عندما صعّدت إدارة ترمب حربها التجارية مع الصين في عام 2019، بدأت في استهداف فيتنام التي تتمتع بفائض تجاري كبير مع الولايات المتحدة، حيث اعتقد المسؤولون وقتها أن فيتنام يمكنها تصحيح الوضع والبدء في شراء الغاز الطبيعي المسال الأمريكي والتعاقد مع الشركات الأمريكية لبناء محطات الطاقة ومحطات التحويل وخطوط الأنابيب لاستخدام الغاز الطبيعي المسال في توليد كهرباء.
أطلقت الإدارة الأمريكية على الغاز اسم "غاز الحرية الأمريكية" كما بدأت في الإنفاق على تمويل مبادرات جديدة وإرسال البعثات التجارية إلى فيتنام وتمويل الأبحاث الخاصة بزيادة مبيعات الغاز الطبيعي المسال إلى فيتنام لمواجهة نفوذ الصين في المنطقة، من خلال تعزيز تحالفاتها من جهة، إلى جانب تعزيز التبادل التجاري.
نمت صادرات الولايات المتحدة من الغاز الطبيعي المسال بنسبة 31% في عام 2020، وأصبحت آسيا الوجهة الأساسية للغاز الأمريكي متفوقة على أوروبا، حيث زادت صادرات الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة إلى آسيا بنسبة 67% في عام 2020، كما تصدرت كوريا الجنوبية واليابان قائمة كبار المشترين، تليهما الصين.
فيض المشاريع
أدت المبادرات الأمريكية إلى ظهور موجة من المقترحات الأمريكية لمشاريع الغاز الطبيعي المسال في فيتنام، قدّمها عمالقة الصناعة مثل "إكسون موبيل" إلى جانب شركات تأسست حديثاً وتوجهت إلى هناك لتقديم مقترحات مشاريع بمليارات الدولارات وتوقيع مذكرات تفاهم ومحاولة الحصول على التمويل.
بحلول يناير 2021، كان هناك ما لا يقل عن 30 مشروعاً مقترحاً من شركات أمريكية وعالمية.
تهدف فيتنام من خلال تسريع وتيرة النمو إلى مضاعفة طاقتها الكهربائية بحلول عام 2030، حيث تعتمد على تلبية ربع احتياجاتها عن طريق توليد الكهرباء بواسطة الغاز الطبيعي المسال في إطار سعي البلاد للتخلي عن الاعتماد على الفحم والتوجه نحو مصادر الطاقة المتجددة مثل الرياح، وفقاً لمسودة الحكومة الأخيرة بشأن خطتها المتعلقة بالطاقة، مع الإشارة إلى أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من مصانع الغاز الطبيعي المسال تعادل نصف تلك التي تنبعث من محطات الفحم.
روّجت وسائل الإعلام الفيتنامية باستمرار لتلك المشاريع الضخمة، في الوقت الذي تحوم فيه الشكوك حول استكمال العديد من مقترحات مشاريع الشركات الأمريكية التي حصلت على تصاريح أولية، وذلك بسبب عدم قدرتها على تأمين التمويل والإمدادات اللازمة وفقاً لتقرير جديد صادر عن "معهد اقتصاديات الطاقة والتحليل المالي" (IEEFA)، وهو منظمة الأبحاث المتخصصة في مجال الطاقة التي تتخذ من ولاية أوهايو مقراً لها.
يقول سام رينولد الذي شارك في كتابة تقرير المعهد: "رأى العديد من مطوري مشاريع الغاز الطبيعي المسال فرصة لتصوير مشاريع تحويل الغاز الطبيعي المسال إلى طاقة كهربائية على أنها وسيلة لفيتنام لتخفيف التوترات والتدهور السريع في العلاقات التجارية في ظل إدارة ترامب، من خلال زيادة واردات الغاز الطبيعي المسال الأمريكية. لكن ضعف خبراتهم، وادعاءاتهم بتلقي الدعم من الحكومة الأمريكية بالتزامن مع نقص المعلومات المتاحة حول قدراتهم المالية والتشغيلية، أثار الشكوك حول قدرتهم على تنفيذ طموحاتهم".
يقول مايكل ديجريجوريو ممثل فيتنام لدى مؤسسة آسيا، إن بعض مطوري المشاريع "ليست لديهم فكرة عما يفعلونه". ويضيف: "الأمر يشبه دخول شخص ما إلى مباراة بوكر ويقول، سأرفع مستوى الرهان حتى لو لم يكن لدي أي شيء في يدي. إنه جنون".
أثار تقرير المعهد أسئلة حول جدوى 7 على الأقل من المشاريع المقترحة. وظهر العديد منها في خطة الطاقة السابقة للبلاد المكونة من 9 مشروعات مقترحة، وفي مسودة الخطة الجديدة التي شملت أكثر من 40 مشروعاً بحلول فبراير.
الخطة التي كان من المفترض أن تحصل على الموافقة مطلع أبريل، تم ردها من قبل لو فان ثانه، نائب رئيس الوزراء، إلى وزارة التجارة لإعادة النظر فيها وتقليصها لتصبح أكثر قابلية للتطبيق.
لم تردّ وزارة التجارة الفيتنامية على طلب للتعليق.
المطورون وشكوك التمويل والتسعير
حصلت "دلتا أوفشور إنيرجي" أحد المطورين والتي لديها مكاتب في منطقة هيوستن وهانوي، على تأييد ويلبر روس وزير التجارة الأمريكي السابق، رغم عدم امتلاكها خبرات واضحة في تنفيذ مشروعات بذلك الحجم والنطاق الذي اقترحته. ويظهر مقطع فيديو على "يوتيوب"، بعد اختيار المركز القانوني التابع للوزارة للشركة، تواصل روس مع دبلوماسيين في السفارات والقنصليات لدفع الحكومات الأجنبية إلى منح عقود للشركات الأمريكية التي تحددها وزارة التجارة على أنها "ضمن اهتمام الولايات المتحدة".
أشار تقرير المعهد إلى الشكوك بشأن التصريحات الصادرة عن شركة "دلتا" التي شارك في تأسيسها بوبي كوينتوس، أحد قدامى المحاربين الذي شارك في الحرب بالعراق، بشأن مشروعها الذي تبلغ تكلفته 4 مليارات دولار في أقصى جنوب فيتنام في مقاطعة باك ليو.
قال الشريك الفيتنامي لكوينتوس في أغسطس الماضي، إن المشروع "حصل على تمويل كامل". في المقابل، قال مسؤول محلي في أبريل الماضي، إن مشروع "دلتا" يعاني "مشكلات غير مسبوقة في جذب الاستثمار الأجنبي".
قالت "دلتا" في بيان صحفي في يناير الماضي إنها استكملت 95% من ركائز انطلاق المشروع وتوقيع اتفاقية شراء الطاقة مع الحكومة بعد أقل من عام من تلقي الموافقة الأولية، في حين تشير أبحاث "معهد اقتصاديات الطاقة والتحليل المالي" إلى استغراق اتفاقيات الشراء الخاصة بمشروعات الطاقة الأخرى في فيتنام ما يصل إلى عقد من الزمان. كما قال المسؤول المحلي ضمن تصريحاته في أبريل، إن الجانبين لم يتوصلا إلى اتفاق، وإن المفاوضات لاتزال جارية.
أقرّ كوينتوس بطبيعة طول أمد التفاوض على اتفاقية شراء الطاقة، ولكنه يقول إن "عملية التوقيع قد بدأت" وإن الشركة تمضي قدماً، كما إن "دلتا" تستخدم نموذج (البناء- التملك- التشغيل) بدلاً من نموذج (البناء- التشغيل- نقل الملكية) التقليدي، وهو ما يجعلها تحتفظ بالمصنع بعد الانتهاء من إنشائه، حيث قال: "ليس هناك الكثير من الروتين لأننا سنمتلكه ولن نعيده إلى الحكومة الفيتنامية".
طرحت شركة "ميلينيوم إنيرجي" أحد المطورين الآخرين التي تتخذ من هيوستن مقراً لها، مشروعاً بتكلفة تصل إلى 27 مليار دولار حسب ما أفادت وسائل إعلام فيتنامية. وتفوق تلك القيمة أضعاف القيمة المعتادة وفقاً لتحليل بلومبرغ. وقد رفض يارل بيدرسن الرئيس التنفيذي للشركة الرد على أسئلة حول التسعير، باستثناء قوله إن سعة التخزين النهائية المقترحة أكبر من المتوسط. وقال بيدرسن في رد مكتوب: "يواصل فريقنا المتفاني من المطورين ذوي الخبرة في فيتنام وخبراؤنا من المهندسين في الولايات المتحدة، التركيز على تطوير محطات استيراد الغاز الطبيعي المسال ومشروعات الطاقة في فيتنام".
ماذا خسرت الولايات المتحدة؟
يقول برادلي لالوند الذي أسس "سيتي بنك" في فيتنام في التسعينيات، ويدير الآن شركته الاستثمارية الخاصة الصغيرة "فيتنام بارتنرز"، إن مشروعات الطاقة في فيتنام يصعب تنفيذها حتى على شركات بحجم "إكسون"، حيث يحتاج المستثمرون الأجانب إلى ضمانات بشأن اتفاقيات الشراء والأسعار، والتي غالباً ما تتوخى فيتنام الحذر في تقديمها.
يقول لالوند:
"عندما يتعلق الأمر بالتمويل، لا تريد الحكومة تقديم الضمانات التي يحتاجها المستثمرون الأجانب، وهنا تتعثر الأمور"
بينما يقول ديجريجوريو من مؤسسة آسيا "يستغرق التخلص من بعض المشروعات غير القانونية في ظل تطوير القواعد التنظيمية للقطاع وقتاً أيضاً".
تلقى شحنات الغاز الطبيعي المسال الأمريكية - التي ستحميها البحرية الأمريكية – إقبالاً من فيتنام في ظل سيطرة الصين على بحر الصين الجنوبي، ولكن من دون تقديم ضمانات للشركات الأمريكية في ظل سهولة حصول فيتنام على الغاز الطبيعي المسال من مصادر أرخص وأقرب مثل قطر وأستراليا وماليزيا.
لم تتعرض فيتنام لضغوط تجارية من الولايات المتحدة منذ تولي الرئيس جو بايدن منصبه. وجاء رفض وزارة الخزانة الأمريكية تصنيف فيتنام بأنها "متلاعبة بالعملة" في أبريل كما فعلت إدارة ترمب في ديسمبر، ليؤكد أن الولايات المتحدة تتبع سياسة تجارية أقل تصادمية، حيث اقتصر الأمر على تصريحات كاثرين تاي الممثلة التجارية الأمريكية التي أشارت فيها فقط إلى بعض القلق خلال مكالمة مع نظيرها الفيتنامي في أبريل.
يقول رينولد من "معهد اقتصاديات الطاقة والتحليل المالي"، إن شراء فيتنام للغاز الأمريكي وفقاً لاعتبارات السوق فقط، يجعله أقل جاذبية من غيره.
على الرغم من كل صخب إدارة ترمب، فقد ارتفع العجز التجاري الأمريكي مع فيتنام بنسبة 25% في عام 2020 مقارنة بالعام السابق. ويقول هينينج غلويستين المدير في شركة "أوراسيا غروب" للاستشارات المقيم في سنغافورة، إن الخطاب الأمريكي ربما دفع فيتنام إلى البحث عن المزيد من الشركاء التجاريين.
عندما هدد ترمب في يونيو 2019 بفرض رسوم جمركية على الواردات من فيتنام ووصفها بأنها "أسوأ منتهك للجميع تقريباً"، وقّعت البلاد اتفاقية تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي. كما إن لديها اتفاقية قائمة بالفعل مع اليابان. كذلك فشلت إدارة أوباما في عقد شراكة عبر المحيط الهادئ، والتي كانت ستمنح الشركات الأمريكية تخفيضات في التعريفات الجمركية.
يشير غلويستين إلى أن الشركات غير الأمريكية ستكون أكبر المستفيدين، ويقول: "بالتأكيد تحتاج الولايات المتحدة إلى اللحاق بالركب. حين حاول ترمب ممارسة الضغط الذي لم تكن هناك حاجة إليه، تسلل آخرون. من الواضح أن الضغوط جاءت بنتائج عكسية".