في وقت مبكر من بداية صعود ماكسيم ياكوبيتس (Maksim Yakubets)، زعيم إحدى أكثر عصابات القرصنة نجاحاً في العالم، إلى قمة سُلّم الجريمة الإلكترونية في روسيا، سُئل مرةً عما إذا كان قلقاً بشأن إلقاء القبض عليه، فأجاب ياكوبيتس: "أنا لا أهتم إطلاقاً بمكتب الأمن (كيه)، أو جهاز الأمن (إف إس بي)" في إشارة منه إلى مكتب الشرطة الإلكترونية الروسية "K" وجهاز الأمن الفيدرالي الروسي "FSB" الذي يُعَدّ الخليفة الأول لجهاز المخابرات السوفييتي "كيه جي بي" (KGB).
واستطرد ياكوبيتس قائلاً: "جاري هو الرجل الثاني في جهاز الأمن الفيدرالي الروسي كله"، وذلك وفقاً لنسخة من محادثة إلكترونية جرت عام 2014، وحصلت عليها "سيلا إنتل" (Scylla Intel)، وهي شركة استخبارات متخصصة في التقصي عن التهديدات.
صعوبة الملاحقة
خلال الأشهر الثلاثة الماضية وحدها، استخدم قراصنة مجرمون على علاقة بروسيا هجمات برامج الفدية لشلّ حركة شركة رئيسية لخطوط أنابيب النفط في الولايات المتحدة، وتعطيل نشاط أحد أكبر منتجي اللحوم في العالم. وبسبب علاقات الجوار التي تربط بعض هؤلاء المتسللين بحكومة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كان من الصعب للغاية على الولايات المتحدة ملاحقتهم، وهو أمر يحظى بقبول واضح لدى الرئيس الروسي.
يقول جيمس لويس، نائب الرئيس الأول في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن: "بالنسبة إلى بوتين، فهذا يُعَدّ مصدر قوة بالوكالة"، وأضاف: "الكرملين لديه علاقات إجرامية يمكن أن تسبّب صدمة لأي عاصمة في العالم الغربي".
نفت الحكومة الروسية علمها بهجمات برامج الفدية الضارة أو التورط فيها، في وقت أُعلنَ فيه أن ملف القرصنة الإلكترونية كان حاضراً بقوة في القمة التي جمعت الرئيس الأمريكي جو بايدن وبوتين في السادس عشر من يونيو الجاري.
خدمات متبادلة
يساعد كبار المتسللين الروس أحياناً وكالات الاستخبارات في عمليات التجسس مقابل حمايتهم، وفقاً لخبراء الأمن القومي والأدلة الجنائية. ووفقاً لكريستوفر بينتر، المنسق السابق لقضايا الإنترنت في وزارة الخارجية في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، فإن فوائد هذا التنسيق بين القراصنة ووكالات الاستخبارات، تفوق قوتها أي ضغوط من الولايات المتحدة. ويضيف بينتر أنه عندما يتعلق الأمر بالقرصنة الإلكترونية، "فنحن لم نؤدِّ عملاً جيداً في تقويم سلوك روسيا".
ليس لهذه المشكلة حل واضح، ويدعو بعض المدافعين إلى التعاون مع أوروبا لممارسة مزيد من الضغط السياسي، من خلال معاقبة القطاعات الاقتصادية الروسية الرئيسية. وقال وزير الدفاع الأمريكي السابق ليون بانيتا في مقابلة معه في الثالث من يونيو الجاري على تليفزيون بلومبرغ، إن بايدن يجب أن يضع خطوطاً حمراء وعواقب واضحة. ولم يحدد بانيتا إجراءات معينة ينبغي اتخاذها، لكنه أشار إلى قدرة الولايات المتحدة على تنفيذ عملياتها الهجومية الإلكترونية.
وتُعتبر عملية ياكوبيتس مثالاً رئيسياً على كيفية تعامل الحكومة الروسية مع القراصنة المجرمين، ففي نفس الوقت تقريباً الذي كان ياكوبيتس يتباهى فيه بعلاقته مع جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، اكتشف الباحثون أن "غايم أوفر زيوس" (GameOver Zeus)، وهو نوع من البرامج الضارة التي ابتكرها ياكوبيتس وعصابته، قد عُدّل لإجراء عمليات التجسس. واستُخدم هذا البرنامج لاستهداف المستندات السرية في دولتَي تركيا وجورجيا، وفقاً لما يقوله مارك أرينا مؤسس "إنتل 471" (Intel 471)، وهي شركة للأمن السيبراني تتعقب المتسللين الروس.
عقوبات أمريكية
بحلول عام 2018، كان ياكوبيتس في مرحلة الحصول على ترخيص جهاز الأمن الفيدرالي الروسي للعمل بالمعلومات السرية الروسية، وفقاً لوزارة الخزانة الأمريكية، التي أعلنت فرض عقوبات عليه هو وعصابته التي تحمل اسم "إيفل كورب" (Evil Corp) أو "شركة الشر"، كما خصّصَت مكافأة قدرها 5 ملايين دولار من الولايات المتحدة، للحصول على أي معلومات تؤدِّي إلى اعتقال ياكوبيتس، ولكن حتى الآن لم تحقق جهودها أي نجاح ملموس.
يقول مسؤولو إنفاذ القانون الأمريكيون إنه كانت هناك أوقات تعاونت فيها روسيا في حملات لقمع القرصنة الإلكترونية. وخلال إدارة الرئيس أوباما، ساعدت الحكومة الروسية على التعرف على زعيم مجموعة اخترقت شبكات "سيتي بنك"، بهدف نهب حسابات عملائه، وفقاً لأوستن بيرغلاس، الذي عمل خلال تلك الفترة محققاً خاصّاً مساعداً في مكتب التحقيقات الفيدرالي المسؤول عن التحقيقات الإلكترونية في القسم الميداني بنيويورك.
تعاون محدود
حتى إن العملاء الروس وافقوا على وضع أجهزة للتنصت على المتسلل نيكولاي ناسينكوف، قبل قطع التعاون بين الجهتين فجأة. ووُجّه الاتهام إلى ناسينكوف في عام 2013، لكنه، على حد علم بيرغلاس، لا يزال يعيش طليقاً في روسيا.
تدهورت العلاقة تماماً بعد تدخُّل قراصنة روس في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016، مما أجبر مكتب التحقيقات الفيدرالي على تغيير مساره. وركز الوكلاء أكثر على عمليات اللدغة المفاجئة أو "Sting Operations"، التي تهدف إلى القبض على القراصنة الإلكترونيين في أثناء سفرهم أو قضائهم إجازتهم في الخارج. وانتقدت وزارة الخارجية الروسية هذه الاعتقالات وتسليم المجرمين للولايات المتحدة، ووصفتها بأنها "عمليات اختطاف"، ونصحت القراصنة الإلكترونيين بالبقاء داخل حدود البلاد.
وفي مقابلة عام 2017 مع الصحافة الدولية، في أعقاب الضجة التي أثيرت حول التدخل في الانتخابات الأمريكية، قال بوتين: "القراصنة أناس أحرار كالفنانين. إذا استيقظ الفنانون في الصباح وهم يشعرون بالرضا، فكل ما يفعلونه طوال اليوم هو الرسم. الشيء نفسه ينطبق على المتسللين، فقد ينهضون اليوم ويقرؤون أن شيئاً ما يحدث على المستوى الدولي. وإذا كانوا يشعرون بالوطنية، فسوف يبدؤون المساهمة -حسب معتقداتهم- في الحرب المبررة ضد أولئك الذين يتحدثون بالسوء عن روسيا".
في هذه الأثناء، يبدو أن كبار القراصنة الإلكترونيين مثل ياكوبيتس غير مبالين باحتمالية دخولهم السجن بسبب أنشطتهم الإجرامية. وفي عام 2017، أقام ياكوبيتس حفل زفاف فخماً، بتكلفة تزيد على 350 ألف دولار، وفقاً لوكالة الجريمة الوطنية في المملكة المتحدة. وكانت عروسه هي ابنة إدوارد بندرسكي، الذي يمتلك عديداً من الشركات التابعة لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي.