يعلو في معمل روبانا حق لصناعة الملابس أزيز المكاوي البخارية وحفيف المراوح وصليل المقصّات دون توقف، وفي تلك المنشأة الضخمة قرب داكا تدأب مئات النسوة على آلات الخياطة ليصنعن ملابس لصالح شركات مثل "إتش آند إم" و"بيبي جينز" و"برايمارك"، فيما تتابع لوحة رقمية مستوى الإنتاجية بدقة متناهية، وتحتسب نسبة العيوب بكسور الأعداد.
يستحضر المشهد استراتيجية نمو تبنتها عشرات الدول على مرّ العقود الماضية، إذ وظّفت المعامل جيوشاً من العمال لأجل إنتاج سلع موجهة للتصدير، مقابل أجور قد تكون منخفضة وفقاً للمعايير الغربية، ولكنها سخية نسبياً مقارنة بالأجور المحلية.
أسهم هذا النموذج الاقتصادي في تضاعف حجم اقتصاد بنغلاديش ثلاث مرات، وحوّل مزارعي الكفاف إلى عمال خياطة لصالح شركات من "أديداس" إلى "زارا"، في واحدة من "أعظم قصص النمو الاقتصادي" في زماننا، بحسب تعبير البنك الدولي.
لكن حق التي ترأس مجموعة "محمدي" العائلية، حذرت من أن هذا النموذج بدأ يتداعى. فقد استقدمت قبل بضع سنوات مئات آلات نسج قماش الجاكار وتجهيزات أخرى من الصين وألمانيا، ما مكّنها من الاستغناء عن 3 آلاف وظيفة، أي ما يوازي نحو ثلث طاقم العمل. وعلى الرغم من أن أولئك العمال تمكنوا من الانتقال إلى وظائف أخرى في الشركة، إلا أن القلق يراودها حيال المستقبل.
يخطط ما يصل إلى 80% من المعامل في بنغلاديش لشراء آلات لأتمتة العمل بين 2023 و2025، وتتيح كل واحدة من هذه الآلات الاستغناء عن ما يصل إلى ستة عمال، بحسب دراسة صادرة عن الشركة البحثية "شيمي تكنولوجيز" (Shimmy Technologies). وقالت حق: "عند تبني الأتمتة على نطاق واسع، فإن الاستغناء عن العمال سيطرح تحدياً كبيراً أمام بنغلاديش".
دفع انهيار الاتحاد السوفييتي وتأسيس منظمة التجارة العالمية العالم نحو التركيز على التصنيع الموجّه للتصدير، بدل الاعتماد على الصناعة المحلية المحمية بالتعرفة الجمركية، على اعتباره المسار الأمثل لتحقيق تنمية مستدامة. وقد أسهمت هذه الاستراتيجية في انتشال مئات ملايين البشر من براثن الفقر، خاصة في الصين، وكانت انطلاقةً لحقبة نمو مبهر.
لكن تراجعت قدرة هذا النموذج على تحقيق التوسع الاقتصادي الذي تحتاجه الدول الفقيرة لرفع مستوى معيشة شعوبها. ومع انتشار الأتمتة، ارتفع عدد الروبوتات في المصانع حول العالم بأكثر من ثلاثة أضعاف بين 2012 و2022، وقد كانت معظم هذه الزيادة في دول نامية.
كما تصدعت سلاسل الإمداد بسبب الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط، فيما تواجه إثيوبيا وباكستان وغيرها من الدول المثقلة بالديون خطر التخلف عن السداد في ظل ارتفاع معدلات التضخم وزيادة أسعار الفائدة في أعقاب الجائحة. كما أن التوتر المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين يعيد رسم أنماط التبادلات التجارية وتدفع نحو تبني سياسات حمائية.
حصة الأسد للصين
تراجعت اليوم حصة الصناعة من الناتج الاقتصادي العالمي مقارنة بما كانت عليه قبل عقدين. إذ تسهم الصين بنحو ثلث إنتاج السلع، فيما تسهم كل من الولايات المتحدة واليابان والمكسيك وألمانيا مجتمعةً بنحو 45% من الإنتاج، ولا يترك ذلك مساحة كافية للدول الأخرى لتدخل السوق.
برغم تعاظم ثراء الصين، فهي ما تزال تركز على الصناعة، فيما لم تتخذ ما يكفي من خطوات لتعزيز الاستهلاك، بالتالي يُستبعد أن يبدأ نحو 1.4 مليار صيني بشراء مزيد من المنتجات المستوردة من دول أخرى في المستقبل القريب. قال ريتشارد بالدوين، الخبير الاقتصادي في كلية "أي إم دي" لإدارة الأعمال في سويسرا: "لم تعد السوق كما كانت عليه في السابق، والصين سبقت الجميع إليه".
لم يظهر بعد أي بديل واضح يمكن أن تعتمده الدول النامية الساعية للثراء. فتلك التي تبلي بلاءً حسناً نسبياً، مثل رومانيا تستفيد من مزايا مثل وجود سوق كبيرة وتوفّر الموارد بضرائب منخفضة وتنوع قاعدتها الصناعية.
بعد فترة طويلة من العولمة المتسارعة، دخلنا اليوم حقبة تباطؤ. لقد سجلت الدول الناشئة والنامية بين 1995 و2008 متوسط نموّ اقتصادي يقارب 10%، بحسب بلومبرغ إكونوميكس. لكن بعد الأزمة المالية في الولايات المتحدة، تراجعت وتيرة توسع الأسواق الناشئة إلى النصف. وفيما بلغت نسبة الصادرات نحو 30% من الناتج الإجمالي المحلي العالمي في 2017، مقارنة مع 18.8% في 1991، تباطأ هذا المسار في السنوات الماضية، حيث سجلت الصادرات 29.3% من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية 2023.
إخفاق التجربة الإثيوبية
أظهر تحليل "بلومبرغ إكونوميكس" الذي شمل 85 من الدول الأقلّ نمواً أن نحو 75% منها، وهي اقتصادات يبلغ مجموع إنتاجها 25 تريليون دولار، يُستبعد أن تستفيد أكثر من التصنيع الموجّه للتصدير.
تقع معظم هذه الدول في أفريقيا، خاصة في الأرجاء التي تعاني من ارتفاع معدلات الأمية وانقطاع الكهرباء وسوء الإدارة، وهي عوامل تعرقل التحول نحو المجالات المرشحة للنمو، مثل قطاع الخدمات، ويعني هذا أن كثيراً من هذه الدول قد تتخلف عن السباق. قال الخبير الاقتصادي في جامعة هارفرد داني رودريك: "أخشى أن كثيراً من الدول النامية لن تتمكن من الانتقال نحو النموذج الجديد".
يوضح المثال الإثيوبي كيف تسبب النزاعات الأهلية وسوء الإدارة في تعثّر الدول الواعدة. كانت إثيوبيا على امتداد العقد الثاني من الألفية مرشحة أفريقيا الأقوى لتكرار النجاح القائم على الصادرات الذي حققته دول مثل كوريا الجنوبية أو فيتنام.
حتى أن المنتدى الاقتصادي العالمي وصف إثيوبيا بـ"محرك النمو الجديد" للقارة، وسجلت خلال الفترة بين 2002 و2017 أحد أسرع معدلات النمو السنوي في العالم، بمتوسط يقارب 11%، مستفيدة من إعفاء جمركي في السوق الأميركية وانخفاض كلفة اليد العاملة، إذ يتقاضى عامل نسيج أثيوبي ثلث ما يجنيه عامل كيني لقاء العمل نفسه.
إلا أن الاستثمارات الضخمة في الطرق والقطارات والمطارات أسفرت عن دين عام تصعب خدمته وتضخم جامح وسلسلة مشاريع فاشلة. وبلغت ديون إثيوبيا 7 مليارات دولار من الصين، التي مولّت 70 مشروعاً ضخماً، منها مشروع خط سكة حديدية باهظ التكلفة يربط أثيوبيا مع جيبوتي.
قبل عقد، سُوّق لنظام سكك الحديد الخفيفة الذي بُني بأموال صينية على أنه حل عصري لمشكلات الازدحام في أديس أبابا. لكن اليوم، لا تعمل سوى ثلث القطارات، فيما تتكرر الأعطال بشكل روتيني، أمّا عدد الركاب فلا يكاد يتجاوز نسبة بسيطة ممّا كان مأمولاً.
عند انتخاب آبي أحمد رئيساً للوزراء في 2018، اعتقد كثيرون أن الرجل التكنوقراطي سيوجه السفينة إلى بر النجاة، لكن سرعان ما تحطمت هذه الآمال. في 2020، اندلعت حرب بين المجموعات الإثنية في منطقة تيغراي المضطربة وضرب ذلك اقتصاد البلاد.
سحب المانحون الأجانب مليارات الدولارات من البلاد، وألغت الولايات المتحدة الإعفاء الجمركي للسلع الأثيوبية. وفي العام الماضي، أوقفت نحو 450 شركة صناعية من أصل نحو 5000 أنشطتها بسبب الحرب. حتى الصين، أكبر مقرضي إثيوبيا، حدّت من دعمها، وغادرت شركات الملابس البلاد نتيجة الاضطرابات الأهلية والتقلبات الاقتصادية وتباين التوقعات الثقافية في مكان العمل. قال كوبوس فان ستادين، من مجموعة "تشاينا غلوبال ساوث بروجكت" (China Global South Project) البحثية إن "النموذج الصيني للتمدن المدفوع بالعمل في المصانع لم ينجح تماماً في إثيوبيا".
حتى بنغلاديش، التي كانت ثاني أفقر دولة على وجه الأرض في سبعينيات القرن الماضي وتحولت إلى دولة دخلها في نطاق أدنى المتوسط اليوم، تعاني هي الأخرى. بعد أن كانت على وشك التخلص من تصنيف الأمم المتحدة لها كإحدى الدول الأقل نمواً، شهدت البلاد اضطرابات سياسية أخيراً شهدت خلالها حظراً للتجول امتد لأسابيع وتظاهرات انتهت بفرار أعضاء الحكومة في 5 أغسطس، فزادت الشكوك بشأن إمكانية تحقيق هدفها.
ويخشى مصدرو الملابس من تراجع كبير في المبيعات هذا العام، فيما تقول حق إن بعض العلامات التجارية المتخصصة بالملابس تسرّع خططها للخروج من بنغلاديش نهائياً. أضافت: "أبلغتني علامات تجارية عدة أنها ستنقل أقله 25% من أعمالها إلى خارج البلاد بحلول عيد الميلاد، وهذا أمر مقلق".
اتساع سياسات الحمائية
فاقمت الجائحة وما رافقها من تضخم وارتفاع في أسعار الفائدة الصعوبات التي تواجهها هذه الدول الناشئة. ومع تردّد المستثمرين في إقراض الأسواق الناشئة، كان الإفلاس مصير بعض الدول الواعدة مثل سريلانكا، ما دفع البنك الدولي للتحذير من "عقد ضائع".
ارتفع الدين العام الذي يثقل كاهل الدول الناشئة اليوم إلى 29 تريليون دولار، مقارنة مع 12 تريليون قبل عقد، في ظل تزايد عدد الدول التي تواجه خطر التخلف عن السداد أو تطلب مساعدات مالية من المقرضين الدوليين.
وافق صندوق النقد الدولي العام الماضي على قروض بقيمة 5.7 مليار دولار للدول الفقيرة، بواقع نحو أربعة أضعاف المتوسط السنوي في حقبة ما قبل الجائحة.
ودفعت زيادة التوتر بين بكين وواشنطن، وما يصاحبها من إعادة رسم للنظام العالمي، نحو تعزيز إجراءات الحمائية المحلية حتى بين المدافعين السابقين عن التجارة الحرة. وفي السنوات الماضية، زادت الولايات المتحدة الرسوم الجمركية على الواردات الصينية ستة أضعاف لتصل إلى 19.3%، وردّت الصين بفرض قيود. وقد تعهد الرئيس السابق دونالد ترمب بفرض المزيد من الرسوم الجمركية على الواردات الصينية إن عاد إلى سدة الرئاسة.
كما تعهدت فرنسا وألمانيا وإيطاليا في أبريل بإطلاق استجابة اقتصادية منسّقة للتعامل مع تصاعد الحمائية، لتنضم بذلك إلى دول أوروبية أخرى في تبني بعض الإجراءات مثل الدعم الموجّه والحوافز الضريبية والقيود على التجارة. على المستوى العالمي، تبنت الحكومات أكثر من 2500 إجراء مشابه، أي ثلاثة أضعاف العدد قبل خمس سنوات، بحسب صندوق النقد الدولي.
الدروس الرومانية
تقدم رومانيا نموذجاً ناجحاً للنمو الاقتصادي الذي يوفر فرص عمل على نطاق واسع. قبل انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي في 2007، كانت رومانيا ثاني أفقر دولة في القارة، ولكنها أصبحت اليوم واحدة من البقاع الأكثر إشراقاً في المنطقة، فتستضيف تجمعات لشركات البرمجيات في بوخارست وقرب مدينة ياش التاريخية المشهورة بصناعة النبيذ، التي تضم مكاتب لشركتي "أمازون" و"أوراكل".
سجلت رومانيا ازدهاراً يفوق جارتها الأغنى المجر واليونان، الدولة العضو الأصيلة في الاتحاد الأوروبي. بعد أن كان الرومانيون يصطفون أرتالاً ليحصلوا على حصص غذائية في الحقبة الشيوعية، أصبح من ينتظرون أرتالاً المهاجرون الذين يجددون تصاريح العمل بفضل ما ينعم به المواطنون اليوم من تحسن في مستوى المعيشة وارتفاع في الأجور.
اعتمدت رومانيا على مجموعة متنوعة من الصناعات مكنتها من الصمود في وجه الصدمات في سلاسل الإمداد التي كشفت عن نقاط ضعف دول أخرى، منها بنغلاديش التي تسهم الملابس في 90% من صادراتها.
تصنع شركة "داتشيا رينو" في رومانيا واحدة من طرازات السيارات الأكثر شعبية في أوروبا، كما أن رومانيا هي ثاني أكبر مصدّر للحبوب في الاتحاد الأوروبي بعد فرنسا، وتزدهر فيها صناعة الأجهزة المنزلية، وفيها منشآت إنتاج لشركات مثل "ديلونغي" (DeLonghi) وإلكترولوكس (Electrolux) و"هاير" (Haier).
قال كريستيان سبوريس، رئيس غرفة التجارة الأميركية–الرومانية، أكبر رابطة أعمال في البلاد إن "رومانيا حققت تحولاً هائلاً خلال العقود الماضية، مستفيدة ممّا تتمتع به من رأسمال بشري ماهر ومعدلات ضريبية تنافسية وسوق محلية واسعة وتوفر الموارد".
بحسب تحليل "بلومبرغ إيكونوميكس"، تُعد رومانيا من الدول المتقدمة من حيث الإمكانيات التصديرية، وهي قوية بشكل خاص في قطاع الخدمات الذي يشمل مهناً عدة، من أخصائيي التجميل والأطباء إلى من يدخلون تحسينات على السيارات ومبرمجي الكمبيوتر، ويشكل قطاع الخدمات حالياً ثلثي الناتج العالمي.
أهمية التنويع الاقتصادي
برغم ازدياد الوظائف المتوفرة في قطاع الخدمات، فإن الوظائف الأفضل غالباً ما تنحصر في مجالي التمويل والتقنية، وهي مهارات نادرة في الدول الناشئة. ومع تراجع اعتماد الاقتصاد العالمي على الصناعة، فإن كثيراً من الدول الناشئة تواجه خطر التعثر.
أظهرت دراسة لجامعة ييل عن الهند في 2023 أن المزارعين الذين انتقلوا للعمل في قطاع الخدمات، ارتفعت إنتاجيتهم وأجورهم. ولكن هذه المكاسب "غير متكافئة لدرجة صادمة"، وصبت بالأغلب لصالح السكان الحضريين، بحسب الباحثين.
مع تباطؤ الاقتصاد العالمي، يبدو اتباع نهج يستند إلى التنويع الاقتصادي الخيار الأفضل لتحقيق النمو، أي ذلك الذي يجمع ما بين التصنيع والخدمات والسياسات الحمائية.
لكن التوسع الاقتصادي السريع الذي دفع هذا النمو في الماضي، سصبح نادراً. قال راغورام راجان، محافظ بنك الاحتياطي الهندي السابق: "على الأرجح، أصبح صعود الدرج أصعب ممّا كان قبلاً".