منذ مغادرته واشنطن في خضم أحداث مضطربة في يناير الماضي، أمضى دونالد ترمب الجزء الأكبر من الفترة القصيرة والمثيرة للجدل لما بعد رئاسته، متوارياً فيما يسميه كارل روف، "حصن العزلة". والذي ما هو إلا ناديه الخاص "مار إيه لاغو" في "بالم بيتش".
وفي الحقيقة، تمثل إقامته هذه نوعاً غير مألوف من الاعتزال، فعلى الرغم من أن ترمب بعيد عن العالم الخارجي إلى حد كبير، إلا أنه ليس وحيداً على الإطلاق.
نادي المعجبين
بعد الإطاحة به من البيت الأبيض، وإقصائه من منصات "فيسبوك" و"تويتر"، لم يكن ترمب يوماً أكثر بعداً عن الوعي العام. لكن على الرغم من عدم قدرته على بث أخباره، إلا أن تلك المنصات ذاتها باتت تقدم لمحة مقربة عن حياة ترمب الجديدة بشكل مدهش. ويعود ذلك لغزارة منشورات الضيوف في ناديه، والذين يغرقونه بالتملّق والمديح في كل لحظة من يومه. فعندما يدخل غرفة الطعام، يقف الناس ويصفقون. وعندما يعود من لعبة الغولف، يتم استقباله بالصيحات وطلبات التقاط صور الـ"سيلفي". وعند مغادرته لـ"مار إيه لاغو"، غالباً ما تتلقفه الحشود الملوحّة بالأعلام من تنظيم ويلي غوارديولا، وهو عازف هارمونيكا محترف سابق، وناشط مناهض للإجهاض، وهو ينظم مسيرات أسبوعية مؤيدة لترمب في "بالم بيتش". ويقول غوارديولا: "امنحني أربع ساعات ويمكنني أن أجمع 500 شخص". ومؤخراً، دعا ترمب غوارديولا، الذي نصب نفسه كـ"أكبر مؤيد لترمب في البلاد"، لإجراء استشارات خاصة في ناديه.
داخل هذا المحيط الذهبي، لا يصادف ترمب أي شخص لا يشعر بالرضا لوجوده. وعندما يتحدث الرئيس السابق مرتجلاً في أحد الأحداث، ينشر عدد من الضيوف لقطات لذلك، بحيث يمكنك مشاهدة نفس المشهد الغريب من عدة زوايا، على غرار الفيلم الياباني "راشومون". وكما لاحظت آشلي فاينبرغ، الصحفية التي تتحرى الأحداث على "إنستغرام"، فإن ترمب يبدو مرتاحاً للغاية، حيث اعتاد ارتداء نفس الزي لعدة أيام متتالية. ويعتبر البنطلون الأزرق وقميص الغولف الأبيض والقبعة الحمراء التي تحمل شعار "لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً" بالنسبة للرئيس السابق، بمثابة سترة "ماو" السوداء التي عادة ما يرتديها صديقه اللدود القديم كيم جونغ أون.
وبحسب أعضاء النادي، فإن حياة ترمب الجديدة تناسبه، إذ يقول توماس بيترفي، الملياردير المؤسس لشركة "إنترأكتيف بروكرز"، والذي يعيش على بعد ثلاثة منازل من "مار إيه لاغو":
دائماً ما يبدو الرؤساء أكبر سناً عند انتهاء ولايتهم. لكن ذلك لا ينطبق على ترمب
عالم ترمب الجديد
يبدو أن ترمب قد يحضر أي مناسبة في محيطه. ففي الأسابيع الأخيرة، شارك في أحداث مختلفة بدءاً من حفلات الخطوبة إلى مراسم التأبين. ووفقاً لأحد أعضاء نادي "مار إيه لاغو"، الذي حضر مؤخراً مراسم لتأبين صديق متوفى له في النادي، فقد فوجئ بحضور ترمب لإلقاء بعض الكلمات في الحدث، ثم بقاءه ليمضي بعض الوقت. فعلى ما يبدو كان ترمب يمضي وقتاً جيداً.
حلقة ردود الأفعال عن هذه العزلة، والتي تضخمت من خلال المديح الذي يحصل عليه ترمب خلال قيامه بمقابلات مع قناة "نيوزماكس" أو "أو إيه إن"، من غير المرجح أن تتضاءل قريباً؛ حيث يستعد ترمب للانتقال لنادي الغولف الخاص به في نيو جيرسي خلال الصيف. حيث سيواصل إقامة تجمعاته المعهودة التي تميزّه.
عن ذلك، يقول مايكل كوهين، محامي ترمب السابق والذي لم يعد يعمل معه: "يحتاج دونالد ترمب إلى تملق الجماهير كما نحتاج أنت أو أنا إلى الأكسجين للتنفس".
وبكل المقاييس، فإن حياة ترمب ما بعد البيت الأبيض، لا تشبه بأي حال، الحياة النموذجية لرئيس سابق، بقدر ما تشبه حياة لملك أجنبي يعيش في المنفى. كحال نابليون في إلبا مثلاً، ولكن مع مساحات الغولف، وموائد طعام أكبر.
قبضة ترمب على الحزب
عندما غادر واشنطن، تساءل الناس عما إذا كان ترمب سيحتفظ بقبضته الحديدية على الحزب الجمهوري أو أن نجمه سيخفت مثلما حدث سابقاً مع سارة بالين. لكننا، تأكدنا الآن من أن نفوذه لم يتضاءل. وكما يتضح من أحداث مثل إبعاد النائبة ليز تشيني، وعرقلة أعمال لجنة 6 يناير في الكونغرس، وموجة القيود الجديدة على التصويت التي يدفع بها الجمهوريون في جميع أنحاء البلاد تحت مسمى "نزاهة الانتخابات"، يبدو أن قبضة ترمب على الحزب أصبحت أقوى من أي وقت مضى. وقد استخدم ذلك لإخضاع الجمهوريين الذي تم انتخابهم للانصياع لنسخته المشوهة للواقع. فكل من يرفض ذلك من الحزب، يُخاطر بأن يتم إبعاده. وبحسب ما كشفته رحلة أخيرة إلى فلوريدا، فإن كل فئات الحزب الجمهوري، من نشطاء، ومتبرعين، وموظفين سابقين، وسياسيين محليين، أصبحوا مدركين لهذه الحقيقة، وباتوا إلى حد ما، يعتمدون عليها، حيث يشكل ممثلو الحزب هؤلاء مجتمعين هيكلاً للسلطة. وهذا الهيكل يوسع ويعزز مكانة ترمب، حتى في الوقت الذي يواجه ترمب نفسه تهديداً محدقاً (حقيقي وليس مزيف) من توجيه الاتهام إليه في إطار تحقيق جنائي في نيويورك يطال إمبراطوريته التجارية.
وإذا كان ترمب يشعر أن من حقه السيطرة على الحزب الجمهوري كما لو كان لا يزال رئيساً، فقد يكون ذلك لأن كثير من الأشخاص في محيطه، لا يزالون يحيطون به ويعاملونه كما لو كان كذلك. فبدلاً من تجاوز ترمب، انتقل جزء كبير من الحزب إلى فلوريدا للانضمام إليه.
هجرة إلى فلوريدا
في فلوريدا، كانت عناصر كثيرة من "عالم ترمب" تنتظره هناك بالفعل. فمن مدينة بوكا راتون الواقعة جنوب نادي "مار إيه لاغو"، تبث محطة "نيوزماكس"، رسائلها المستمرة من الدعاية الصديقة لترمب. وهى محطة يمينية صغيرة تفوقت على قناة "فوكس نيوز" في سباق الترويج لمؤامرات ترامب الانتخابية. وهو ما تسبب لها بدعوى تشهير رفعها أحد موظفي شركة "أنظمة دومينيون الانتخابية"، التي تم إسقاطها بعد اعتذار "نيوزماكس".
وفي فورت لودرديل، أسس براد بارسكال -وهو مدير حملة ترمب السابق- شركته الجديدة "كامباين نيوكلياس" التي تخدم عمليات ترمب السياسية. بارسكال، الذي انتقل إلى فلوريدا بعدما سرّحه ترمب من منصب إدارة حملة إعادة انتخابه، يشير إلى أن رئيسه السابق قد أسس مقر إقامة دائم له، في مقاربة تتجاوز وجود ملعب الغولف وأشعة الشمس. ويقول بارسكال عن ذلك: "لديك حاكم عظيم وهو ودود للمحافظين، ونظام قضائي محافظ منصف، وضرائب منخفضة، ومطارات رائعة".
سيل من المؤيدين
في الوقت الذي انتقل ترمب إلى الجنوب، تبعه حشد من أفراد الأسرة (بالمعنى الحرفي والمجازي)، حيث اشترت إيفانكا ترمب وجاريد كوشنر قطعة أرض على الواجهة البحرية في ميامي، بقيمة 32 مليون دولار، والتي اشترياها من مغني الأغاني العاطفية اللاتيني الشهير، خوليو إغليسياس. وسجّلا أطفالهما في مدرسة نهارية يهودية قريبة. كما اشترى دونالد ترمب جونيور وصديقته كيمبرلي جيلفويل، قصراً بقيمة 9.7 مليون دولار في جوبيتر، بولاية فلوريدا.
وفي ديسمبر الماضي، باع شون هانيتي منزله الواقع على مقربة من منزل رئيس مجلس النواب السابق (وأحد ناقدي ترمب) جون بينر، على خليج المكسيك. ليشتري هانيتي بدلاً منه منزلا على شاطئ البحر، بقيمة 5.3 مليون دولار، ويقع على بعد ميلين فقط من "مار إيه لاغو"، حيث استبدل بشكل رمزي، الساحل الواقع بجوار بينر، بالساحل الواقع قرب ترمب. وانضم إليه زميله في قناة "فوكس نيوز"، نيل كافوتو، الذي اشترى منزلاً قريباً بقيمة 7.5 مليون دولار.
ويقول إدي فالي، الاستراتيجي الديمقراطي: "فكّر في مدى غرابة هذا الأمر. تخيل لو أن راشيل مادو، وموظفي إذاعة "بود سيف أمريكا" اشتروا جميعاً شققاً سكنية في شيكاغو، لأنهم أرادوا أن يكونوا قريبين من باراك أوباما".
ولاية بدون قيود كورونا
كذلك فإنه بالنسبة للجمهوريين، لا يقتصر الذهاب إلى فلوريدا على بهجة الاقتراب من ترمب، بل هي فرصة تتيح لهم أيضاً، أمراً يحبون فعله كثيراً: ألا وهو إغضاب الليبراليين. فقد ذكر كل شخص تمت مقابلته في إطار هذا الموضوع، دون مبرر، مدى نجاح استراتيجية "ولاية فلوريدا الحرة"، والتي استهترت بقيود "كوفيد-19". وذلك تحت قيادة حاكمها الجمهوري الذي أيده ترمب، رون ديسانتيس. ويقول آندي سورابيان، المسؤول السابق في إدارة ترمب:
ليست هناك أقنعة ولا عمليات إغلاق، بل يوجد مطاعم جيدة وشواطئ رائعة. ووجود ترمب هناك بمثابة الكرزة التي تزيّن الكعكة
ونظراً لأن الولاية لم تغلق خلال الأزمة في معظم الوقت، فقد أصبحت ملاذاً للجمهوريين الذين يسعون لجمع الأموال. وقد ساعد هذا النشاط موكب من المتملقين، بقيادة زعيم الأقلية في مجلس النواب كيفن مكارثي. وقد وصل هؤلاء إلى "مار إيه لاغو" لتقديم الولاء ومحاولة كسب ود رئيسهم.
وزاد هذا النزوح الجماعي إلى فلوريدا بشكل أكبر عندما انتقل مؤتمر العمل السياسي للمحافظين، والذي يعقد تقليدياً خارج واشنطن، إلى مدينة أورلاندو بولاية فلوريدا خلال فبراير. وقد اجتذب العديد من الآملين بالترشح للرئاسة في عام 2024 من الجمهوريين، بالإضافة لكبار المستشارين والمتبرعين، سواء كانوا يؤسسون مقر إقامة مثل ترمب، أو يقضون الشتاء تحت أشعة الشمس في فلوريدا، أو مجرد ذاهبين في رحلة عمل ممتعة. وكل الجمهوريين حجزوا تذاكر سفر إلى فلوريدا. ويقول شون سبايسر، السكرتير الصحفي السابق للبيت الأبيض: "إنه جنون.. إنها هجرة كاملة".
جيوب ممتلئة وحياة سياسية
أحد الوافدين الجدد الذي انضم لهذه التجمعات، هو هوجان جيدلي، المتحدث السابق باسم البيت الأبيض، فبالنسبة له هناك "وسائل الراحة، والشواطئ، والطقس، والمساحات المفتوحة"، ويضيف بينما يحدق بعينيه من نظاراته من نوع "أوراكل"، ويتطلع لفلوريدا كمركز لعالم الحزب الجمهوري: "الكثير من الأشخاص يجتمعون في هذه الولاية، بجيوب ممتلئة، واهتمام عميق بمستقبل البلاد".
يجلس جيدلي ببشرة مسمرة من الشمس، وبدون قميص، بجانب حمام السباحة في منتجع "ذا بريكرز" الفاخر في "بالم بيتش"، بينما يحتسي مشروباً من التوت بقيمة 16 دولاراً، ويرتدي قبعة "بيسبول" مقلوبة تحمل شعار جامعة مسيسيبي. وشأنه كشأن العديد من الجمهوريين المحترفين فإن لديه رسالة يؤديها، لأنه ببساطة يجب أن يكون كذلك، فهو واحد من موظفي ترمب الذين لم يبتعدوا كثيراً عنه. وجاء إلى فلوريدا، من منزله في العاصمة، لمحاولة جمع المتبرعين خلال تجمّع محافظ في مدينة نيبلز الواقعة على الجانب الآخر من الولاية. وهناك، يتحدث عن منظمته غير الربحية الجديدة، تحت مسمى "تحالف حماية الناخبين" التي تهدف إلى تعزيز قضية ترمب المتمثلة في "الذهاب إلى الولايات والتأكد من أن الهيئة التشريعية تحمي كل الأصوات المُدلى بها قانونياً".
لكنه عرّج أثناء هذه المهمة ليمر عبر "بالم بيتش"، حيث يقيم مؤقتاً في منزل على جانب الشاطئ مملوك لأحد الشخصيات المحلية البارزة. فلو كنت رجلاً ذا سلطة في عالم ترمب، لما لا تقوم بذلك؟
العمل في فضاء ترمب
واجه موظفي البيت الأبيض المخضرمين في عهد ترمب، صعوبة في الحصول على وظائف في الشركات الشهيرة مثل "أمازون" و"ماكدونالدز" و"أوبر"، والتي سبق وانتظرت كبار المسؤولين من الإدارة السابقة لتوظيفهم. وبات يكافح الكثير من هؤلاء للحصول على أي وظيفة في القطاع الخاص، خاصة بعد الاضطرابات في مبنى الكونغرس. بينما انضم بعضهم، مثل وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء السابق، بن كارسون، وكبير المستشارين ستيفن ميللر، إلى جيدلي في تأسيس منظماتهم الخاصة، معتمدين على مؤهلاتهم السابقة ليظلوا عالقين في فلك فضاء ترمب بشكل كبير. وبهذا الشكل، بات ترمب يعتبر اقتصاد في حد ذاته، حيث يوفر سبل العيش لمساعديه السابقين. وفي المقابل، يروجون هم لنظرياته حول الانتخابات المسروقة، والمؤامرات الديمقراطية.
يقول سام نونبيرغ، أحد مساعدي حملة ترمب الأوائل والذي تحرر من معتقداته السابقة بالكامل وترك السياسة قبل بضع سنوات: "هؤلاء الأِشخاص ليس لديهم مكان آخر يذهبون إليه، ماذا يسعهم أن يفعلوا غير ذلك؟".
المال ليس كل شيء
ومع ذلك، بعد التنقل بين مؤيدي ترمب في فلوريدا، يبدو أن المال ليس عامل الجذب الوحيد. هناك عامل نفسي قوي يلعب دوراً، حيث يحصل هؤلاء على الإشباع النفسي المهم للإنسان من العيش دون تعرض للانتقاد من بني جنسه. وبالعكس فإنه يحتفى به بسبب ذات الأمور التي جعلته محبطاً في المناطق الأخرى الأكثر قتامة بالنسبة له. ومن ثم، توفر "بالم بيتش" دائرة اجتماعية صديقة لترمب من الصباح حتى الليل، حيث يمكن أن يتمتع بوجبة إفطار وغداء في "لوبيلبوكيه" أو في "تا-بو"، أو ربما يحصل هؤلاء على موعد غداء متأخر مع متبرع محتمل في منتجع "ذا بريكرز". بالإضافة إلى حفلات العشاء والتقاط الصور في فناء "مار إيه لاغو"، والتمتع بشراب البطيخ في "بوكان"، مع المزيد من المرح في وقت متأخر من الليل في فندق "كولوني". وتضمن هذه الدائرة الاجتماعية أنك ستقضي وقتاً ممتعاً، خاصة إذا كنت، مثل جيدلي، وقد قضيت الكثير من الوقت في الظهور على التلفزيون للتحدث عن ترامب. وأيضاً، إذا كنت مثل جيدلي، مرة أخرى، وكان تأثيرك "جنوبياً ودوداً" بدلاً من كونك على سبيل المثال ممن ينطبق عليه وصف "وطني عنيد".
حياة الشهرة في بالم بيتش
عندما لم يكن يتودد لنبلاء فلوريدا أو يروج لترمب على قناة "فوكس نيوز"، كان جيدلي يستعرض الأحذية على "إنستغرام"، مع مقدم برنامج "كوير آي" السابق، كارسون كريسلي، ويظهر ببدلات متميزة من تصميم "رالف لورين" مع مشاهير المجتمع المحلي في مجلات "بالم بيتش". (نموذج لعناوين هذه المجلات: "عودة محبي الاحتفالات إلى بالم بيتش تأتي لدعم رابطة بيغي آدامز لإنقاذ الحيوانات). وهناك وجد أن مؤهلاته تضمن له شهرة معينة على ساحل ترمب. ومثلما يقدم مؤتمر الكتب المصورة في سان دييغو "كوميك-كون" فرصة للممثلين الذين تخطوا ذروة شهرتهم للظهور مرة أخرى، فبالأسلوب نفسه يوفر جنوب فلوريدا لمعجبي ترمب المتشددين طريقة لإشباع حنينهم والتودد إلى شخصياتهم المفضلة من عالم ترمب الواسع. حتى أن اللاعبين الصغار باتو يشكلون عوامل جذب كبيرة؛ فقد كان جيدلي يتطلع إلى الحفلة التالية كضيف مشهور في موكب قارب ترمب لـ"يوم الذكرى" في جوبيتر، بفلوريدا.
مدينة ملاهي بحس جمهوري
سبايسر، الذي يقوم بتقديم أحد برامج محطة "نيوزماكس"، يقدم الوصف الأكثر ملاءمة لفلوريدا فيما يتعلق بالنزوح الجماعي للجمهوريين، حيث يطلق على المنطقة "مار إيه لاغو الكبرى". يقول سبايسر، وهو زائر منتظم للنادي: "إنه كعالم ديزني، فبمجرد رحلة واحدة في مدينة الملاهي هذه، يمكنني تصوير برنامج في بوكا راتون، والذهاب لرؤية الرئيس وإلى حملة لجمع التبرعات، وإنجاز ثمانية أشياء أخرى أثناء وجودي هناك. توجد الكثير من عوامل الجذب".
وبحسب جيدلي فإن ذلك يعد سبباً هاماً لاستمرار جاذبية فلوريدا، ويقول: "أخبرني الكثير من السكان المحليين أن الموسم قد امتد قليلاً بسبب وجود ترمب الذي سلط الضوء على "بالم بيتش"". ويضيف مبتسماً: "لا يزال الناس هنا، يتواصلون ويوسعون مشاريعهم. وبالتأكيد، فإنك لن تسحب خيط صنارتك من الماء أبداً بينما لا تزال الأسماك تلتهم الطعم".
التشعب في السياسة المحلية
هيمنة ترمب على الحزب الجمهوري ليست مدفوعة فقط بالسياح الانتهازيين، وانتقال أعضاء الحزب ليكونوا بالقرب منه. غرس ترمب نفسه بعمق في نسيج السياسة المحلية في جنوب فلوريدا وأماكن أخرى، بحيث أصبح الجمهوريون يعتمدون عليه في فترة ما بعد الرئاسة مثلما كانوا يعتمدون عليه عندما كان يعيش في البيت الأبيض.
جو بد، كان أحد الشخصيات التي لفت نظرها تغلل ترمب في السياسة المحلية منذ زمن. حتى قبل أن يصبح ترمب المرشح الجمهوري. كان ذلك في 15 مارس 2016، حينها شاهد "بَد"، وهو عضو لجنة المقاطعة الحكومية في "بالم بيتش"، بذهول، ترمب يسخر من اثنين من أبناء فلوريدا المفضلين، السناتور ماركو روبيو، والحاكم السابق جيب بوش، ليفوز في الانتخابات الرئاسية التمهيدية للولاية.
لم يكن الفوز هو أكثر ما أثار إعجاب " جو بَد"، بل كان الاهتمام الذي زرعه ترمب في ناخبي فلوريدا، حيث ارتفعت نسبة الإقبال في مقاطعة بالم بيتش آنذاك بنسبة 52% مقارنة بعام 2012. وقرر "بَد"، وهو مستشار تخطيط مالي في مدينة "بوكا راتون"، أنه لا يمكنه المخاطرة بترك تلك الشرارة تتلاشى، فانضم إلى حملة ترمب، ثم أسس نادي "كلوب 45 يو إس إيه "، وهي مؤسسة مصممة للإبقاء على مشاركة جماهير ترمب في السياسة المحلية و"دعم المساعي المستقبلية لدونالد ترمب!" كما يوضح موقعها على شبكة الإنترنت.
ويقول "بَد": "كل هذا انبثق عن تلك الانتخابات التمهيدية. إنني أفكر، من هؤلاء الـ52%، وكيف أحافظ على مشاركتهم؟".
تبين أن الإجابة على هذه الأسئلة هي "معجبو ترمب" و"دونالد ترمب". فقد ظل الناخبون الجمهوريون مهتمين ومشاركين ما دام ترمب هو من يقود دراما السياسة الوطنية، حتى عندما لم يكن اسمه مطروحاً على بطاقات الاقتراع. فقد أدى تأييده لديسانتس إلى حسم سباق حاكم فلوريدا في عام 2018. وبالطبع، فقد انتصر على جو بايدن في فلوريدا في نوفمبر الماضي، وفاز بالولاية بواقع ما يقرب من 400 ألف صوت.
أطياف الحزب الأخرى
لكن في مارس، حدث شيء صدم "بَد" وغيره من القادة الجمهوريين المحليين. وكان ذلك حينما عقدت مقاطعة "بالم بيتش" انتخاباتها المحلية. وهذه المرة، لم يحضر أحد تقريباً. يقول "بَد": "كان الأمر مقلقاً. الناس لم يخرج الناس للتصويت ببساطة".
ويعتقد "بَد" أنه يعرف السبب، إذ يقول: "لم يكن هناك تعادل. لقد شعروا بالإحباط لأنه من الواضح أنه لا يوجد شيء (في الاقتراع) يتعلق بالرئيس". كما يشك "بَد" في أن تأثير ما بعد السادس من يناير، والمشاحنات داخل الحزب حول منصب تشيني القيادي في مجلس النواب، كانت من العوامل التي أدت إلى إضعاف حماس الجمهوريين.
وكان من بين التغييرات التي شهدها "بَد" في السياسة المحلية على مدى السنوات العديدة الماضية، هي تغطية قوة ترمب تدريجياً على مراكز القوة التي كانت تشكل في يوم من الأيام الائتلاف الجمهوري في فلوريدا.
ويقول "بَد": "بالعودة إلى عام 2016، كان لدى كل من جيب بوش، وماركو روبيو، وحتى ريك سكوت، تطلعات رئاسية وهم يمثلون ثلاثة أجنحة مختلفة للحزب". لكنها جميعاً كانت بمثابة ألوان باهتة مقارنة بلون ترمب الجريء الذي قدمه. ويضيف: "فجأة، أصبح هناك جناح رابع انتزع السيطرة الكاملة على الحزب، مما أدى إلى نفي مؤيدي جيب بوش من الجمهوريين إلى غياهب الماضي".
الحزب بحاجة إلى ترمب
تتكشف تلك الديناميكية ذاتها داخل الدوائر الجمهورية في جميع أنحاء البلاد. ففي تكساس، أطلق نجل جيب بوش، جورج بريسكوت بوش، مؤخراً حملة انتخابية للترشح لمنصب المدعي العام. وبالأخذ بالنظر كونه سليلاً لعائلة بوش، لم يعد أمراً جيداً، حتى في عقر دار سلالة بوش.
ولإشاعة ولاءه للنظام الجديد، قام بوش الشاب بفعل مُذل بشكل لافت، حيث أنتج أكواب تصوره وهو يصافح ترمب وكتب عليها هذا الاقتباس من ترمب: "هذا بوش الوحيد الذي يحبني! هذا بوش الذي فهم الأمر بشكل صحيح. أنا أحبه. دونالد ج. ترمب".
شكوك "جو بَد" بشأن ما يعاني منه حزبه وكيفية إصلاحه، اكتسبت مصداقية بعد فترة وجيزة من الانتخابات المحلية المخيبة للآمال. وكان ذلك عندما بدأ "كلوب 45 يو إس إيه"عمله مرة أخرى، حيث بات مكرساً الآن لإعادة انتخاب ديسانتس العام المقبل. وقد حجز قائمة من المتحدثين الصديقين لترمب، بما في ذلك المحرض المحافظ، جيمس أوكيف، والجنرال مايكل فلين، مستشار الأمن القومي لترمب، والذي تصدر عناوين الصحف مؤخراً بعدما أشار إلى وجوب قيام الجيش الأمريكي بانقلاب. فعادت الحشود أدراجها مسرعة، حيث يقول "بَد": "بيعت التذاكر الإلكترونية خلال 15 دقيقة".
وبالنسبة لـ"جو بَد"، فإن الدرس واضح هو أن الحزب بحاجة إلى ترمب ولا يوجد خلاف على ذلك. وإن تجربته في "بالم بيتش" تؤكد مواقف السناتور الجمهوري عن ولاية كارولينا الجنوبية، ليندسي غراهام، الذي قال:
إذا حاولت طرده من الحزب، فسيأخذ نصف الحزب معه
دعم المعارضين
الأمل الدائم للجمهوريين الذين يكرهون ترمب ويرغبون في المضي قدماً يكمن بالمتبرعين الرئيسيين للحزب، الذين كان دعمهم لترمب فعالاً دائماً، والذين سيتمكنون من إخراجه أخيراً من السلطة بعد رحيله عن البيت الأبيض. وعندما يتوهم الجمهوريون ذلك، فإنهم يتخيلون متبرعين مثل توماس بيترفي، مؤسس "إنترأكتيف بروكرز"، والمقيم في "بالم بيتش".
يقول بيترفي: "لم أؤيد ترمب حتى أصبح المرشح الجمهوري. ولم أصوت له في الانتخابات التمهيدية. في الواقع، أنا لست من محبيه على الإطلاق، وآمل ألا يترشح مرة أخرى".
قد يبدو بيترفي، 76 عاماً، كأحد مؤيدي حركة "نيفر ترمب". لكنه، في الواقع، أبعد ما يكون عن ذلك، فقد تبرع بمبلغ 250 ألف دولار لجهود إعادة انتخاب ترمب. وخلال مأدبة غداء في الهواء الطلق وهو يحتسي الهليون البارد في "لو بيلبوكيه"، وهي البقعة الأكثر أهمية لترمب، وضع بيترفي، وهو مهاجر من هنغاريا الاشتراكية، استطاع جمع ثروة قدرها 22 مليار دولار، تحدث عن منطق لتفكيره. وقال بيترفي:
من الناحية الأيديولوجية، أنا ملتزم جداً بمعاداة الاشتراكية والتنظيم الاشتراكي، لأنني نشأت في كنفه. ومن ثم فإنني أدرك حقيقته وما يؤدي إليه بشكل حتمي، وسأفعل كل ما بوسعي لأحاول منع أن تؤول البلاد إليه.
في عام 2012، إبان ترشح الرئيس أوباما لإعادة انتخابه، أنفق بيترفي 10 ملايين دولار على الإعلانات التي رواها بنفسه محذراً من أن أوباما كان يشكل خطراً اشتراكياً. وفي عام 2016، كان بُعبُع هيلاري كلينتون وحده كافياً للتأثير به، حتى لو على مضض، لتأييد ترمب.
ويعد الحال في الأعمال التجارية، كما هو في السياسة، حيث تتسم طريقة عمل بيترفي نوعاً ما بالكفاءة العقلانية المفرطة. فعلى الرغم من كراهيته لترمب، إلا أنه عضو في "مار إيه لاغو"، يقول عن ذلك: "أعيش على بعد ثلاثة منازل من النادى. إنه ملائم جداً لوجبات غداء العمل. بالتأكيد، الأشخاص الأكثر ذكاءً كانو سيذهبون إلى أندية أخرى".
نظريات كثيرة
يمتلك بيترفي وجهة نظر مأساوية عن الحزب الجمهوري (مبالغ فيها تماماً)، مما يجعل التهديد الذي يراه في بايدن والديمقراطيين أكثر رعباً. ففي مايو، بدأت شركة "إنترأكتيف بروكرز" مدفوعةً جزئياً باحتمال التضخم الجامح، بتقديم عقود الذهب الآجلة بشكل فوري للعملاء، بما في ذلك قدرة العملاء على التسلم الفعلي لممتلكاتهم من الذهب. ويقول بيترفي: "لقد كانت فكرتي". وهو يعتقد أن الانغماس في الإنفاق تحت حكم ترمب وبايدن سيؤدي "حتماً" إلى تضخم مفرط على مستوى الدولة مثلما حدث مع المارك الورقي في جمهورية "فايمار" الألمانية سابقاً، وهو ما سيدفع المستثمرين باتجاه الذهب.
وهذا سبب كافٍ بالنسبة إلى بيترفي للتخلص مما يعتبره تهديداً أكثر رفاهية وأقل خطورة على البلاد. وهو رفض ترمب الاعتراف بالانتخابات والعنف الذي نتج عن هذا الموقف. ويقول بيترفي: "هل كان لديه القليل من الأمل في أن يعيد الحشد في مبنى الكابيتول الرئاسة إليه؟ ممكن. لكنني لا أعتقد أنه تعمّد الأمر برمته. إذا أخبرني أحدهم أنه فعل ذلك، فسوف أذهل وسأكون مستاءً للغاية. لكنني لا أعتقد أنه فعل ذلك. أعتقد أنه كان أمراً عفوياً". كما أن بيترفي لا يعتقد أن ترامب يشكل خطراً. ويقول ضاحكاً: "إنه طفولي أكثر من كونه خطير. سيطردني من "مار إيه لاغو"، ويضحك بعدها.
مستقبل الجمهوريين
لدى معظم الجمهوريين مرشح مفضل يأملون أن يترشح للرئاسة في عام 2024. وترمب، ليس من هؤلاء بالنسبة لمعظمهم. وذلك لأنهم لا يعتقدون أنه قادر على الفوز.
من جهته، يتطلع بيترفي إلى كل من ديسانتيس، ومايك بومبيو، وتاكر كارلسون (سيكون هذا مثيراً للاهتمام، أليس كذلك؟). لكنه يقبل دور ترمب البارز لنفس السبب الذي يجعل بد وجيدلي والعديد من الجمهوريين يقبلونه: إنه يعتقد أنه من الضروري للجمهوريين استعادة السلطة.
يضيف بيترفي: "أعتقد أنه بالنسبة لعام 22، من المهم (للجمهوريين) أن يكون ترمب نشطاً لأنه يمكنه جذب الكثير من الناخبين. إن ما يحاولون فعله هو انتخاب عدد كافٍ من الجمهوريين لاستعادة مجلس النواب".
وبحسب وجهة النظر تلك، يعتبر ترمب، مثل غداء عمل في مطعم سيء، محض ضرورة عملية. ويمكن لنظريات بيترفي الفكرية تبرير تساهل الحزب مع ترمب باعتباره حصناً ضد الاشتراكية. لكن بيترفي وهو عضو "مار إيه لاغو"، لدية نظرة مختلفة بشأن ترمب تجعله يتأنى. ويشير إلى ذلك بقوله: "إنه شيء سيئ للغاية، لأن ترمب يمكنه أيضاً أن يفسد الأمر برمته. لقد خسرنا انتخابات مجلس الشيوخ في جورجيا لأنه لم يكن هناك للمشاركة في الحملة الانتخابية".
وهذا هو بيت القصيد. ترامب حليف فريد لا يمكن الاعتماد عليه. ومصدر قوته الرئيسي لا يتمثل في قدرته على جذب ائتلاف الأغلبية إلى الحزب الجمهوري، الذي خسر التصويت الشعبي في سبع من آخر ثماني انتخابات رئاسية. فترمب قد يقوم لمجرد نزوة، أن يحرمهم من الناخبين الذين خرجوا، والذين سيحتاجون إلى فعل ذلك مرة أخرى حتى يستعيد الجمهوريون السلطة.
وعلى الرغم من يقين الجمهوريين بشأن قيمته المؤثرة لهم خلال العام المقبل، إلا أنه لا توجد خطة مقنعة لدى أي منهم بشأن كيفية اختيار الحزب لخليفة ترمب، ومن ثم إرشاده بلطف بعيداً عن مركز الصدارة بمجرد انتهاء فائدته؛ فمعظمهم يفكر بأن ذلك هو ما سيحدث وحسب.
يقول بد: "ترمب مرتاح للغاية ويقضي وقتاً رائعاً. فهو يفعل ما يجب أن يفعله شخص ما في مثل عمره ونجاحه على الأرجح في هذه المرحلة من الحياة: وهو الاستمتاع ولعب بعض الغولف. أعتقد أن هذا الدور شيء سيجده مرضياً. أعتقد أنه سيوافق على أن يكون صانع الملوك، ولكن ليس من الضروري أن يكون الملك".
حتى غوارديولا، قائد راية ترمب، لديه أفكار بشأن ترشح الآخرين وقال: "ستكون بطاقة انتخاب ديسانتيس وتيم سكوت بطاقة لا تقهر".
التخلّي طوعاً عن السلطة
ليس لدى بيترفي، أيضاً، إجابة عن كيفية تخلّص الجمهوريين من ترمب قبل عام 2024. ويقول: "يحدوني الأمل في أن يتخلى عن قبضته على الحزب"، وأن يفعل ذلك طوعاً. ولكن قول ذلك بصوت عالٍ، يؤكد مدى استحالة تصديق إمكانية حدوث ذلك فعلياً. فترمب يحظى باحتفاء لا نهاية له وهو ينغمس فيه كلياً، مع كل من يحيط به. وقد هزم أعدائه، كما أنه يتمتع بنفوذ أكبر من أي وقت مضى في الدوائر الجمهورية.
وإذا ما فازوا في العام المقبل، فسيكون له الفضل، وسيحظى بالاهتمام الذي يأتي مع ذلك. فهل سيختار ترمب، في تلك المرحلة، الانسحاب بهدوء؟ أم أنه سيفعل العكس تماماً؟
هنا فكر بيترفي بالأمر للحظة وتجهّم. ثم أخيراً، وضع ملعقته، وقال: "يجب أن أعترف، هناك انجراف في هذا الرأي". واستسلم قائلاً بحسرة وبسمة مكتومة: "أنا حقاً لا يعجبني ذلك!".