي الدعم لتحالف الخضر. وكانت السنوات الأربع الفاصلة بين الجولتين قد شهدت تحوُّلاً كبيراً في المواقف تجاه قضايا تغيّر المناخ، وتبني التقنيات الخضراء، فضلاً عن أنَّ استطلاعات الرأي تشير إلى أنَّه ربما تكون لحظة الخضر قد حانت. لكن يبقى السؤال حول ما إذا كان جمهور الناخبين، الحذر تقليدياً، على استعداد لاتباع خطى ولاية بادن-فورتمبيرغ، الواقعة في جنوب غرب البلاد والخاضعة لحكم الخضر، في تحقيق هذه القفزة.

من المؤكَّد أنَّ ألمانيا تعتبر الانتخابات القادمة نقطة تحول. فالعالم يتغير، والألمان ليسوا واثقين من تبيُّنه في الوقت الحالي. فمثلاً، لم يعد يُنظر إلى الولايات المتحدة على أنَّها حليف يمكن الاعتماد عليه بعدما مكَّنت البلاد من إعادة التأهيل في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ووفَّرت الضمانات الأمنية طوال الحرب الباردة. ويعتبر دونالد ترمب أحد أسباب تغيُّر النظرة الألمانية إلى الحليف الأمريكي إلى حدٍّ بعيد، لكنَّه ليس السبب الوحيد. فقد كشف استطلاع للرأي أجراه "مركز بيو للأبحاث" (Pew Research Center) في يونيو، أنَّه على الرغم من تحسُّن ميول الألمان بشكل ملحوظ منذ تنصيب جو بايدن رئيساً، إلا أنَّ آراءهم بشأن الولايات المتحدة جاءت أقل إيجابية مقارنة بأي دولة من دول مجموعة السبع.

في الوقت ذاته، برزت الصين كشريك ألمانيا التجاري الأول خارج أوروبا، متجاوزة الولايات المتحدة في عام 2016. لكنَّ المفوضية الأوروبية صنَّفتها كخصم منهجي، ومنافس استراتيجي منذ ذلك الحين. وقد أسهمت ضغوط واشنطن لدفع برلين إلى الانحياز للولايات المتحدة في مواجهتها مع بكين، في زيادة التوترات بشكل أكثر وضوحاً.

على الصعيد المحلي، تشهد صناعة السيارات اضطراباً هائلاً مع اقتراب نهاية محرِّكات الاحتراق الداخلي. ولن تحمي هيمنة ألمانيا على صناعة السيارات الفارهة شركاتها من خسارة الوظائف التي تأتي مع التحوُّل إلى السيارات الكهربائية. بل الأهم من ذلك، هو أنَّ الوباء والتوترات العالمية التي أزاح الستار عنها، أبرزت حدود النموذج الاقتصادي القائم على التصدير، مهما كانت مهارات التصنيع في البلاد مطلوبة.

لعل الأمر الأكثر إثارة للقلق هو تخلي ميركل عن الترشح للمستشارية، وحرمان الألمان من ملاذهم لاستقرار محدود. وحتى لو كانت هناك رغبة في التغيير -وتلك حقيقة- تظل المستشارة الألمانية هي السياسية الأكثر شعبية في ألمانيا، وهو إنجاز فريد بعد قضائها نحو 16 عاماً على رأس أكبر اقتصاد في أوروبا، وقيادة دولة مهيمنة. غير أنَّه سيتعيّن على ألمانيا مواجهة التحديات القادمة من دونها.

تقول شانتال كوبف، المرشَّحة الرئيسية عن حزب الخضر في فرايبورغ، وهي مدينة في بادن-فورتمبيرغ تشتهر بكاتدرائيتها التي يعود تاريخها إلى القرن الثالث عشر، وجامعتها التي يزيد عمرها على 500 عام، وسياساتها التقدُّمية الصديقة للمناخ: "إنَّها حقاً انتخابات فاصلة"، مؤكِّدةً أنَّ الخضر "يكافحون من أجل بداية جديدة".

في مرحلة ما من هذا الربيع، بدا الأمر وكأنَّ الخضر هم الخلفاء الطبيعيون مع انحراف كتلة ميركل بقيادة الاتحاد الديمقراطي المسيحي عن الريادة. وبعد تقديم التحالف مرشحته لمنصب المستشارية، أنالينا بيربوك، التي تبلغ من العمر 40 عاماً، تصدَّر الخضر استطلاعات الرأي لفترة وجيزة للمرة الأولى في تاريخهم، وذلك من خلال طرحهم لبرنامج عمل مناخي يتَّسم بالجرأة، وسياسة خارجية "قائمة على القيم"، وأجندة اقتصادية من شأنها هدم ما وصفه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بـ"صنم" برلين للميزانيات المتوازنة. وبرغم تراجع التحالف منذ ذلك الحين، إلا أنَّه مايزال من المرجَّح أن يشارك في حكومة ائتلافية بأقوى حضور له على الإطلاق.

"كثير من الدول الأخرى تنظر إلينا وتتساءل: ماذا سيكون مصيرنا؟"

تتنافس كوبف، البالغة من العمر 26 عاماً، لتصبح جزءاً من التيار الجديد، والفوز بأحد أكثر المقاعد التي يمكن للخضر الفوز بها. وبالنسبة إليها، تعني البداية الجديدة للحزب تحمُّل ألمانيا لمزيد من المسؤولية في العالم، والانخراط بقوة أكبر في سياساته. الأمر الذي من شأنه أن يفضي إلى صياغة موقف أوروبي واضح بشأن الصين، وفضح انتهاكات حقوق الإنسان في روسيا، والدفاع بقوة أكبر عن حقوق مجتمع الميم في بولندا والمجر.

تقول كوبف: "نضطلع بمسؤولية ضخمة كقوَّة اقتصادية خاصة داخل الاتحاد الأوروبي، وهناك العديد من القضايا التي أعتقد، بشكل خاص، بأنَّ الحكومة الألمانية يجب أن تكون أكثر حزماً وإيجابية بشأنها. كثير من الدول الأخرى تنظر إلينا وتتساءل: ماذا سيكون مصيرنا؟".

تاريخياً، تعدُّ تلك معضلة مألوفة. كان تقييم هنري كيسنجر لـ"ألمانيا الفقيرة" بأنَّها "كبيرة للغاية بالنسبة إلى أوروبا، وصغيرة للغاية بالنسبة إلى العالم". كذلك، عارضت مارغريت تاتشر إعادة توحيد ألمانيا عام 1990 على أساس أنَّها ستخلق عملاقاً أوروبياً يهيمن على القارة على حساب المملكة المتحدة وفرنسا. وفعلياً، تعود التساؤلات بشأن التأثير الضخم لألمانيا على ميزان القوى إلى القرن التاسع عشر، حتى قبل قيام أوتو فون بسمارك بتشكيل إمبراطورية في بروسيا عام 1871. وقد شهدت نهاية ذلك القرن بدايات الديمقراطية والليبرالية في ألمانيا، غير أنَّه غالباً ما يُنظر إلى تلك الفترة على أنَّها إرهاصات سقوط ألمانيا في غياهب الظلام، والحرب، والإبادة الجماعية في نهاية المطاف.

لذلك، في حين يبتهج رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، وحكومته التي أشرفت على انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، بشأن تمكُّنهم من محاولة إحياء الماضي "الجريء" لبريطانيا قبل عصر التكامل الأوروبي، تسترشد ميركل والمؤسسة الألمانية بالتصميم على تنحية مصيرها بعيداً عن التاريخ بقدر الإمكان، الأمر الذي يخلق مأزقاً سياسياً عندما يتعلَّق الأمر بتقاسم الأعباء على الصعيد الدولي، والمواءمة بشكل عام بين القوة الاقتصادية لألمانيا والعمل السياسي.

"ألمانيا دولة قومية موحدة، وتشكل قوة هائلة أوروبياً وعالمياً على حد سواء، لكنها لم تتمكن بعد من تحديد دورها"

منذ عام 2011، ناشد وزير الخارجية البولندي آنذاك، رادوسلاف سيكورسكي، ألمانيا للعب دور قيادي قائلاً: "أخشى القوة الألمانية أقل مما بدأت أخشى جمودها". اليوم، تحثُّ باريس ألمانيا على تعزيز "الاستقلال الاستراتيجي" للاتحاد الأوروبي كقوة ثالثة حقيقية إلى جانب الولايات المتحدة والصين، في حين تضغط واشنطن على برلين للاضطلاع بدورها في دعم النظام العالمي، وفي مقدِّمة ذلك، تحمّل مسؤولياتها في منظمة حلف شمال الأطلسي.

تقول المؤرخة كاتيا هوير مؤلفة كتاب "الدم والحديد: صعود وسقوط الإمبراطورية الألمانية 1871-1918": "القضية الأساسية هي أنَّ ألمانيا دولة قومية موحَّدة، وتشكِّل قوة هائلة أوروبياً وعالمياً على حدٍّ سواء، لكنَّها لم تتمكَّن من تحديد دورها بعد. إلى متى يمكن لألمانيا، أحد أكبر الاقتصادات في العالم، أن تستقر وتراقب، في حين تنحاز الأمم إلى أطراف مختلفة، مع التظاهر أنْ لا علاقة لها بذلك؟".

بعكس وجهة نظر هوير، فقد اتخذت ألمانيا خطوات في السنوات الأخيرة لتحديد مكانتها. كان غيرهارد شرودر، وهو أوَّل مستشار لم يعرف الحرب كونه من مواليد عام 1944، قد صادق على المشاركة في القصف الجوي الذي شنَّه حلف شمال الأطلسي على صربيا في عام 1999، فيما يعدُّ أول مهمة قتالية لألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية، كما أرسل قوات إلى أفغانستان بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وكان في عهد ميركل، البالغة من العمر 67 عاماً- وهي أول امرأة تتولى المستشارية الألمانية، وأول من يتولى المنصب من ألمانيا الشرقية الشيوعية سابقاً، وأول مستشارة ولدت بعد الحرب- أن انتشر العسكريون الألمان في 12 عملية عسكرية عبر ثلاث قارات. لقد لعبت ميركل دوراً فاعلاً في العلاقات الدولية، فقد استقبلت 1.3 مليون لاجئ، وساعدت في التوسُّط في عملية مينسك للسلام مع روسيا بعد غزوها لأوكرانيا، وعملت كوسيط بين الغرب وفلاديمير بوتين.

لكنَّه غالباً ما يتمُّ تفسير أفعال ألمانيا بأنَّها لأغراض تجارية بشكل صارخ، أو تصبُّ في مصلحتها الوطنية، كما في حالة خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2" الذي يمتد من روسيا إلى ألمانيا، أو اتفاقية الاستثمار بين الاتحاد الأوروبي والصين، أو اتفاقية الاتحاد الأوروبي التي تفاوضت لإبرامها مع الرئيس رجب طيب أردوغان لإبقاء المهاجرين في تركيا.

غير أنَّ المثير للدهشة بالنسبة إلى بعضهم، أنَّ الخضر هم من يريدون تغيير كل ذلك. وواقعياً، كان الحزب قد أدرك منذ فترة طويلة أهمية السياسة الخارجية، فقد عمل يوشكا فيشر كوزير للخارجية، وهو يمثِّل تحالف الخضر في فترتي ولاية المستشار الديموقراطي الاشتراكي شرودر، عندما كاد الحزب ينقسم تحت وطأة موازنة جذوره السلمية مع الالتزامات الدولية. قد تواجه بيربوك ضغوطاً مماثلة، لكنَّها ماتزال تريد المضي قدماً، فقد قالت في منتدى المجلس الأطلسي في مايو، إنَّ الألمان يجب أن "يتحمَّلوا المزيد من مسؤولية أمنهم"، حتى لو لم يمتد ذلك إلى تحقيق أهداف الإنفاق العسكري لحلف الناتو، التي تقول، إنَّه عفا عليها الزمن.

المصدر: غيتي إيمجز
المصدر: غيتي إيمجز

كانت بيربوك تبلغ من العمر 8 سنوات فقط عندما سقط جدار برلين، وقد نشأت في عالم ما بعد إعادة توحيد ألمانيا. وبالنسبة إليها؛ فإنَّه من الطبيعي أن تقدِّم ألمانيا نفسها كلاعب عالمي غير مثقل بالحذر المفرط. كما تُظهر التوقُّعات أنَّها تقود حزب الخضر للفوز بثلاثة أضعاف لأكبر عدد حقَّقه فيشر لمقاعد البوندستاغ على الإطلاق، وهي تنوي استخدام هذا الحضور لدفع "سياسة خارجية ألمانية فاعلة".

يسعى الخضر إلى تقدُّم ألمانيا على الصعيد الدولى، لكنَّهم يعلمون أنَّ ذلك يتطلَّب بناء الثقة في الداخل. وفي هذا الإطار، تقدِّم ولاية بادن-فورتمبيرغ نموذجاً لما قد يعنيه ذلك، لأنَّ موطن شركة "دايملر" صانعة سيارات "مرسيدس-بنز"، وشركة "بورشه"، تتمتعان بثاني أقل معدل بطالة في ألمانيا بعد بافاريا المجاورة. ولو كانت دولة، لصُنِّفت بادن-فورتمبيرغ كتاسع أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي متجاوزةً بذلك النمسا. وكانت الولاية الألمانية خاضعة لإدارة الخضر على مدى العقد الماضي. وعلى الرغم من تمتُّعها بالثراء قبل تولي الخضر إدارتها، إلا أنَّهم قاموا برعاية ما ورثوه، وكانت النتيجة فوز رئيس وزراء بادن-فورتمبيرغ، وينفريد كريتشمان، بولاية ثالثة في مارس.

من جانبها، تريد بيربوك، التي تمثِّل منطقة في بوتسدام خارج برلين، أن تحقق لألمانيا ما حقَّقه كريتشمان في دائرة حكمه، من خلال إقناع البلاد باتخاذ موقف أكثر استباقية دون تخويف الناخبين. وهكذا تقترن الزيادات الضريبية المقترحة بخطط لبرنامج استثمار أخضر بقيمة 500 مليار يورو (بما يعادل 590 مليار دولار)، وبوعود بتقديم إعانات حكومية لمساعدة القطاع الصناعي خلال مرحلة التحوُّل للطاقة النظيفة. وفي إبريل، تصدَّرت بيربوك استطلاعاً للرأي بشأن المستشار القادم المفضَّل لدى قادة الأعمال.

مع ذلك، ربما فقد الحزب ما كسبه من تصوُّرات الناخبين بالكفاءة السياسية بسبب أخطاء بيربوك الفادحة بعد اتهامها بتحسين سيرتها الذاتية، وعدم ذكر مراجع لأقسام من كتابها تمَّ اقتباسها. ومن ثم، تبخَّرت نتائج الاستطلاع القوية في إبريل ومايو، ويتبع الخضر الآن الكتلة التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي بقيادة أرمين لاشيت، ويتنافسون مع الحزب الديمقراطي الاجتماعي على المركز الثاني.

إلى ذلك، تواجه ألمانيا احتمالية غير مسبوقة لسباق ثلاثي، إذ تواصل الكتلة الحاكمة التراجع بقيادة لاشيت، وهو مرشح بشوش، وإن كان ينزعُ إلى الخطأ. كما يقود لاشيت مقاطعة ويستفاليا الواقعة شمال حوض الراين، التي تعدُّ أكثر الولايات الألمانية اكتظاظاً بالسكان، في حين يحتشد الحزب الاشتراكي الديمقراطي تحت قيادة وزير المالية ونائب المستشارة الألمانية، أولاف شولتس، الذي يعتبره الناخبون يداً أكثر أماناً للرئاسة. ومن جهة أخرى، يزيد سقوط أفغانستان في أيدي طالبان من عدم القدرة على التنبؤ في حال لاقى انتقاد الحكومة صدى، وأعيد طرح قضية الهجرة كموضوع رئيسي للحملة الانتخابية.

المصدر: غيتي إيمجز
المصدر: غيتي إيمجز

من جهة أخرى، توفِّر ولاية بادن-فورتمبيرغ الفرصة الأكثر جاذبية للخضر للمقاومة، وانتزاع بعض المقاطعات من الاتحاد الديمقراطي المسيحي. وتشكِّل مدن شتوتغارت، العاصمة الإقليمية، وكارلسروه، مقر المحكمة الدستورية الألمانية، ومقار الجامعات العريقة، مثل هايدلبرغ وفرايبورغ بشكل خاص، أقصى طموحات الخضر للفوز بالانتخابات المباشرة بالمقارنة بالمقاعد الممنوحة من خلال النظام النسبي.

وبحسب رئيس بلدية فرايبورغ السابق، ديتر سالومون، يعود سبب شعبية الحزب في الولاية إلى سبعينيات القرن الماضي، عندما انضمَّ الأكاديميون والطلاب إلى المجتمع الزراعي المحلي لمعارضة إنشاء محطة طاقة نووية مخطط لها في بلدية "ويل" القريبة على ضفاف نهر الراين. وقد كان انتصار التحالف غير المتوقَّع للقوى الراديكالية والمحافظة بمثابة نقطة تحوُّل للحركة المناهضة للطاقة النووية، ولمدينة فرايبورغ، التي أصبحت بقعة خضراء مضيئة. وتظهر المدينة اليوم كفاءة أكثر هدوءاً من الميول الراديكالية، لأنَّ مركزها محظور على السيارات الخاصة، التي يحل محلها الترام الكهربائي والدراجات. كما تقوم لوحات المعلومات الرقمية في الأماكن العامة بحساب مقدار الطاقة الشمسية، أو طاقة الرياح المولدة والمستهلكة. أيضاً، يولِّد قطاع الخدمات نحو 85٪ من الثروة في فرايبورغ، الذي يركِّز على علوم الحياة، والرعاية الصحية، في حين تشكِّل الصناعة 13% فقط من تكوين الثروة في المدينة الألمانية الخضراء.

المصدر: وكالة Alamy
المصدر: وكالة Alamy

يتدفَّق مجرى نهر الدانوب باتجاه غرب فرايبورغ عبر الأراضي الزراعية المشذَّبة في الغابة السوداء. وفي أواخر يوليو، تدفَّقت المياه بقوة بين ضفاف النهر بدلاً من أن يجف مجرى النهر، كما هو متوقَّع في ذروة الصيف، وتخضبت المياه بلون بني تشوبه الرواسب كعلامة على الفيضانات التي غمرت ولايات الشمال في الأسبوع السابق. وبالمثل، كانت الصدمة من الموت والدمار الناجمين عن الفيضانات ماتزال تهزُّ أنحاء ألمانيا إلى جانب الشعور بالحاجة إلى إصلاح مؤلم في المستقبل.

يُعتقد أنَّ مصطلح الحد الفاصل مشتق من المصطلح الألماني (Wasserscheide)، ويعني حد التصريف. ولكن هل ألمانيا مستعدة لتلك الانتخابات الفاصلة؟ تتسم طبيعة الحكومة الائتلافية بالتوافق، مما يجعلها أكثر ميلاً إلى استبعاد التحوُّلات الدرامية في التوجهات. يعتقد سالومون، 61 عاماً، الذي يرأس الآن غرفة الصناعة والتجارة في فرايبورغ، أنَّ الخضر على الأرجح سيشاركون في الحكومة، ويركِّزون على قضايا المناخ والسياسة الخارجية، مما سيسمح لمحافظي لاشيت بالاهتمام بالاقتصاد والضرائب. وإذا كان ذلك لا يبدو كأنَّه تغيير جذري؛ فهو علامة على "استقرار لا يصدق"، كما يقول سالومون. لقد غرس الوباء انعدام الأمان في جميع أنحاء العالم، مما يجعل "الحكومة المستقرَّة تستحق الكثير".

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

أما بالنسبة إلى ميركل، فيرى النقاد أنَّ إرثها يعدُّ مدخلاً لليمين المتطرف على حساب أزمة اللاجئين من خلال جرِّ حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي إلى الوسط، وإضعاف هويته، والإسراع في زواله باعتباره آخر "Volkspartei"، أو آخر حزب يتمتَّع بقاعدة شعبية واسعة. لكن أنظر حولك؛ لقد استسلمت كل البلاد تقريباً لنوع مختلف من الراديكالية. فهناك مثلاً حزب القانون والعدالة في بولندا، وجمهوريو ترمب في أمريكا، وهناك مؤيدو البريكست في إنجلترا. وبهذا المعيار، تمكَّنت ميركل من إبعاد المتطرفين، إذ تراجع حزب البديل من أجل ألمانيا محرزاً نتائج أقل في استطلاعات الرأي مما أحرزه في عام 2017، في حين حافظت ميركل على شعبية حزبها.

ربما تكون تلك هي ثورة ألمانيا الهادئة، إذ قد لا تكون الدولة مستعدة بعد للخروج من ظلال تاريخها، لكن كل مستشار يخلف سلفه يتحرَّك مبتعداً عن تلك الظلال. يبدو حزب الخضر عازماً على الفوز برئاسة الحكومة، ولكن حتى لو لم يكن كذلك؛ فإنَّ العمل المناخي الجريء سيظل بمثابة الغراء الذي يربط التحالف المقبل في ظل وضع القادة السياسيين معايير منخفضة لانبعاثات الكربون داخل أوروبا وخارجها. وفي مقابلة أجريت في وقت سابق من هذا العام، قال دونالد تاسك، الذي راقب ميركل عن كثب لسنوات بصفته رئيس وزراء بولندا، ثم رئيس المجلس الأوروبي، إنَّه لا يتوقَّع الثورة من الانتخابات الألمانية، بل "الاستمرارية". قد لا يشكِّل ذلك نقطة تحوُّل بالنسبة إلى بعضهم. لكنْ يمكن القول، إنَّه كافٍ لألمانيا والعالم.

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
تصنيفات

قصص قد تهمك