حين كانت ميغ ويتمان تقيم في كاليفورنيا وتدير "إي باي" ثمّ "إتش بي"، قلّما كان يتبادر لها أن تلعب أفريقيا دوراً في تلك الشركتين، قالت: "لم تستحوذ أفريقيا على أكثر من 1% من تفكيري".
يشيع تغافل أفريقيا بين الشركات الأميركية، فهي عموماً تعتبر أن لا جدوى من إقامة عمليات واسعة فيها نظراً لعدم استقرار حكوماتها وتقلب أنظمتها الضريبية وضعف بنيتها التحتية الرقمية. لكن تغيير هذه النظرة أصبح من أولويات ويتمان، التي تسعى بصفتها سفيرة الولايات المتحدة في كينيا إلى مساعدة واشنطن على اللحاق بالركب في مجال بات جبهة مواجهة رئيسية في التنافس التقني المحتدم مع بكين.
قالت ويتمان، متحدثةً من مقرّ السفارة الأميركية في نيروبي، الذي يمتد على مساحة واسعة في ضاحية جيغيري الراقية، إن "التواجد هو نصف المعركة، ولا أعتقد أن أميركا كانت حاضرة بما يكفي خلال السنوات العشرين الماضية. لقد تركنا الساحة للصين".
هيمنة "هواوي"
إن شركة "هواوي" هي الذراع الرئيسي للنفوذ التقني الصيني، وكانت قد عملت بجهد طوال السنوات الماضية من أجل بناء شراكات مع الحكومات الأفريقية.
في كينيا مثلاً، أسهمت "هواوي" في تطوير قطاع شبكات الاتصالات والإنترنت، كما أقامت شبكة واسعة من كاميرات المراقبة ومدينة صناعية جديدة تحتضن قطاع التقنية، حتى أنها أسهمت في بعض الأحيان في تمويل هذه المشاريع.
تلعب الشركة أيضاً دوراً محورياً في ما يسمى "طريق الحرير الرقمي"، وهو مشروع صيني طويل الأمد يهدف لنشر التقنية والنفوذ الصيني في أفريقيا ودول جنوب العالم.
حين عيّن الرئيس بايدن ويتمان سفيرة للولايات المتحدة في كينيا نهاية 2021، كانت واشنطن قد بدأت تمهّد لمواجهة التمدد الصيني. في 2019، أطلقت إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب شركة "إنترناشيونال ديفيلوبمنت فينانس" المكلفة بتقديم قروض استراتيجية في الخارج. في العام التالي، تعهدت الشركة بتخصيص 300 مليون دولار لشبكة "مراكز البيانات الأفريقية" التي تنشط في مجال البرمجيات ومقرّها جوهانسبرغ لإقامة مشاريع في كينيا وجنوب أفريقيا.
وقد استثمرت الشركة منذ حينها 11 مليار دولار في مشاريع في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، ومن ذلك مساهمة استثمارية قدرها 225 مليون دولار في الشركة الأم لشبكة "مراكز البيانات الأفريقية" بهدف بناء كابلات ألياف ضوئية تخدم مراكز بيانات في سبع دول.
كما قدمت وكالة التجارة والتنمية الأميركية منحاً إلى 15 مشروعاً رقمياً في أفريقيا منذ باشرت مسعاها الخاص في هذا المجال في ديسمبر 2022. قالت ليزا كوبيه، المديرة العليا لشؤون أفريقيا جنوب الصحراء في الوكالة: "هدفنا هو المساعدة في دعم ساحة تتكافأ فيها فرص الصناعات الأميركية".
إقبال الشركات الخاصة الأميركية
ازدادت استثمارات القطاع الخاص الأميركي في مشاريع كانت تمولها "هواوي" وغيرها من الكيانات الصينية عادةً، ومن ذلك معامل كابلات الألياف البصرية وأشباه الموصلات. وفي مايو، أعلنت شركة "مايكروسوفت" عن التزام قدره مليار دولار تجاه كينيا، يتضمّن مركز بيانات ضخم تعمل على بنائه قرب نيروبي بالتعاون مع مجموعة "جي 42" (G42) التي تتخذ من أبوظبي مقراً لها.
قالت ويتمان إن إنشاء المشروع، الذي صُمم لدعم الحوسبة المتقدمة المرتبطة بنماذج الذكاء الاصطناعي الضخمة، قد بدأ، لكن لم يُعلن بعد عن موعد محدد لاستكماله. كما أعلنت كلّ من "جوجل" و"أمازون" و"أوراكل"عن خطط للتوسع في كينيا هذا العام.
في غضون ذلك، تحثّ ويتمان الحكومة الكينية على تبني تغيير في سياساتها، لتصبح أكثر جاذبية لعمالقة التقنية الأميركية. في 2023، أثمرت جهودها عن إلغاء ضريبة الأرباح غير المحققة على خيارات الأسهم، وإلغاء شرط يفرض أن تكون نسبة الملكية المحلية في شركات التقنية 30% كحد أدنى.
ذكر مسؤول في "إنترناشيونال ديفيلوبمنت فينانس" أنها تشترط على المستفيدين التعاون مع "شركاء عقليتهم متوافقة معهم"، فيما قالت ويتمان إن المشاريع التي تحظى بدعم أميركي لا يمكن أن تعتمد على البنية التحتية الصينية.
لكن في ظلّ الحساسيات الجيوسياسية، يتجنب المسؤولون الأميركيون الحديث علناً عن أهدافهم. مثلاً، أثنى البيت الأبيض في بيان في مايو على صفقة "مايكروسوفت" في كينيا، وجاءت في البيان فقرة تناولت إمكانية ابتعاد البلاد عن المرافق "التي تملكها (هواوي)"، وفق النسخة المستخلصة من أرشيف صفحته. لكن البيان عُدل بعد بضع ساعات ليشير فقط إلى تفضيل الولايات المتحدة "موردين موثوقين" دون تحديد هويتهم.
تحاجج حكومة الصين بأنها ليست من يسيّس الأمور في أفريقيا. وصرح متحدث باسم وزارة الخارجية الصينية في بيان أن "منطلق التعاون بين الصين وأفريقيا لطالما هدف إلى دعم التنمية الأفريقية وتعزيز رفاهية شعوب الصين وأفريقيا"، مشدداً على أنه "لا يجب أن تصبح أفريقيا ساحة للمنافسة بين القوى الكبرى".
ما بعد الانتخابات الأميركية
بدأت التوترات في مجال التقنية تتصاعد بين الولايات المتحدة والصين في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب، مع فرض إدارته قيوداً على شركات صينية مثل "هواوي" و"زد تي إي" (ZTE)، ما حدّ من وصولها إلى العملاء الأميركيين وإلى التقنية الأميركية أيضاً. في 2020، صنفت الولايات المتحدة الشركتين على أنهما تشكلان تهديداً للأمن القومي وأمرت شركات الاتصالات بإزالة معدات "هواوي" من شبكاتها.
لم تكن إدارة بايدن أقل شراسة في المواجهة مع الصين، فقد ضخت استثمارات كبرى في تطوير صناعة أشباه الموصلات الأميركية، فيما اعتمدت على حلفائها لمنع الشركات الصينية من تطوير الرقاقات الأكثر تقدماً في العالم أو الحصول عليها.
مع دنو الانتخابات الأميركية، لم يتضح بعد ما إذا كانت ويتمان ستكمل أمد خدمتها كسفيرة وهو ثلاثة أعوام، فلربما تستقيل إن نجح ترمب، وهي عادة الدبلوماسيين المعيّنين سياسياً عند تغيير الإدارة في واشنطن. وليس معلوماً أثر ذلك على مستقبل المساعي الأميركية في أفريقيا، إذ يُرجح أن يكون ترمب متشدداً في تعامله مع الصين، لكنه لم يعر أفريقيا اهتماماً يذكر خلال ولايته الأولى.
في غضون ذلك، تسعى ويتمان إلى تعزيز حضور أفريقيا في وادي السليكون. وكانت قد رافقت الرئيس الكيني ويليام روتو في أول زيارة له إلى هناك في الخريف الماضي، حيث التقيا برؤساء كلّ من "أبل" و"جوجل" و"إنتل" للتسويق لكينيا كبديل للتوسع في آسيا، مشيرين إلى أنها تتمتع بمجتمع شاب سريع النموّ وإلى وفرة الطاقة النظيفة فيها.
قالت ويتمان: "رسالتي إلى الشركات الأميركية هي أنكم على الأرجح ترغبون في تنويع سلاسل إمدادكم، وأشجعكم على التفكير بالدول الأفريقية". كما حاول مسؤولون أميركيون جذب شركات تقنية أوروبية مثل "إريكسون" و"نوكيا" إلى أفريقيا كي تتنافس مع "هواوي".
ترسخ "هواوي" في أفريقيا
على الرغم من أن عدة شركات تقنية أميركية كبيرة قد أعلنت عن استثمارات جديدة أو توظيف مزيد من العاملين في كينيا، تدرك ويتمان أن القارة ما تزال بعيدة عن تصدر أولويات الشركات. فحتى تلك التي تدخل السوق الأفريقية، سيتحتم عليها التنافس مع "هواوي" المترسخة في القارة والمهيئة جيداً للدفاع عن مكانتها.
فما إن تسمع الشركة عن اهتمام أميركي بمشروع بنية تحتية في أفريقيا، حتى يسارع عملاء مبيعاتها بتقديم رحلات مجانية إلى أحد مراكز أعمالها في دبي ليقتنصوا العقد، بحسب ما أفاد به شخص مطلع على هذه الممارسة، وقد طلب عدم كشف اسمه لدى تطرقه لمسألة خاصة بالشركة.
على عكس شركات مثل "إريكسون" و"مايكروسوفت"، تقدم "هواوي" حلولاً تقنية شاملةً، بدءاً من مسارات الاتصالات إلى الحوسبة السحابية وحتى تجهيزات المدن الذكية.
قال هيث أندرسين، الاستشاري في مركز بيانات في جنوب أفريقيا "تقدم (هواوي) رعاية شاملة، كما يسهل التعامل معها وأسعارها تنافسية".
استضاف رئيس الصين شي جين بينغ قمة للقادة الأفارقة في مطلع سبتمبر، أكّد خلالها على تعميق روابط بلاده السياسية مع القارة، وتعهد بإنفاق 50 مليار دولار فيها. على هامش الحدث، أعلنت كل من إثيوبيا وغينيا ومالاوي ونيجيريا عن شراكات مع "هواوي". وقد رفض متحدث باسم الشركة التعليق.
الذكاء الاصطناعي يولد فرصاً لأفريقيا
قبل عصر الذكاء الاصطناعي، لم تكن أفريقيا موقعاً جذاباً لإنشاء بنية تحتية للإنترنت تخدم أسواقاً خارج القارة، إذ أن تقليص الوقت اللازم لانتقال البيانات أولوية بالنسبة لخدمات مثل الرسائل وتصفح مواقع الإنترنت، ما يستدعي إنشاء مراكز بيانات على مقربة من العملاء.
لكن فيما يخصّ الذكاء الاصطناعي، فإن الحمل الأكبر هو تدريب النماذج الضخمة، وفيه توفر كهرباء بأسعار رخيصة أهم من سرعة انتقال البيانات. قال بروكس واشنطن، الرئيس التنفيذي لشركة "روها غروب" (Roha Group) الاستثمارية في كينيا: "تملك أفريقيا الكثير من الطاقة الكهربائية، وفي معظم الأحيان هي طاقة متجددة ورخيصة".
في ظلّ هذا السباق العالمي لإنشاء مراكز للبيانات، قد ترى الشركات الأميركية أفقاً هاماً في أفريقيا، وترى ويتمان في ذلك فرصة للحاق بالصين المتقدمة على الولايات المتحدة بأشواط في القارة.
قالت: "الخبر السار نسبياً هو أن بنية (هواوي) التحتية أصبحت قديمة اليوم... ما يعني أن ثمة دورة تجديد مقبلة، ستكون أميركا قادرة على التنافس من أجلها".