في الطابق الرابع من مركز تجاري يقع قرب الميناء في جزيرة غراند كايمان، في مكان ليس ببعيد عن منافذ الغوص السياحية وكشك بيع أطعمة الدجاج، يقع مقر شركة نقل الركاب "دي دي غلوبال"، إحدى كبرى شركات التكنولوجيا في الصين، الذي نُقل إلى خارج البلاد. وعلى بُعد بضعة مداخل في الشارع ذاته يقع مقرّا شركتي الإنترنت "بايدو" و"ميتوان"، فيما تجد كذلك أن مجموعة "علي بابا" مسجلة في صندوق بريد على الشارع ذاته أيضاً، مقابل متجر ومطعم "سينغ روتي شوب آند بار" (Singh's Roti Shop & Bar).
موطئ القدم في منطقة البحر الكاريبي هو في الأساس عبارة عن عناوين بريدية مستأجرة، ومن دون قيمة تشغيلية، لكنه يسهّل على الشركات الصينية الناشئة التي تبلغ قيمتها أكثر من مليار دولار (يونيكورن) جذب المستثمرين الأوروبيين والأمريكيين. لقد كانت مواطئ القدم هذه جسراً بين الشرق والغرب، كرمز ساطع للرأسمالية الحرة التي يتسامح معها الحزب الشيوعي الصيني، إذ يعتبر أنها بمثابة تكلفة مقابل السماح للعمالقة المحليين بالتنافس مع نظرائهم الأمريكيين.
كان وجود "دي دي" هناك ضرورياً كي تُطرح للاكتتاب العام في بورصة نيويورك في 30 يونيو. لقد وجدت الشركات الصينية فوائد عدة يمكن أن تحصل عليها من الوصول إلى الولايات المتحدة، وذلك عندما افتتحت "دي دي" منشأة أبحاث في كاليفورنيا في عام 2017، إذ استفاض المؤسس والرئيس التنفيذي للشركة شينغ وي، في الحديث عن "بيت الشركة الجديد إلى جانب أكبر شركات التكنولوجيا في العالم.. معاً، سننطلق في رحلة رائعة".
لكن هذه الرحلة بدأت في الانحراف عن مسارها في أكتوبر، عندما انتقد جاك ما، مؤسس شركة "علي بابا" وأحد أبرز المليارديرات في الصين، الجهات التنظيمية الصينية لخنقها الابتكار. ردت حكومة الرئيس شي جين بينغ بسحق خطة "ما" لطرح "آنت غروب" (Ant Group)، شركة التكنولوجيا المالية التابعة التابعة لـ"علي بابا"، للاكتتاب العام، إذ شرعت في قضية مكافحة احتكار ضد "علي بابا". اختفى "ما" عن الأنظار، وتضاءلت ثروته، وانتشرت أقاويل حول إعادة تنظيم أوسع للعلاقة بين حكومة الصين وأكبر شركاتها.
أتى دور "دي دي" في 2 يوليو، بعد أيام فقط من طرحها للاكتتاب العام الأولي بقيمة 4.4 مليار دولار في الولايات المتحدة. طلبت الجهات التنظيمية الصينية مراجعة أمنية، ثم صدرت تعليمات لمتاجر تطبيقات الهاتف المحمول بإزالة تطبيقات "دي دي". يقول مايكل ويت، البروفسور الأول للاستراتيجيات والأعمال الدولية في "إنسياد" (Insead) في سنغافورة: "أن تكون شركة تقنية ناجحة للغاية، فهذا لا يعني أنك لا تخضع لسلطة الحزب الشيوعي الصيني. اكتشفت (آنت غروب) وجاك ما ذلك بأنفسهما العام الماضي، ومن المدهش أن (دي دي) لم تفهم الرسالة".
في وقت لاحق من الشهر، أعلنت الحكومة الصينية عن إطار تنظيميّ شامل جديد لصناعة التعليم عبر الإنترنت، التي قالت عنها إن "رأس المال اختطفها". ثم قالت إن منصات توصيل الطعام عبر الإنترنت يجب أن تضمن للعمال تحقيق الحد الأدنى من الدخل المحلي على الأقل. تسبب هذا في تحطيم أسعار أسهم شركة "ميتوان" عملاق التوصيل، التي كانت تواجه بالفعل تحقيقاً في سلوك احتكاري مزعوم. وفي بيانات منفصلة في الأشهر الأخيرة، قالت شركات "علي بابا" و"دي دي" و"ميتوان" إنها ستتعاون مع السلطات وستعمل على تعزيز أنظمة الامتثال الخاصة بها.
حملة بكين تكبد "ميتوان" الصينية 60 مليار دولار من قيمتها في يومين
تشير الإجراءات الحكومية الصارمة إلى حقبة جديدة من رقابة أكثر تشدداً، لن تتمكن الشركات من تجنبها بالتسجيل في جزر الكايمان أو توظيف عمّال في كاليفورنيا. يبدو أن أكبر اقتصادين في العالم يسلكان مسارين مختلفين، فيما يتصارعان مع القوة المترامية الأطراف التي تمتلكها شركات التكنولوجيا الخاصة.
تعد الصفة الاستبدادية محوراً محفوفاً بالمخاطر بالنسبة إلى البعض داخل صناعة التكنولوجيا الصينية وحولها، فيما يرى آخرون فيها فرصة للبلاد لكسب ميزة ضد منافسها الجيوسياسي الرئيسي. يقول توماس تساو، الشريك المؤسس لشركة "غوبي بارتنرز" (Gobi Partners)، وهي شركة رأسمال مغامر مقرها شنغهاي: "تأخذ الصين بالفعل زمام المبادرة في وضع بعض الحدود حول قوة شركات التكنولوجيا الكبيرة. يفوت الناس الصورة الأشمل. إنهم يجربون نموذجاً جديداً".
كيف تغذي الإخفاقات الغربية النموذج الصيني
منذ أواخر التسعينيات، سارت الصين على نهج وادي السيليكون في الابتكار. وبمساعدة رأس المال الغربي وجيل من رواد الأعمال على طراز إيلون ماسك (عديد منهم درس في الخارج) شهدت البلاد إطلاق نسخ صينية عن الشركات الأمريكية، مثل: موقع "علي بابا" كنسخة عن موقعَي "إي باي" (Ebay) و"أمازون"، وشركة "تينسنت" (Tencent) كنسخة عن "إيه أو إل" (AOL) و"فيسبوك"، و"بايدو" (Baidu) كنسخة عن "غوغل"، التي انطلقت بشكل صاروخي لتحقيق النجاح، فيما كانت الحكومة الصينية تتبع نهجاً متساهلاً نحو سلوك هذه الشركات، بل وحمتها إلى حد كبير من المنافسين الأمريكيين.
في البداية، نسخت الشركات الصينية الخدمات التي لم تكن متوافرة في الدولة، أو لم تكن مصممة خصيصاً لها، لكنها منذ فترة طويلة توقفت عن كونها مجرّد شركات مقلِّدة لمنافساتها في وادي السيليكون، وهي اليوم تتفوق في كثير من الأحيان على المنافسة العالمية. تتعامل ما يسمى بالتطبيقات الفائقة، بما في ذلك "وي تشات" (WeChat) التابعة لشركة "تينسنت هولدينغز" (Tencent Holdings)، و"علي باي" (Alipay) التابعة لشركة "علي بابا"، التي أنشأها ما والفريق أيضاً، مع كل شيء، بدءاً من النقل عند الطلب إلى توصيل الطعام إلى دفع فواتير الخدمات. لا يوجد شيء يمكن مقارنته بها في الولايات المتحدة هذه الأيام، إذ تتسابق "أبل" و"فيسبوك" و"سناب تشات" لتقليد ميزات هذه التطبيقات وغيرها من التطبيقات الصينية، بدلاً من أن يحدث العكس.
تماماً كما هي الحال في الولايات المتحدة، أدى النمو غير المقيّد إلى زيادة قوة شركات التكنولوجيا والرؤساء التنفيذيين الذين باتوا يعملون باستقلالية بشكل مفاجئ، ولم يعودوا يخشون استعراض قوتهم. أجبرت أكبر شركات التكنولوجيا في الصين بشكل دوري المنافسين الصغار على الاندماج مع منصاتها أو ضغطت عليهم للبيع. أصبح "ما" وغيره من كبار المالكين مثل نجوم موسيقى الروك في الثقافة الصينية، حتى إنه بدأ بارتداء الملابس كنجم روك في الفاعليات الصاخبة التي تنظمها "علي بابا"، مع شعر مستعار وتسريحة مع ضفيرة الموهوك الشهيرة وسترة جلدية وغيتار، فيما أصبح كذلك يتحدث صراحة في مواضيع وقضايا المجتمع.
يرى البعض أن الحملة على "علي بابا" و"دي دي" إلى جانب إجراءات ضد عشرات شركات التكنولوجيا الأخرى قد تأخرت كثيراً. يقول آندي تيان، الذي قاد استراتيجية "غوغل" الخاصة بالهاتف النقال في الصين خلال العقد الأول من القرن الحالي، وهو الآن كبير المديرين التنفيذيين في "آسيان إنوفيشن غروب" (Asian Innovations Group) لوسائل التواصل الاجتماعي في بكين، إن هذه الحملة ستكون "إيجابية للابتكار، وستكون المنافسة في الصين أكثر شراسة منها في الولايات المتحدة، لأن الشركات الأصغر ستستفيد من السياسات التي تكبح أكبر المنافسين".
تقول أنجيلا زانغ، مديرة مركز القانون الصيني في جامعة هونغ كونغ، ومؤلفة كتاب "استثنائية مكافحة الاحتكار الصينية" (Chinese Antitrust Exceptionalism,)، إن هذا التدخل سيُعيد تشكيل صناعة التكنولوجيا في الصين بشكل أسرع مما يمكن أن يحدث في أي مكان آخر. وتضيف: "احتاجت سلطة مكافحة الاحتكار الصينية إلى أربعة أشهر فقط لاستكمال القضية المرفوعة ضد (علي بابا)، في حين أن الأمر سيستغرق سنوات حتى تتمكن الهيئات التنظيمية في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من ملاحقة شركات التكنولوجيا مثل (فيسبوك) و(غوغل) و(أمازون)، المستعدة للقتال حتى الرمق الأخير".
تعتبر ليليان لي، مؤسِسة النشرة الإخبارية "الخصائص الصينية" (Chinese Characteristics)، أن هذا الاضطراب بمثابة "إعادة توازن للديناميات، وإعادة رسم الحدود". وتقول: "لا أعتقد أن الحكومة الصينية تسعى إلى تدمير عمالقة التكنولوجيا، بعد عقود من مفهوم تمرير كل شيء. لقد أرادت الصين تذكير صناعة التكنولوجيا لديها بما يمكنها وما لا يمكنها فعله".
إذا تخلت الصين عن نموذج وادي السيليكون، فبماذا ستستبدله؟ يشير المطلعون إلى أن الأمر سيكون أقل اعتماداً على المؤسسين، وأكثر تركيزاً على الصين. غالباً ما تركز إجراءات مكافحة الاحتكار الأمريكية على تعزيز حماية المستهلك، لكن الحملة الصينية موجهة في النهاية نحو حماية سياسة الحكومة. تشير أليسيا غارسيا هيريرو، كبيرة الاقتصاديين في بنك الاستثمار "ناتيكسيس" (Natixis) في هونغ كونغ، إلى أنه لم تُستهدف "هواوي" (Huawei) ولا "زي تي إي" (ZTE)، اللتان تسيطران معاً على سوق شبكات الاتصالات الصينية، حتى الآن، وذلك لأنهما -على الأغلب- تحافظان على علاقات أوثق مع المسؤولين الحكوميين. وتقول: "لا بد من التوافق الكامل مع قيادة الصين لكي تعمل في الصين".
بعد "على بابا".. المقصلة الصينية تضرب "النملة"
بعد تغريم "علي بابا".. الصين تطالب "النملة" بالتحول لشركة مالية قابضة
بعد القيود الصينية.. أين ستنفق "علي بابا" فوائضها المالية؟
حددت حكومة الرئيس شي جين بينغ القطاعات التي تريد أن تكون لها الأولوية، بما في ذلك أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي. وصف "شي" البيانات التي تجمعها الصناعة التقنية في بلاده بأنها "مورد أساسي واستراتيجي"، وكان يدفع نحو الاستفادة منها لسنوات. بعد تفويض عام 2015، أقامت المدن من غوييانغ إلى شنغهاي عمليات تبادل البيانات التي تسهل نقل المعلومات مجهولة المصدر بين الشركات. قد يؤدي ذلك إلى نظام مشاركة بيانات مؤمم يعمل كنوع من البنية التحتية الرقمية العامة، ما يضع مجموعة هائلة من البيانات في أيدي الحكومة المركزية.
يكمن خطر هذا النهج في أنه يمكن أن يكون له تأثير مخيف على الابتكار. وكما يقول أحد مؤسسي إحدى الشركات الناشئة الضخمة (يونيكورن) في الصين، فإن هذا النموذج التكنولوجي الصيني الجديد "سيساعد في كبح بعض الأفكار الإبداعية المفرطة". ورغم أن هذا كان يعني الموافقة، فإنه يمكن قراءته أيضاً على أنه وجهة نظر تقييدية للابتكار. يمكن أن تهدد حرب السيطرة على البيانات أيضاً وضع جزر الكايمان بوصفها جسراً بين القوى العظمى.
يذكر ويليام كيربي، البروفسور في جامعة هارفارد والمتخصص في الدراسات التجارية الصينية أن واشنطن أصدرت تشريعاً يهدّد بشطب أسهم الشركات الصينية التي لا تقدم وثائق للتدقيق، ما قد يؤدي إلى كشف البيانات التي تريد الصين الاحتفاظ بها لنفسها. أشارت الصين بالفعل إلى أنها ستجعل من الصعب على الشركات الصينية أن تصبح مدرجة في أسواق الأسهم الأمريكية، ما يحد من قدرتها على النمو وزيادة رأس المال خارج آسيا. يقول كيربي: "كل هذا اقتراح خاسر للطرفين".
تكلفة انقلاب بكين
إذا جعلت هذه الحملة الصارمة من التوسع عملية أكثر صعوبة بالنسبة إلى أكبر الشركات الصينية، فقد يكون عمالقة التكنولوجيا الأمريكيون هم المستفيدين . لا تزال آفاق التنظيم في الولايات المتحدة غير مؤكدة، ويمكن للاعبين المهيمنين في وادي السيليكون الاستمرار في شراء المنافسين في المستقبل، والفوز على نطاق عالمي. بالطبع إذا فعلوا ذلك عن طريق خنق الشركات الناشئة التي يمكن أن تتطور لأن تصبح منافسة، فقد ينتهي الأمر بحرمان الولايات المتحدة من الابتكارات المفيدة لمجرد أن "غوغل" و"فيسبوك" تريان أنها تهددهما.
سيتحمّل قادة الأعمال المستقبليون في الصين أيضاً تكلفة انقلاب بكين على شركات التكنولوجيا. وبالتالي، وبعد سنوات من التطلع إلى مؤسِّسَي "دي دي" و"علي بابا" كقدوة لهم، عليهم الآن أن يتعلموا التفكير بشكل مختلف. يقول أحد مؤسسي الشركات الناشئة في الصين، الذي طلب عدم الكشف عن هويته للتحدث بصراحة عن موضوع مشحون سياسياً، إن من المرجّح أن تكون شركات التكنولوجيا أكثر حذراً في طرح منتجات أكثر خطورة، وستتصرف بمزيد من الاحترام لسياسة الحزب الشيوعي الصيني، وقد تحاول تجنّب النمو الهائل خشية لفت الانتباه غير المرغوب فيه من قبل الحكومة.
يسخر رجل أعمال آخر عمل لسنوات في الصين من هذه الفكرة، ويقول: "لا أحد سيقول: أوه، قد لا يجب أن أصبح أكبر من اللازم، لأنني سأواجه خطر الإغلاق من قبل الحكومة". ويضيف هذا الرجل الذي طلب أيضاً عدم الكشف عن هويته: "إذا وصلت الأمور إلى هذه النقطة، عندما سأكون كبيراً جداً لدرجة أن الحكومة ستغلق أعمالي، فسيكون أمراً مذهلاً. هذا يعني أنني فزت. هذا يعني أنني جاك ما التالي".
الخلاصة التي يمكن استنتاجها هي أن الصين والولايات المتحدة تتصارعان مع القوة الهائلة لشركات التكنولوجيا، لكن الحكومة الصينية مستعدة للعب دور أكثر فاعلية.