مع بيع أكبر الأعمال المتبقية لدى شركة جنرال إلكتريك بقيمة 30 مليار دولار، التي كانت مهيمنة بمجالها في السابق، فإن الشركة تراهن على أن توليد الطاقة النظيفة وصناعة الطيران سيكونان أكثر استقراراً من الناحية المالية.
على الرغم من كونها أيقونة صناعية أسّسها توماس إديسون، فإن شركة "جنرال إلكتريك" قد تحولت قبل عقد من الزمن إلى شركة خدمات مالية ضخمة أكبر من معظم البنوك الأمريكية. صاحَبَ هذا التحول شبكة معقدة للغاية من الأعمال، المحاسبة المبهمة، والمخاطر المالية التي استمرت لسنوات. لذلك عندما أعلن الرئيس التنفيذي لاري كولب في العاشر من مارس عن صفقة بقيمة 30 مليار دولار من أجل تفريغ أعمال تأجير الطائرات لشركة جنرال إلكتريك، أعادت هذه الخطوة شيئاً غاب طويلاً عن الشركة، هو البساطة.
كانت شركة "جنرال إلكتريك" لخدمات الطيران، التي تؤجّر الطائرات، أو كما تُعرف بـ"جيكاس"، أكبر الشركات المتبقية في تكتُّل "جنرال إلكتريك"، وهي شركة للخدمات المالية كانت مترامية الأطراف، وبلغت قيمة أصولها في عام 2010 أكثر من 600 مليار دولار. بعد إنهاء بيع الوحدة للشركة الأيرلندية المنافسة "إير كاب هولدينغز إن ڤي"، تخطط "جنرال إلكتريك" بعد عام من الآن لتحويل ما تقول إنه لا يتجاوز 21 مليار دولار من أصول جنرال إلكتريك كابيتال" المتبقية إلى ميزانيتها العمومية الصناعية. وسوف تتوقف أيضاً عن الإبلاغ عن نتائج الخدمات المالية والصناعية والمشتركة لشركة "جنرال إلكتريك" بشكل منفصل، وسوف يؤدي هذا إلى تبسيط التقارير المالية المعقدة التي أثارت الانتقادات بأن المشكلات قد تكمن -وفي بعض الأحيان كانت كامنة- في بيانات المحاسبة قبل أن تكشف عن نفسها.
يقول كولب: "لهذا السبب أقول إن هذا يمثّل تحولاً كبيراً لنا. لقد وصل بنا الأمر إلى أن نتمحور حول مجالاتنا الأربعة الأساسية. لن نتكلم حول المضيّ قدماً في رأس المال".
الهيكلة المالية
تخطط "جنرال إلكتريك" لاستخدام عائدات الصفقة، التي تشمل 24 مليار دولار نقداً وحصة بنسبة 46% في "إيركاب" بقيمة 6 مليارات دولار، إلى جانب مليار دولار إضافي عند إتمام الصفقة، من أجل المساعدة على دفع 30 مليار دولار أخرى من عبء الديون المتضخم للشركة. سيؤدي هذا إلى تخفيض الديون الإجمالية إلى نحو 70 مليار دولار، الذي يُعتبر أولوية لـ"كولب" منذ تولّيه منصب الرئيس التنفيذي في عام 2018. هذه الخطوات مجتمعةً ستعمل على إعادة توجيه "جنرال إلكتريك" حول عملياتها الصناعية، وبشكل أساسي صنع وخدمة معدات محطات التوليد الغازية والماسحات الضوئية الطبية وتوربينات الرياح والمحركات النفاثة.
وذكر ماركوس ميترماير في مذكرة العميل، وهو محلل لدى يو بي إس"، أن هذه التحركات "ستعمل على تبسيط التقارير لا إعدادها فحسب، بل أيضاً قدرة إدارة "جنرال إلكتريك" على التركيز على صناعة الأشياء مرة أخرى".
إن السير نحو البساطة لا يخلو من المخاطر. قد يُخفَض التصنيف الائتماني لشركة "جنرال إلكتريك"، وذلك لأن الدَّين الخاص بها في الميزانية العمومية الصناعية سوف يرتفع إلى نحو 70 مليار دولار بعد إتمام صفقة "إيركاب". تقول كارولينا ديبيك هابي، وهي المديرة المالية لشركة "جنرال إلكتريك"، إن الشركة تخطط لإعادة شراء 25 مليار دولار من سنداتها بعد البيع بهدف الوصول إلى دَين أقلّ من 45 مليار دولار بحلول عام 2023. أعرب ستيف توسا، وهو محلل في شركة "جي بي مورغان وشركائه"، بالإضافة إلى أنه عمل محللاً لدى "جنرال إلكتريك" لفترة طويلة، عن قلقه بشأن تأثير الصفقة على عبء ديون الشركة في مذكرة العملاء قائلاً: "إننا نرى هبوطاً حادّاً من هنا" لأسهم "جنرال إلكتريك".
إن التحول الذي يقوده كولب في "جنرال إلكتريك" لا يزال عملاً قيد التنفيذ، إذ تواجه الوحدات الصناعية للشركة عديداً من التحديات. يعاني السفر الجوي الركود، وسوف يبقى دون مستويات ما قبل الجائحة لسنوات، مما يعوق وحدة المحركات النفاثة الخاصة بشركة "جنرال إلكتريك"، كما تتوقع الشركة تراجعاً في الإيرادات هذا العام أيضاً في أعمال توربينات الطاقة الغازية وسط التحول نحو مصادر الطاقة المتجددة من أجل الوصول إلى أهداف تخفيض مستوى انبعاثات الكربون.
قطاع الطيران
"جنرال إلكتريك" للطيران، وهي أكبر أعمال الشركة الصناعية إذ بلغت عائداتها العام الماضي 22 مليار دولار -كانت أكثر أقسامها تحقيقاً للأرباح عبر التاريخ- تعرّضت لأضرار بالغة بسبب الوباء، لأن الشركات وقفت عمل الطائرات وقطعت الرحلات. تتوقع شركة "جنرال إلكتريك" أن تتحسن إيراداتها وهوامش ربحها في عام 2021 عندما يبدأ تعافي السفر الجوي، غير أن معظم هذا التحسن لن يأتي قبل النصف الثاني من العام.
مع ذلك يقول جون سلاتري، الرئيس التنفيذي لشركة "جنرال إلكتريك للطيران"، إن الوحدة سوف تواصل الاستثمار في الجيل الجديد من المحركات النفاثة، فيما تواجه الصناعة ضغطاً متزايداً لتقليل انبعاثات الكربون. تخطط الشركة لإنفاق 1.8 مليار دولار على جهود البحث والتطوير في هذا العام، بما يتماشى مع مستويات عام 2020، في محاولة لتطوير محرك من الجيل الجديد للطائرات ذات الممر الواحد، بما يوفر انخفاضاً بنسبة 20% في حرق الوقود المقارنة بأحدث المحركات التي تصنعها شركة "سي إف إم العالمية المتحدة"، وهو مشروع مشترك بين "جنرال إلكتريك" و"سافران إس آي الفرنسية".
يُعتبر ضغط مشغلات محطات التوليد لتقليل الانبعاثات أيضاً تحدياً لشركة جنرال إلكتريك للطاقة"، وهي شركة توربينات غازية توفّر معداتها ما يقارب نصف توليد الطاقة الغازية في العالم. تتعافى الوحدة من انخفاض الإيرادات الناجم جزئياً عن السعة العالمية الزائدة والالتفات نحو الطاقة المتجددة. لقد أحرزَت تقدماً، وولّدَت تدفقاً نقدياً إيجابياً في عام 2020، قبل عام مما خُطّط له. وعلى الرغم من أن توربينات الغاز تُعتبر مصدراً رئيسياً لانبعاثات الكربون، فإن المسؤولين التنفيذيين في "جنرال إلكتريك" قد جادلوا بأن الغاز لا يزال وقوداً أنظف للمرافق من الفحم. يشير سكوت سترازيك، وهو الرئيس التنفيذي لشركة "جنرال إلكتريك للطاقة"، إلى أن الجيل الأخير من التوربينات الكبيرة يولّد نحو ثلث ثاني أكسيد الكربون الذي يولّده الفحم، بالإضافة إلى أنه قادر على العمل على الوقود الممزوج بالهيدروجين بنسبة 60%، مما يجعله جاذباً للأنظار بسبب عدم انبعاث ثاني أكسيد الكربون منه عند الاحتراق.
التحول المحوري
كان قسم الطاقة المتجددة نقطة محورية في تحول "جنرال إلكتريك"، إذ أصبحت الاستفادة من الرياح جزءاً أكبر من قطاع توليد الطاقة العالمي، ووفقاً لـ"بلومبرغ" لتمويل الطاقة الجديدة فإن "جنرال إلكتريك" تجاوزت شركة "فيستاس ويند سيستمز آي/إس" الدنماركية باعتبارها أكبر منتج للتوربينات في 2020. تتوقع "جنرال إلكتريك" أن يبدأ هذا القسم -الذي تكبد ما يقارب 1.5 مليار دولار من الخسائر المجتمعة خلال العامين الماضيين- في جني المال هذا العام وتحقيق الأرباح في 2022 بالتزامن مع تكثيف إنشاء توربينات الرياح البحرية الضخمة. من المتوقع أن تنمو هذه السوق بسرعة في السنوات المقبلة، وتتوقع "جنرال إلكتريك" أن تنتج معدات الرياح البحرية 3 مليارات دولار من الإيرادات الإضافية بحلول 2024.
بنى الرئيس التنفيذي السابق جاك ويلش "جنرال إلكتريك كابيتال" كأحد أكبر بنوك وول ستريت، إذ قدّمت كل شيء بدءاً من البطاقات الائتمانية إلى قروض العقارات التجارية إلى التأمين على الحيوانات الأليفة. في ذروتها مثّلَت ما يقارب نصف مبيعات "جنرال إلكتريك" وأرباحها. غير أن التصدعات بدأت تظهر عندما تولى جيفري إيميلت زمام الأمور عام 2001، حين كادت وحدة الإقراض تُغرِق الشركة الصناعية الأم خلال الأزمة المالية العالمية في 2008.
بدأ إيميلت تقليص "جنرال إلكتريك كابيتال" في السنوات التالية، إذ اندفع في عام 2015 نحو خطة لتفريغ أكثر من نصف أصول جنرال إلكتريك كابيتال مع الاحتفاظ فقط بالشركات التي دعمت عمليات التصنيع الخاصة بـ"جنرال إلكتريك". غير أنه في بداية عام 2018، بعد فترة قصيرة من تولّي جون فلانيري الرئاسة التنفيذية للشركة، صدمت جنرال إلكتريك المستثمرين عندما كشفت عن نقص بقيمة 15 مليار دولار من الاحتياطات في محفظة قديمة من عقود التأمين على الرعاية طويلة الأجل التي تدهورت بشدة، وهذا تذكير بالمخاطر الكامنة في "جنرال إلكتريك كابيتال". دفعت هذه الأخبار منظّمي الأوراق المالية في الولايات المتحدة إلى إجراء تحقيق أسفر عن تسوية في شهر ديسمبر، إذ وافقت "جنرال إلكتريك" على دفع غرامة قدرها 200 مليون دولار بلا اعتراف بالمخالفات أو إنكارها.
الأنشطة المتبقية
بعض بقايا "جنرال إلكتريك كابيتال" سيبقى مع الشركة بعد صفقة "إيركاب". على سبيل المثال، سوف تحتفظ جنرال إلكتريك بمحفظة التأمين، التي كانت تحتوي على أصول بقيمة 50 مليار دولار في نهاية 2020؛ تراجعت أهمية الملكيات مؤخراً، ويعود الفضل في ذلك جزئياً إلى ارتفاع أسعار الفائدة. قال كولب للمحللين إنه إذا أبدى مشترٍ محتمَل اهتمامه، فإن "جنرال إلكتريك" "سوف تستقبل هذه المحادثات".
حالياً، ينصبّ تركيزه الرئيسي على إدارة الديون مع زيادة الإيرادات وسط انتعاش الاقتصاد بعد الوباء واستمرار ثورة الطاقة النظيفة، وهو أمرٌ محتمَل كما يقول بعض المحللين. وكما أشارت المحللتان في "بلومبرغ إنتلجنس" كارين أوبلهارت وكريستينا كونستانتينو في مذكرة في السادس عشر من مارس، فإنه "مع تحول (جنرال إلكتريك) إلى استثمارات النمو والإيرادات الداخلية بعد سنوات من تمكين المحفظة وإصلاح الميزانية العمومية، نعتقد أن الرياح التي تعصف بالسوق المتأثرة بتغير المناخ يمكنها أن تعزّز المكاسب طويلة الأجل في حصة السوق". على الأقلّ فإن وجود "جنرال إلكتريك كابيتال" في الماضي يريح كولب من القلق حيال مشكلة واحدة على الأقل.
منذ عقد من الزمن، كان لدى "جنرال إلكتريك كابيتال" أكثر من 600 مليار دولار من الأصول المالية، وبعد أن تبيع الشركة الأم وحدة تأجير الطائرات الخاصة بها فإن أصول خدماتها المالية سوف تنخفض إلى 21 مليار دولار.