حين أعلنت شركة "ستاربكس" في شهر يناير الماضي عن الاستقالة المفاجئة لمديرة عملياتها روزاليند بروير، التي كانت تتولى ثاني أعلى منصب في الشركة، أحدث الخبر صدمة في أوساط "وول ستريت". فبروير التي غالباً ما يُنظر إليها على أنها سيدة الأعمال الأقوى في أمريكا، نظراً إلى التوسع الرقمي السريع الذي حققته الشركة تحت إشرافها، تغادر الشركة للانتقال إلى قيادة سلسلة الصيدليات "وولغرينز بوتس أليانس" (Walgreens Boots Alliance).
كانت تلك الصدمة الثانية التي تهزّ الشركة في شهر واحد، إذ كان مسؤولها المالي قد أعلن للتوّ عن عزمه التقاعد، ما شكّل امتحاناً لقدرة "ستاربكس" على الاستبدال بكبار موظفيها، وهو أمر سبق أن وصفه المحللون في "غوردن هاسكيت" (Gordon Haskett) للخدمات الاستثمارية بـ"المقلق".
لكنّ رحيل بروير لم يؤدِّ إلى الزلزال الذي تخوّفت منه "وول ستريت"، فشركة "ستاربكس" معتادة مثل هذه الأمور، إذ غالباً ما تتجه أنظار وكلاء التوظيف نحو مواهب ريادة الأعمال المتنوعة لديها، في إطار سعيهم إلى بناء الطبقة المتجددة من كبار المديرين التنفيذيين في أمريكا. و"ستاربكس" تدرك ذلك جيداً.
في هذا الصدد، تقول أنجيلا ليس، الرئيسة التنفيذية للشركاء في "ستاربكس"، والمسؤولة عن شؤون التطوير والتقدم المهني: "نحن ننمّي ونطوّر قادة العالم... هذا في الواقع أحد أهدافنا".
على الصعيد الثقافي، تتمتع الشركة بعديد من نقاط القوة التي يسعى أصحاب العمل المعاصرون إلى محاكاتها، وبالتالي يحاولون اصطياد موظفيها لاختصار الطريق نحو تحقيق ذلك. فشركة "ستاربكس" كانت قد أطلقت الحوار الصعب حول التمييز في مكان العمل قبل سنوات من استيقاظ منافسيها مؤخراً على المسائل العرقية، إذ كانت قد أغلقت الآلاف من متاجرها على امتداد الولايات المتحدة في بعد ظهر أحد الأيام في عام 2018، لتدريب الموظفين على مناهضة التحيز. كما أن الشركة تُحدِث تبديلاً بين المديرين التنفيذيين على الدوام، ولذا ليس من المستغرب أن يكون أحد موظفيها التنفيذيين قد قضى وقتاً في كلّ من أقسام التمويل والعمليات والشؤون الدولية، وفق ما يقوله آدام باركر، أحد وكلاء التوظيف في شركة "ستانتون تشيس" (Stanton Chase) الذي كان قد أسهم في إيجاد وظائف جديدة لموظفين سابقين في "ستاربكس".
إلى ذلك، فإن تبنّي مثل هذه الثقافة يعني أيضاً التخلي عن بعض الأفكار التي قد تكون مدرّة للأرباح، ولكنها تؤثر سلباً في العمّال والزبائن. وتعليقاً على ذلك تقول ليس: "في كثير من الأحيان نحن نقول لا، وهذا أمر صعب جداً".
صحيح أن كثيراً من الشركات يتحدث عن موضوع الثقافة في مكان العمل، ولكن ليس بقدر "ستاربكس"، وفق ما قاله موظفون سابقون لديها. فالشركة تترك كرسيين فارغين في كلّ اجتماع أو مؤتمر، واحداً يمثّل الزبائن وآخر يمثّل الموظفين. والغرض من ذلك التذكير على الدوام بعدم المبالغة في إيلاء الاهتمام بالمساهمين، حسب فيفيك فارما الذي عمل في "ستاربكس" لمدة 12 سنة قبل أن يغادر في عام 2020 من أجل إدارة المبادرة الخيرية "إيميس بروجكت" (Emes Project )، إذ لا يزال يتعاون حتى اليوم مع رئيس "ستاربكس" المخضرم، هاورد شولتز.
يرتبط ذلك أيضاً بطريقة تعامل "ستاربكس" مع المورّدين وسياستها القاضية بعدم الهيمنة على السوق في الدول التي تتوسع فيها. وكانت رئيسة مجلس إدارة "ستاربكس" ميلودي هوبسون قالت في فاعلية عبر الإنترنت في الربيع الماضي: "نأخذ كلّ هذه الأمور في عين الاعتبار ضمن طريقة إدارتنا لأعمالنا. وفي نهاية المطاف، نظنّ أن كلّ هذه الاعتبارات تسهم في تعزيز القيمة بالنسبة إلى المساهمين". وأضافت: "لا نرى أننا نتنازل عن أمر ما مقابل أمر آخر، فكلّ الأمور مهمة".
حسب ليس، إذا كان هناك من "مكوّن سرّي" للتدريب الإداري داخل "ستاربكس" فهو يتمثل في تشجيع الموظفين على التفكير بما يتجاوز النتائج النهائية. وفي حال لم يقدر الموظفون الجدد على التكيف مع ذلك فهم عادة لا يبقون لمدة طويلة في الشركة.
في هذا الصدد قال المسؤول التنفيذي السابق في "ستاربكس" آدم بروتمان: "تعلمنا أن ندمج النتائج وأن نوازنها، ليس فقط مع الأمور التي نقوم بها، بل وأيضاً مع كيفية قيامنا بهذه الأمور".
بروتمان الذي يتولى اليوم منصب الرئيس التنفيذي لشركة "برايتلوم" (Brightloom) التكنولوجية المتخصصة بالمطاعم، التي تستثمر فيها "ستاربكس"، كان قد ترك سلسلة المقاهي في عام 2018 لدى تعيينه في منصب الرئيس التنفيذي لشركة الملابس "جيه كرو غروب" (J.Crew Group). ويضيف: "يتعلق الأمر بمحاولة تغيير طبيعة دور شركة عامة".
هذه السمات المترسخة بعمق في سياسة الشركة جعلت مقرّ "ستاربكس" مكاناً جذاباً لوكلاء التوظيف. على سبيل المثال، طاقم المسوؤلين التنفيذين في شركة "شيبوتل مكسيكان غريل" (Chipotle Mexican Grill) المؤلف من تسعة أشخاص، يضمّ اثنين كانا موظفين في "ستاربكس".
ومن الموظفين السابقين البارزين لدى "ستاربكس"، نذكر أيضاً ليان فريمار، المسؤولة العليا للعلامات التجارية في "جيه بي مورغان تشيس"، وتوني ماتا، المسؤول الأعلى لتنمية الأعمال في "كلوروكس" (Clorox). وفي مايو الماضي عينت "بينترست" (Pinterest) كريستين دبيوتي في منصب رئيسة قسم الموارد البشرية، فدبويتي التي كانت تعمل مؤخراً في "نوردستروم" (Nordstrom) سبق وقضت أكثر من عقد من الزمن في "ستاربكس"، تقلّدت خلاله مناصب عدة.
يقول باركر، وكيل التوظيف: "الخبرة في العمل لدى شركة يبدو أن لديها ميزة ثقافية أكثر من غيرها. هو أمر ترغب الشركات الأخرى في أن تتعلم منه".
وإذا كانت "ستاربكس" تبدو من حيث تدريب الجيل التالي من قادة الشركات الأمريكية، وكأنها شركة تتجاوز حجمها، فلأن الأمر هو كذلك بالفعل. فحسب تحليل "بلومبرغ" للتاريخ المهني للموظفين الحاليين ضمن الفرق الإدارية في الشركات، يظهر أن عدد المسؤولين التنفيذيين الذين صنعتهم سلسلة المقاهي يوازي العدد الذي صنعته شركات أكبر منها بكثير، مثل "أمازون" و"ولمارت". ويشغل أولئك الموظفون السابقون في "ستاربكس" مناصب تنفيذية في شركات أخرى على مؤشر "ستاندرد آند بورز 500"، فإلى جانب بروير التي انتقلت إلى "وولغرينز"، انتقل عديد من الموظفين التنفيذيين السابقين في "ستاربكس" نحو مناصب عليا في شركات أخرى.
آني يونغ سكريفنر مثلاً، تركت "ستاربكس" في عام 2017 بعد أكثر من سبع سنوات هناك لتترأس شركة "غوديفا" للشوكولاته (Godiva)، ثمّ عُيّنت رئيسة تنفيذية لشركة مستحضرات التجميل "ويلا" (Wella).
أمّا المديرة التنفيذية لسلسلة متاجر "كولز" (Kohl’s) ميشال غراس، فكانت قد عملت لأكثر من 16 سنة لدى عملاق المقاهي.
حسب غاس، كان الفشل جزءاً أساسياً من بناء القادة في "ستاربكس" في خلال فترة عملها هناك. فهي كانت قد انضمت إلى الشركة في عام 1996، حين كان لدى الشركة ألف متجر فقط، وبحلول مغادرتها في عام 2013 كان عدد المتاجر قد وصل إلى عشرين ألفاً. غاس التي يتضمن إرثها في "ستاربكس" إضافة الكريمة المخفوقة وقطرات الكراميل إلى مشروبات قهوة الفرابوتشينو المثلجة، تقول: "في خلال كلّ تلك الفترة شعرت دائماً أن بإمكاني أن أحدث فرقاً. كانت لدي عقلية ريادة الأعمال". وأضافت: "مع ذلك، لم يُكتب النجاح لكلّ شيء، ولا بأس بذلك... لا بأس بالفشل، لا، بل كان أمراً مشجعاً".
بالطبع، في أحيان كثيرة تبقى المواهب في "ستاربكس" ولا تغادرها، كما تقول ليس، حتى إن هذه المواهب قد تعود إلى الشركة في وقت لاحق، مثل حالة المديرة المالية الحالية رايتشل روغيري التي كانت قد تركت منصبها في الشؤون المالية في الشركة في عام 2018 لتتولى منصب المديرة المالية لشركة "كونتينينتال ميلز" (Continental Mills) المتخصصة بصنع خلطات البانكيك. عادت بعدها إلى "ستاربكس" في ظلّ الجائحة في العام الماضي، وعُينت خلفاً للمدير المالي الذي أعلن عزمه التقاعد في يناير.
تقول ليس: "لم نقطع التواصل قطّ مع رايتشل.. هذا مكوّن سرّي آخر، لقد عادت إلينا".
في المحصلة، أصبحت "ستاربكس" المكان المفضل لدى الشركات الأمريكية لاستكشاف المواهب، وذلك بفضل ثقافة العمل لديها التي لا تضع الربحية في مقدمة الأولويات".