على طاولة صغيرة في متجر تجزئة بواجهة فارغة في مدينة بالتيمور، تتأمل نيكول فوستر، وزوجها دوايت كامبل، مخططات المهندس المعماري إيفان ويفيل لمقر عملهما. ولعدة لسنوات، صنّعت فوستر وزوجها الآيس كريم النباتي بدءاً من الصفر لأطفالهما الذين لا يتحّملون اللاكتوز، ليروق المنتج بعد ذلك مذاق الجمهور أيضاً ويصبح مشروعهما القادم. ولكن هل يمكن لشركة "كاجو كريميري" (Cajou Creamery) أن تقلّص مساحة الإنتاج والمقهى إلى 700 قدم مربع؟ كان المهندس المعماري يبذل قصارى جهده، فقد أمضى ويفيل، على حد قوله، بعض الوقت في روما عندما كان يدرس بالكلية، وكانت المقاهي الضيّقة تتكون من ثلاثة أو أربعة مقاعد فقط. كان ذلك ملهماً حقاً، إلى جانب ندرة المساحة المتوافرة هناك.
وتُلقِي أشعة الشمس المنعكسة على نوافذ مبنى شاغر قريب بظلالها المضيئة على المخطّطات، تماماً مثلما تضيء دائماً مدينة بالتيمور وهي واقفة على أعتاب الانتعاش، مما شجّع فوستر وزوجها كامبل على مغادرة واشنطن العاصمة في أغسطس 2018، لكي يستفيدا من ازدهار قطاع المأكولات في بالتيمور. ومن خلال تأسيس "كاجو كريميري" في المدينة ذات الأغلبية السوداء التي تتمتّع بحسّ مجتمعي عالٍ، يأمل الزوجان بناء أكثر من مجرد عمل تجاري. فلم تنسَ فوستر، وهي محامية دفاع جنائي سابقة، التحديات التي يواجهها الأشخاص بعد الحبس، لهذا فهي ترغب في توظيف السجناء العائدين، لأنه "إذا ارتقت الشركة، نريد أن يرتقي معها الآخرون"، على حد قولها.
طاولة بالتيمور المستديرة للديمقراطية الاقتصادية
وقد يعني الارتقاء مع الآخرين في نهاية المطاف، إعادة التفكير في كيفية جمع الشركة الأموال وتوزيع الأرباح، وأيضاً تحديد متخذي القرارات.
ومن هذا المنطلق، تحدثت فوستر وكامبل أيضاً مع طاولة بالتيمور المستديرة للديمقراطية الاقتصادية "بريد" (BRED)، التي توفر التمويل والمساعدة الفنية للتعاونيات الناشئة التي يملكها العاملون. وفي هذا النوع من الملكية، يمتلك الموظفون الحصة والصوت للتعبير عن رأيهم في حوكمة الشركات.
ويبدو أن التعاونيات تأسست لأوقات مثل هذه في بعض النواحي، فعندما التقى الزوجان المهندس المعماري، كان وباء كورونا أدّى إلى تجميد الاقتصاد العالمي، وكانت الحياة محفوفة بالمخاطر خصوصاً للعاملين في الشركات الصغيرة. ويمكن لتعاونيات الموظفين منح العاملين صوتاً في مواجهة عمليات التسريح الجماعي والمخاطر الصحية الوخيمة في الوظيفة، ولكن لأن التعاونيات تُعتبر نموذج عمل غير عادي، فهي أيضاً طريقة صعبة لبدء شركة ناشئة تحت ظروف ضاغطة. وهذا ما فعله الزوجان، فقد أمضى فوستر وكامبل فصلي الخريف والشتاء في محاولة معرفة الخطوات الخاصة بالشركات التعاونية التي يريدان المضيّ فيها. تقول فوستر: "نحن نعلم أننا ملتزمان أن نضمن للعاملين الحصول على حصص متساوية، ولكننا نريد حماية ما أنشأناه أيضاً".
وإذا كنت ترغب في بدء شركة تعاونية، فقد تكون بالتيمور من أفضل الأماكن في الولايات المتحدة لذلك، لأنها تملك شبكة صغيرة ولكن قوية من التعاونيات العمالية التي حظيت باهتمام على المستوى الوطني. وتُعتبر مكتبة ومقهى "ريد إيماز بوكستور كوفي هاوس" من أكثر النماذج نجاحاً، إذ تمتلك فيها كيت الخطيب، المديرة التنفيذية لـ"بريد"، حصة وتعمل فيها بنفس الوقت (عندما نشر مؤلف هذا الموضوع كتاباً في عام 2019، استضافت "ريد إيما" حلقة نقاشية عامة حوله). وتسعى "ريد إيما" جاهدة لتحقيق أقصى قدر من الديمقراطية، واتخاذ القرارات بالإجماع، ومنح كل موظف حصة ملكية واحدة وصوتاً واحداً. مع ذلك يطبّق هذا النموذج أشكالاً متعددة، فيضمّ بعض التعاونيات رؤساء تنفيذيين ومديري أقسام، أو قد يقتصر "الصوت الواحد" للعامل/المالك على تمثيله في مجلس الإدارة، إلا أن الشيء الأهم، وفقاً لقول الخطيب، هو تمثيل العاملين في الدرجات الدنيا بالشركة في أعلى مستوى من الحوكمة، و"ستستمر التعاونيات دوماً في اختيار المسار الأكثر أماناً لعامليها".
وفي مارس 2020 قرر العاملون-المالكون في "ريد إيماز"، وفقاً لقول الخطيب، أنه لا يمكنهم الاستمرار في فتح المقهى والحفاظ على العملاء أو أنفسهم آمنين في أثناء تفشي الوباء، ليغلقوه بعد ذلك ويسرّحوا أنفسهم من العمل. ونجحت الشركة التعاوينة لاحقاً في الحصول على قرض برنامج حماية الرواتب، وقرض الكوارث الاقتصادية، وبعض المنح الطارئة من الحكومة المحلية وحكومة الولاية. وبحلول شهر مايو، أعادت التعاونية عديداً من العاملين إلى كشوف المرتبات، قبل تحوُّلها إلى متجر عام على الإنترنت يضمّ "كاجو كريميري" وشركات محلية أخرى. وفي شهر سبتمبر، افتتح المقهى منطقة الجلوس الخارجية، مما أعاد مزيداً من الموظفين، وصوّت العاملون-المالكون على تلك القرارات كافة.
ورغم شهرتها بعقد سلسلة لا منتهية من الاجتماعات، فإن بعض التعاونيات في جميع أنحاء الولايات المتحدة أثبت ذكاءه، فمثلاً نجحت "آيلاند إمبلويي كو أوبروتيف" (Island Employee Cooperative) في جزيرة دير التي يبلغ عدد سكانها 3000 شخص بمقاطعة ماين، في شراء ثلاثة متاجر من أصحابها المتقاعدين، عام 2014، من أجل توفير كل ما يحتاج إليه السكان بلا مغادرة للجزيرة. ويقول رئيس العمليات بنجامين بيتس: "لقد فهمنا على الفور أن علينا إبقاء أبوابنا مفتوحة". و في شهر مارس صوّت مجلس الإدارة لصالح منح كبير المسؤولين الماليين بيتس، والرئيس التنفيذي بالإنابة ليس ويد، سلطة اتخاذ القرار في حالات الطوارئ، وهو ما أثنى عليه بيتس بقوله: "ساعدَنا ذلك على تسريع رد الفعل بشكل أفضل قليلاً".
تحدّيات التمويل
ومهما كانت ديناميكياتها الداخلية، فإن التعاونيات لا تزال تواجه صعوبات في سعيها لتأمين التمويل. وتقول الخطيب: "ذهبنا إلى أحد البنوك التي نتعامل معها منذ فترة طويلة، وقلنا لهم إننا نتوسع ونحتاج إلى قرض بقيمة 100 ألف دولار. قالوا لنا: هذا رائع، ولكن مَن الضامن الشخصي؟ لا تعمل الأمور لدينا بهذه الطريقة، فنحن لدينا 12 مالكاً متساوياً، لذلك كان على أنصار أماكن العمل الديمقراطية إنشاء نظام تمويل بديل".
وتقدّم "بريد" قروضاً تعاونية "غير استخراجية"، وهي التي لا تبدأ فيها خدمة الدَّين فوراً. وتقول إميلي ليرمان مسؤولة المشروع، إنها تساعد المقترضين على تحديد النقطة التي يمكنهم فيها بدء السداد من خلال نسبة مئوية من صافي الأرباح، وهي النسبة المئوية التي تترك للشركة رأسمالاً عاملاً كافياً، مضيفة أنه "يجب أن لا يأتي سداد أقساط القرض على حساب نجاح الشركة".
ويُعرف هذا الأسلوب باسم "رأس المال الصبور" في عالم التمويل التعاوني، ومن هذ المنطلق أمضت ليرمان عاماً ونصفاً في تطوير علاقتها بفوستر وكامبل في أثناء سعيهما للحصول على قرض. ولكن من أين يأتي هذا النوع من "الأموال الصبورة"؟ لقد أقرضت "بريد" 3 ملايين دولار حتى الآن، وكلها جاءت عبر شبكة صناديق "سيد كومونز" (Seed Commons) المهتمة بالاستثمار في التعاونيات، والتي ساعدت الخطيب على تأسيسها بعد محاولتها هي شخصياً الحصول على قرض مصرفي. ويضمّ المموّلون مؤسسات وبعض المصادر الحكومية وفاعلي الخير من الأفراد. ويقول بريندان مارتن، المدير المشارك في "سيد كومونز": "هؤلاء الذين يُطلَق عليهم (المستثمرون المؤثرون) يبحثون عن أماكن يمكنهم الاحتفاظ فيها بمدخراتهم واستخدامها لبناء اقتصاد أكثر عدلاً".
ويقوم جزء ضئيل من هذه الفكرة على شكل مماثل لـ"وول ستريت"، إذ تُجمَّع الأموال في محفظة قروض متنوعة, ووفقاً لمارتن، الذي عمل في "وول ستريت" في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وشارك لاحقاً في حركة "أوكيوباي وول ستريت" (Occupy Wall Street)، فإنه "إذا كنت تتطلع إلى اقتراض المال، فمن الأفضل أن يكون لديك منزل أو شيء ما يمكنك تقديمه ضماناً. تستطيع القول هنا إنك لا تستثمر في نشاط تجاري، بل تستثمر في صندوق يضمّ آلاف الأعمال التجارية. هذا يعني أن لديك فرصة".
وبعد اقتسام المقترضين الأرباح مع "سيد كومونز"، فإنها تعطي المستثمرين النصف، ولكنهم لا يملكون حق التدخل في الطريقة التي تدار بها الشركات. وتقول الخطيب: "يجب أن تكون سلطة اتخاذ القرار في أيدي المتأثرين بتلك القرارات، لكي تعمل الشركة التعاونية بشكل حقيقي وتكون ناجحة".
ويمكن للسياسة العامة أيضاً أن تمنح التعاونيات دعماً، فعلى المستوى المحلي، أطلقت مدينة نيويورك مبادرة تطوير الأعمال التعاونية للعمال في عام 2014، مما ساعد المدينة على رفع عدد التعاونيات العمالية من أقلّ من عشرين إلى أكثر من 130 في ربيع عام 2020، وهو العدد الأكبر في البلاد، حسب قول إستيبان كيلي، المدير التنفيذي لـ"الاتحاد الأمريكي للتعاونيات العمالية" (U.S. Federation of Worker Cooperatives). كما قالت المدينة مؤخراً إنها تنظر إلى ملكية العاملين على أنها "استراتيجية مرنة" تساعد أصحاب الأعمال المتعثرين، ومن ثم أطلقت في أثناء الوباء برامج لمساعدتهم على بيع أعمالهم المتعثرة للعاملين.
الدعم الوطني
وهنا تشير الباحثة شانون ريغر، في تقرير لـ"سينتشيري فاونديشين" (Century Foundation)، إلى السياسات الوطنية التي يمكنها تعزيز القطاع التعاوني. فمثلاً، تقدّم إيطاليا، وفقاً لريغر، نموذجاً في ذلك، إذ موّلت الحكومة شركتين ماليتين تساعدان في تمويل عمليات شراء العاملين، فيما يتمتّع العاملون الإيطاليون بحق الشفعة الأول لشراء شركة صاحب العمل، ويمكنهم استخدام إعانات البطالة رأسمالاً في تأسيس التعاونيات. وتقترح ريغر أيضاً السماح للتعاونيات الأمريكية بالوصول إلى الإعفاءات الضريبية التي تتلقاها فعلياً الشركات التي يملك فيها الموظفون حصصاً من الأسهم، مشيرة إلى أن برامج ملكية الموظفين للأسهم تمنحهم حصصاً في الشركات ولكنها لا تعطيهم نفس المستوى من السلطة. وتقول ريغر: "كل شخص تحدثت إليه بشأن تعاونيات العاملين انضمّ إليها بمجرد سماعه عن تفاصيلها، وأعتقد أن التحدث عن هذه الشركات هو الجزء الأهمّ في الأمر، وتغيير السياسات بشأنها يبدأ من هذه النقطة".
بدوره، يشير اتحاد التعاونيات العمالية في الولايات المتحدة إلى ظهور نحو 25 شركة تعاونية جديدة سنوياً، ليعود ربع هذا الرقم إلى الشركات التي قررت التحوُّل إلى شركات تعاونية من أشكال الملكية الأخرى، مما يدل على تزايد عدد التعاونيات بشدة. وتضمّ الولايات المتحدة حالياً أكثر من 400 تعاونية عاملة في الولايات المتحدة، وهنا يوضّح كيلي أن القوى العاملة في هذا القطاع تشمل أكثر من 60% من الملوَّنين، وتمثّل النساء ما يقرب من ثلثيها. ويقول: "اعتدنا القول إن التعاونيات كانت وسيلة للخروج من الاقتصاد، والآن هي وسيلة للتمكين". إلا أن وباء كورونا يهدّد هذا التقدم. فلقد انخفضت ملكية الأعمال التجارية بين الأمريكيين السود، وكانت الشركات المملوكة للسود الأكثر معاناة جراء كوفيد-19.
إضافة إلى ذلك يقول جون بينكافيل، الأستاذ الفخري للاقتصاد بجامعة ستانفورد الذي درس التعاونيات لمدة ثلاثة عقود، إن العاملين يبالغون أحياناً في تقدير خبراتهم في عملية الإنتاج عندما يقررون أنه يمكنهم تولّي المسؤولية مُلّاكاً. ويوضّح: "إنهم مُحِقّون في بعض الأحيان، ولكنهم مخطئون في أغلب الأحيان. يتبين بعد ذلك أن الجوانب الأخرى الضرورية لإدارة الأعمال التجارية لا تكون واضحة تماماً، مما يؤدي إلى انهيار الشركة التعاونية".
مع ذلك يرى بينكافال مزايا في التعاونيات، إذ يشير إلى دراسة وجدت أن الدول ذات المعدلات العالية من الشركات التعاونية العمالية لديها معايير أعلى من الثقة في مجتمعاتها، مضيفاً أن بعض علماء السياسة يرون في ديمقراطية أماكن العمل "وسيلة لتحسين الديمقراطية السياسية، التي ستؤدي إلى تطوير المهارات اللازمة لإدارة مجتمع ديمقراطي مفتوح لائق".
وعند نهاية الربع الأول من عام 2021، ستضع "كاجو كريميري" اللمسات الأخيرة على قرضها من "بريد"، وتأمل فوستر افتتاح المساحة بالمقهى بوسط المدينة في وقت لاحق من هذا الربيع، كما يعمل الزوجان فوستر وكامبل الآن على إعداد النموذج الثلاثي المستوى لتقاسم حقوق الملكية والحوكمة والأرباح، الذي سيؤهل العاملين بعد فترة زمنية معينة، للحصول على فرصة قيادة الشركة وعلى نسبة مئوية من الأرباح. وبعد مرور بعض من الوقت في هذا المستوى، سيصبح العاملون مُلّاكاً للتعاونية. ويعتزم الزوجان فوستر وكامبل جعل عملية صنع القرار ديمقراطية، ولكنهما يرغبان، كمؤسسين، في التحكم في القرارات المتعلقة بمُنتَجهم. وتبدو فوستر متفائلة أكثر من أي وقت مضى بشأن ما يمكن أن تؤسسه هي وزوجها في بالتيمور بعد خروج المدينة من الوباء، فقد بنت هي وزوجها "مجتمعاً قويّاً حقّاً، كما دعمَنا المجتمع من خلال طرق لم نكن نتخيلها مطلقاً بعد انتقالنا هنا،"على حد قولها.