حين اعتلى توماس مايكل كروكس سطح مبنى بجوار بلدة بتلر في بنسلفانيا وحاول اغتيال الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، كان يرتدي قميصاً مميزاً لونه رمادي معدني، وعلى ظهره رسم لنسر بخطوط حادة يبدو وكأنه شعار لجيش من زمن لم يأت بعد، وقد كُتب على صدر القميص كلمة "ديموليشا" (DEMOLITIA)، وهي اشتقاق يجمع بين كلمتي تدمير وميليشيا.
مصدر القميص قناة على "يوتيوب" تحمل اسم "مزرعة التدمير" (Demolition Ranch) لها رصيد من آلاف المقاطع المصورة نشرتها على مدى 13 عاماً وتستعرض ترسانة أسلحة يكاد عددها لا يُحصى.
لم يخلّف كروكس كثيراً من الآثار الرقمية، لذا كان اختياره القميص الذي يطرحه المتجر الإلكتروني للقناة بأقل من 30 دولاراً، أحد الأدلة القليلة على اهتماماته وعقيدته الفكرية.
مشاهد أسلحة وتفجيرات
قد يكون ما يشي به هذا الدليل هزيلاً. إذ إن سياسات (GunTube) وهو عالم واسع من المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي ممن يركزون على الأسلحة، لا تتسم بالوضوح دائماً. تضم (Demolition Ranch) مثلاً 11.7 مليون مشترك، وهي تحرص على تجنب الخوض في السياسة وتستثني أقل التصريحات التي تتناول التعديل الدستوري الثاني حدةً.
عادةً ما يظهر في المقاطع المصورة التي التي تنشرها (Demolition Ranch) صاحب القناة ومضيفها مات كاريكر بصحبة أصدقائه وهو يطلق النار من سلاح ضخم على أشياء قد لا تخطر على بال أحد. فتراهم يعرضون سلاحاً محدداً تارةً أو نوعاً معيناً من الرصاصات تارةً أخرى، أو يحاكون مثلاً مشاهد من الواقع يتخللها استخدام للأسلحة.
لكن عموماً، ينسجم مضمون القناة تماماً مع وصفها لنفسها: أشخاص مرحون من تكساس يطلقون النار من أسلحة كبيرة جداً على أشياء لتفجيرها. البطيخ هدف مفضل لهم، وكذلك دمى على شكل إنسان مصنوعة من جيلاتين بالستي، وهو مادة يمكنها محاكاة ما يحدث للجسد الحي حين يخترقه مقذوف.
تعليقاً على حادثة إطلاق النار على ترمب، قال كاريكر في مقطع فيديو عبر قناته: "نحن ننأى عن السياسة، فهي ليست المادة التي يقوم عليها عملي، كما لا أشعر بحاجة لأن أفرض آرائي وقناعاتي على الآخرين. لم يكن هدف هذه القناة قطّ التحريض على العنف والكراهية".
كما أعرب عن استيائه من ارتداء كروكس قميصاً من متجر قناته. وقال: "بديهياً لا نتحقق من الأشخاص الذين يشترون قمصاننا". بعد أسبوع ونصف الأسبوع على الحادثة، عادت (Demolition Ranch) إلى سابق عهدها، ونشرت مقطع فيديو لكاريكر وهو يطلق رصاصات من مادة كربيد التنغستن صنعها أحد متابعيه وأرسلها له، وقد استخدمها في بنادق متنوعة كما استهدف دروعاً شخصية واقية صُنعت من الفولاذ ليختبر قدرة هذه الطلقات على الاختراق. لم يستجب كاريكر لطلب التعليق.
السياسة تذهب بالأرباح
يمكن لقناة ناجحة تُعنى بالسلاح على "يوتيوب" أن تدر مئات آلاف الدولارات سنوياً بفضل عوائد الإعلانات والرعاية المباشرة التي تحصدها من شركات الأسلحة وصانعي أكسسوارات الأسلحة، وكذلك من علامات تجارية استهلاكية تقليدية لا تمانع بأن ترتبط اسماءها بمحتوى مثير للجدل. في المقابل، إن الإفراط بالطرح السياسي ربما ينفر المشاهدين فتنحسر الأرباح.
لكن موضوع السلاح في الولايات المتحدة مسألة سياسية بحدّ ذاته، كما أن للانخراط في حروب الثقافات فوائده، فيما يتباين حجم الإشارات السياسية وطبيعة السياسة بشدة بين قناة وأخرى.
بنى بعض المؤثرين المتخصصين بالأسلحة النارية (GunTubers)، ومنهم المحنك الذي يُسمي نفسه (Hickcok45)، سمعتهم عبر استعراض أسلحة نارية عصرية وقديمة بأسلوب متزن ومسؤول، فيما تعرض (Demolition Ranch) وشبيهاتها مشاهد متكلفة بها إفراط. وتعتمد قنوات أخرى مثل (GarandThumb) و(Administrative Results) على الخلفية العسكرية أو الأمنية لمقدم القناة، لإضفاء بريق من خبراتهم الحقيقية على تجارب إطلاق النار التي تقدمها.
تتميز كل من هذه القنوات بنكهة ونوعية تخصها، وعادة ما تتمحور حول شخصية مركزية وعدد من أصدقاء ومساعدين يُستبدل دورياً. حتى أن كثيراً من صناع هذا النوع من المحتوى تجمعهم صداقات في حياتهم الحقيقية بعيداً عن الكاميرا، لذا يشيع أن يصوروا مقاطع فيديو مشتركة أو يتعاونوا على إعداد مدونات صوتية أو غيرها من أطر التعاون عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ميل للسياسات اليمينية
لكن لا يخلو الأمر من إقحام بعض كبار المؤثرين رسائل سياسية صريحة. براندون هيريرا، الذي كان أكثر ما اشتهر به محاولاته صنع بندقية على غرار كلاشينكوف لكنها تستخدم طلقات ضخمة من عيار 12.7 ميليمتر، رشح نفسه لعضوية الكونغرس منافساً لعضو يمثل حزبه عن الدائرة 23 في تكساس، وهي عموماً مناطق ريفية شاسعة على طول الحدود مع المكسيك.
وقد خاض الانتخابات على أساس أجندة يمينية متطرفة، واتهم النائب توني غونزالس الذي كان يشغل المقعد في حينها لفترة ثانية، بأنه جمهوري بالاسم فقط. حصد هيريرا دعماً من سياسيين يمينيين متطرفين، مثل النائب عن فلوريدا مات غايتز، وفاته الفوز بالانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري بفارق 400 صوت فقط.
قال دان ترومبلي، الباحث المتخصص بالعنف السياسي والسياسات اليمينية على الوسائط الإلكترونية، إنه برغم الميول اليمينية لكثير من مؤثري الإنترنت المتخصصين بالأسلحة، فإن عقائدهم الفكرية الفردية نادراً ما تكون متماسكة بما يفوق ما يكنّونه من "ازدراء عمومي" للمجتمع الليبرالي والسائد لثقافة السلاح التي تجسدها الرابطة الوطنية للأسلحة ويتهمها كثير من عشاق السلاح على الإنترنت بالفساد ويعتبرون أنها تداني أفولها كقوة سياسية.
خاطبت بلومبرغ بزنيسويك عبر البريد الإلكتروني أكثر من عشرة صناع محتوى ومديرين تنفيذيين في مجال السلاح ظهرت منتجاتهم عبر "يوتيوب". قلّة منهم كانوا على استعداد للحديث مع كشف هوياتهم، فيما اختصر آخرون إجاباتهم وتجاهلوا أسئلة أتبعناها إجاباتهم.
تلميحات عنصرية
يعبّر كثير من المؤثرين المتخصصين بالسلاح عن السياسة بأسلوب بات مألوفاً على الإنترنت، حيث يلمّحون لوجهات نظرهم الفعلية تحت غطاء السخرية واللمز والمزاح. قال ترومبلي: "هذه آلية شائعة في كثير من المساحات الثقافية اليمينية في الولايات المتحدة... هناك مزيج من العقائد الفكرية التي قد لا تبدو متوافقة في الظاهر، لكن لديها أعداء مشتركين ورغبة مشتركة في قلب الأعراف الخانقة في الحيز الذي تتواجد فيه".
تتجلى هذه المحاولات من خلال سيل من التلميحات الخافتة، التي غالباً ما تتضمن أبعاداً تحريضية وعنصرية، مثل إقحام مقاطع لتظاهرات "حياة السود مهمة" في مقطع فيديو حول النجاة من الكوارث في المدن، أو السخرية من حركة "انتيفا" اليسارية أو ممن تحولوا إلى جنس مغاير، أو تعبيرات إعجاب بالبزات المموهة التي كان يرتديها القوميون الروديسيون البيض.
من هذه القنوات المتخصصة بالسلاح على "يوتيوب"، تلفت واحدة تحمل اسم (Administrative Results) من قبيل الإشارة إلى مجموعة (Executive Outcomes)، وهم عصبة من مرتزقة جنوب أفريقيا أسسها أعضاء فرق الموت في زمن الفصل العنصري، وتبيع القناة قمصاناً تحمل شعار ماسة مغموسة بدم مع عبارة "نادي سييراليون الجيولوجي".
قال ترومبلي: "ثمة رغبة في إظهار أنك ستتجاوز الحدود بعض الشيء من خلال الرموز التي تختارها والأفكار التي ترغب بطرحها دون الاضطرار إلى تقديم بيان سياسي متماسك، باستثناء تبني وجهة نظر صارمة بشأن التعديل الدستوري الثاني... في نهاية المطاف، هم يجنون مالاً من ذلك".
تدرّ هذه القنوات ما يعتبره كثيرون دخلاً جيداً، على الرغم من أن منصة "يوتيوب" غيرت سياستها في ما يخص السلاح. في 2018، بدأت "ألفابت"، مالكة "يوتيوب"، بتقليص عوائد الإعلانات التي تكسبها الحسابات التي تتضمن محتوى واسعاً عن الأسلحة النارية. لقد دفع ذلك نحو نقلة واسعة وناجحة باتجاه الإعلانات المباشرة والرعايات في مقاطع الفيديو، بما يتيح لصانعي المحتوى كسب المال دون الحاجة لمنصة الإعلانات من "غوغل".
تتشارك كثير من كبرى الحسابات المتخصصة بالسلاح شركة تسويق واحدة هي "ليفياثان" (Leviathan)، ما يساعد على توحيد أسعار رعاية مقاطع الفيديو، والحفاظ على العلاقات بين صانعي المحتوى وصلات وصلهم بقطاع الأسلحة النارية.
تعديل سياسات "يوتيوب"
اليوم، بات شائعاً أن يكون لمقاطع تقييم سلاح ناري على قناة كبرى عدّة رعاة. أمّا القنوات التي تعد بآراء حيادية، فتجدها تشتري السلاح الناري الذي ستستعرضه، فيما تقبل عروض رعاية من شركات الأكسسوارات والذخائر والمنظمات المعنية بالأسلحة، منها مثلاً "معهد صحراء سونوران" (Sonoran Desert Institute) وهي مدرسة عبر الإنترنت لصناعة الأسلحة في أريزونا.
تراجعت "ألفابت" في نهاية المطاف عن قرارها، لتسمح مجدداً بتحقيق الدخل من المحتوى المتعلق بالسلاح، وكان التسلسل الزمني لسياسات "يوتيوب" المتعلقة بالسلاح غير واضح تماماً، حتى بالنسبة للمؤثرين في مجال السلاح على الموقع.
لقد اتسم إجراء "ألفابت" الجديد بالأهمية بما أن الفيديوهات التي لا تحقق دخلاً تقل شعبيتها لأن نظام توصيات "يوتيوب" لا يروج لها. قال مايك جونز الذي يدير قناة (GarandThumb) واسعة الشعبية: "دون تحقيق دخل تصبح مقاطعك معطلة".
إضافة إلى تبني سياسة تفرض على منشئي المحتوى المتعلق بالأسلحة الالتزام بإرشادات محددة لنيل رضا المعلنين إن أرادوا تحقيق الدخل من محتواهم، حدّثت "يوتيوب" سياستها بشأن الأسلحة النارية مجدداً أوائل يونيو. فقد أضافت قواعد جديدة تفرض قيوداً عمرية على المحتوى المتعلق بالأسلحة الأوتوماتيكية أو المصنوعة منزلياً، والتشدد أكثر في التعامل مع المحتوى الذي يوصل ببائعي الأسلحة النارية أو يروج لهم.
قال المتحدث باسم "يوتيوب" خافيير هيرنانديز إن "التعديلات الجديدة التي أدخلناها على سياساتنا المتعلقة بالأسلحة النارية تأتي في إطار جهودنا المستمرة للحفاظ على سياسات تعكس الوضع الحالي للمحتوى على (يوتيوب)... زاد انتشار الطباعة ثلاثية الأبعاد في السنوات الماضية، لذا وسعنا قيودنا على المحتوى الذي يتضمن أسلحة نارية منزلية الصنع. سنواصل العمل مع صانعي المحتوى لمساعدتهم على فهم هذا التحديث وكيفية إدارة تأثيره على قنواتهم".
أعلنت "يوتيوب" في يونيو عن مجموعة ضوابط جديدة منها فرض قيود عمرية على كل المحتوى المتعلق بالأسلحة، وحظر عرض مشاهد لإطلاق النار من أسلحة أوتوماتيكية. اعترض صانعو المحتوى على هذه القواعد، بما أن مقاطع الفيديو التي تحتاج إلى تسجيل دخول من أجل مشاهدتها، لا تحظى بقدر كاف من المشاهدات مقارنة بمقاطع الفيديو المتاحة للعموم الجمهور.
كانت (Demolition Ranch) نشرت مقطعاً مصوراً في بداية يوليو تحت عنوان "تحدي قواعد (يوتيوب) الجديدة المتعلقة بالأسلحة" طرح فيها كاريكر مجموعة سيناريوهات مصممة خصيصاً لاختبار مدى نطاق هذه القيود (تضمّن عديد منها استخدام بندقية كلاشينكوف أوتوماتيكية بالكامل).
إثارة الجدل
كما سواهم من صناع المحتوى عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يجد المؤثرون الناشطون في مجال السلاح فرصة لجذب الانتباه في إثارة الجدل. فالنزاعات مع شركات التقنية الكبرى والمغامرات الغريبة وارتداء الأزياء العسكرية والتلميح إلى اليمين المتطرف، كلها فرص إعلانية وتسويقية فعالة.
نشر مقدم (Administrative Results) الذي يخفي اسمه الحقيقي، مقطع فيديو أعرب فيه عن أساه لإخفاقه في الترويج لشخصه، واستهل حديثه متناولاً الاهتمام الذي حصده هيريرا من خلال ترشحه إلى الكونغرس، وقال "كان يُنعت بأسوأ الأوصاف في المقالات، في المقابل حتى في المقاطع المصورة الذي ظهرت أنا فيها... لم يذكروني".
ثمّ تناول مجموعة نزاعات على الإنترنت لم ينخرط فيها، وتحدث عن الشهرة التي نالتها (Demolition Ranch) بعد إطلاق النار على ترمب. وقال "هل تعلمون من الذي لم يُذكر اسمه؟ إنه أنا... بت أفكر أن أمري انتهى". ولم يستجب لطلب التعليق.
يرى صانعو محتوى آخرون أن التلميحات والتعصب الشائع في عديد من القنوات الكبرى، يشتت الانتباه عن الموضوع الأهم، أي السلاح نفسه. وقال جوردان ليفين الذي يدير شبكة تواصل اجتماعي وتدوينات صوتية تحت اسم (A Better Way 2A) إن "الناشطين عى الإنترنت أصحاب المخاوف إزاء ذوي الميول غير الاعتيادية من اليمين المتطرف لا يمثلون غالبية مجتمع أنصار السلاح... حين تذهب إلى ميدان رماية أو نادي لهواة السلاح، ستجد معظم الناس هناك سعداء بتواجدك ودعمك لميدانهم".
تنتمي قناة ليفين إلى شبكة أصغر من المؤثرين الذي يحاولون فصل دعمهم للتعديل الدستوري الثاني عن السياسات اليمينية. وهم غالباً ما يعتبرون أن الحق في حمل السلاح جزء لا يتجزأ من المساواة للمجموعات المهمشة. قال: "حين تكون هناك مثل هذه الشخصيات البارزة التي لديها عدد كبير من متابعين يلتزمون برسالتها، فأعتقد أن الأمر سيطرح مشكلة... لا شك أن ذلك يلحق الضرر بنا جميعنا إن كان هدفنا استقطاب مزيد من الناس للاهتمام بالأسلحة".