أطلق تشارلز غاميس طائرة مسيّرة في يوم غائم مطلع مايو، وحين ارتفعت إلى 120 متراً بدأ يلتقط صوراً لما تحتها من مواقع، حيث ظهرت صفوف من الأكواخ متراصّة بينها أزقة غير معبّدة تربط فيما بينها وحولها تتناثر أشجار نخيل الزيت.
لم يكن التقاط تلك الصور بهدف التسلية، فقد كان الشاب الثلاثيني يساعد في وضع أول خارطة لـ"بلامو تاون"، وهي إحدى العشوائيات الواقعة على أطراف مونروفيا، عاصمة ليبيريا. هذه المستوطنة غير الرسمية القائمة منذ ما يناهز 70 سنة ويقطنها نحو 20 ألف إنسان، لا تظهر منها إلا تفاصيل قليلة في الخرائط الرسمية، ولا وجود لها على خرائط "غوغل".
يقطن أكثر من مليار شخص حول العالم، (أي شخص من كل 4 من سكان الحضر)، في مستوطنات غير رسمية على غرار "بلامو تاون" وتصنفها الأمم المتحدة على أنها عشوائيات.
يعيش سكان العشوائيات في مونروفيا في أكواخ متراصة مكتظة ابتكروها من خردة المعادن والطين، وفيها تجدهم يطهون طعامهم وينظفون ويعملون ويتجمعون. لكن حين تحلّ الكوارث الطبيعية، يصبح كلّ ما في المكان عبئاً ومن أسباب ذلك افتقاره للخرائط. وسرعان ما تجتاحه الفيضانات فتنهار أبنيته بسهولة ويتخبط عمال الإنقاذ إذ لا يدرون إلى أي صوب ينبغي أن يتجهون. حتى حين تعدّ حكومة المدينة خططاً لمواجهة التحديات المناخية، تجدها لا تأخذ العشوائيات في الاعتبار.
ترى كارولين خيفايرت، الأستاذة المساعدة في كلية علوم المعلومات الجغرافية ومراقبة الأرض في جامعة "توانتي" في هولندا، أن "العشوائيات قد تكون عرضة للتأثر بالتغير المناخي أكثر من الأحياء السكنية الأخرى... مهم جداً رسم الخرائط لها".
يأتي هنا دور منظمة "هيومانتريان أوبن ستريت ماب تيم" (Humanitarian OpenStreetMap Team) غير الحكومية في واشنطن، المعروفة اختصاراً باسم (HOT)، التي تتعاون مع العديد من الهيئات الإغاثية وسكان العشوائيات لوضع أماكن مثل "بلامو تاون" على الخارطة، فعلياً. تستخدم المنظمة طائرات مسيّرة لالتقاط صور جوية لكلّ مستوطنة، وتتعاون مع مسّاحين محليين ليقابلوا السكان وتوثيق جميع الطرق والأبنية.
تخدم هذه المعلومات أغراضاً متنوعة، إذ يمكن استخدام الخرائط المفصّلة كقاعدة إنطلاق تُقيّم على أساسها الأضرار الناجمة عن الكوارث، أو يمكن مثلاً الاستفادة من إحصاء عدد المباني من أجل تحديد كمية الطلاء الأبيض اللازم لدهن الأسقف بلون عاكس بخفّف من شدة الحر.
شاركت (HOT) منذ تأسيسها عام 2010 في مشاريع رسم خرائط لأحياء عشوائية في أكثر من 12 مدينة على امتداد عشر دول، بما فيها دار السلام في تنزانيا ودكا في بنغلاديش. وسرعان ما أخذت المشاريع المشابهة تتسع عالمياً. فقد أجرى اتحاد ليبيريا لمنقذي الفقراء الحضريين، المعروف باسم "فولوبس"، وهو واحد من المنظمات غير الحكومية الشريكة لـ (HOT) في مونروفيا، مسحاً شمل 24 مستوطنة غير رسمية من أصل ما يزيد على 100 عشوائية تفتقر للخرائط في المدينة ومحيطها، حتى يومنا هذا، ويتوقع أن يغطي 28 مستوطنة إضافية بحلول سبتمبر.
على بعد 8 كيلومترات من مكان تحليق مسيّرة غاميس، طرقت إحدى المسّاحات اللواتي يعملن لصالح مشروع "فولوبس"، وتدعى تيتي نييوان، باب مسكن عائلة تقطن في مستوطنة "دوالا". هناك، دوّنت ملاحظاتها عن حالة المسكن وأبلغت قاطنيه أنها حضرت لجمع البيانات حول مخاطر الفيضانات في الأحياء المنخفضة. طرحت عليهم عشرات الأسئلة لمدة 20 دقيقة فيما كان يتابع ما تفعل ثلاثة أشخاص من سكان "دوالا" يتدربون ليصبحوا مسّاحين هم أيضاً.
قالت نييوان، 34 عاماً، التي نشأت في مكان غير بعيد: "تساعدنا المعلومات في الدفاع عن مجتمعنا". كان كوخ عائلة نييوان في 2016 يقع على بعد 40 دقيقة سيراً على الأقدام عن أقرب شاطئ، ولكن هذه المسافة تقلّصت إلى النصف اليوم في ظلّ اشتداد العواصف التي تسببت بتآكل الأراضي الساحلية.
حين انتهت نييوان من المقابلة، حمّلت الاستبيانات الرقمية التي جمعتها في قاعدة بيانات يمكن للحكومة والجمعيات الأهلية الاطلاع عليها.
في مونروفيا، تدفع "فولوبس" وشركاؤها مبلغ 15 دولاراً في اليوم للمسّاحين المحليين مقابل خدماتهم، وهو راتب مغر في دولة لم يتجاوز فيها الناتج المحلي الإجمالي للفرد 800 دولار عام 2022.
قال جورج غليه، منسّق البيانات في "فولوبس": "نهدف إلى جمع كتلة ذات وزن من فقراء المناطق الحضرية بحيث يكون صوتهم مسموعاً".
ساعدت أبيجاي ويليامز، 32 عاماً، في إعداد خارطة لمستوطنة "لوغان تاون" غير الرسمية حيث تقيم، وبدأت تلاحظ النتائج الإيجابية لذلك، فقد قدّم المسّاحون نصائح حول سبل الحدّ من مخاطر الفيضانات، ما مكّن أفراد المجتمع المحلي من تنظيف المجاري الإشكالية التي أغلقتها النفايات المتراكمة. وذلك بعد أن كانت الفيضانات أجبرت ويليامز وعائلتها على مغادرة منزلهم لأشهر خلال موسم الأمطار العام الماضي.
وقال الاستشاري من مشروع (HOT) بيت ماسترز: "التواصل المجتمعي أساسي من أجل تحقيق تكيّف جيد... إن لم تفهم واقع المجتمع لن تتمكن من حل مشكلته".