جلس عالما الأحياء الدقيقة الإسرائيليان عمري كورين وموران ياسور منذ بضعة أسابيع مع عالم بلجيكي من جامعة أنتويرب ليناقشوا إقامة شراكة بحثية بينهم، وكانت أجواء اجتماعهم إيجابية، وسرعان ما تطرقوا إلى مذكرة تفاهم تنظم تعاونهم.
لكنهما تلقيا بعد ذلك رسالة إلكترونية من زميلهما جاء فيها: "نظراً للنزاع السياسي في منطقتكم، يصعب حالياً إبرام مذكرة تفاهم بين مؤسستينا".
كانت تلك خاتمة الفكرة، التي أصبحت مثالاً جديداً عمّا يصفه العلماء الإسرائيليون بالمقاطعة الأكاديمية المتنامية على خلفية الحرب الإسرائيلية على حركة حماس في قطاع غزة، التي لا تقتصر أضرارها على إسرائيل، بل تطال أيضاً البحث العلمي الذي يعتمد على التعاون الدولي.
على مدى الأشهر التي تلت الردّ الإسرائيلي على هجوم السابع من أكتوبر، ألغيت دعوات عشرات الباحثين الإسرائيليين إلى مؤتمرات علمية، ورُفضت طلبات مراجعة بحوثهم، وأوقف عن بعضهم التمويل، كما رُفضت أو تم تجاهل طلباتهم لإجراء تقييمات علمية سرية لبحوثهم، على الرغم من الأهمية القصوى لذلك في المجال الأكاديمي.
لقد أصدرت جامعة خنت البلجيكية تعميماً لباحثيها يطلب منهم ترك المشاريع التي تضمّ شركاء إسرائيليين، أو استبعاد الإسرائيليين من قائمة المشاركين فيها، وهذا سينهي التعاون في مجالات مثل تنقية المياه وألزهايمر والفيزياء الجزيئية والسمنة.
تهديد البحث العلمي
حين اقترح نير ديفيدسون من معهد وايزمان للعلوم على زميل إيطالي التقدم بطلب منحة مشتركة، صده قائلاً إن ذلك بسبب "ما فعله بلدك وما يزال يفعله". وتعرض أستاذ إسرائيلي يلقي محاضرة في جامعة نيفادا في لاس فيغاس لهجوم من متظاهرين اتهموه بدعم "الإبادة الجماعية".
قالت جيلي دروري، عميدة كلية العلوم الاجتماعية في الجامعة العبرية: "كنّا نواجه بعض العوائق في السابق، ولكن لم يكن أي منها يشبه هذا السيل الجارف".
تردّد كثير من العلماء الإسرائيليين في التعليق على المقاطعة، خشية أن يشجع الحديث علناً عن الموضوع أطرافاً أخرى على أن تحذو حذو المقاطعين. وقد رفض معظم الأكاديميين الذين قابلتهم بلومبرغ الإفصاح عن أسماء الجهات المقاطعة، حفاظاً على شراكات مستقبلية محتملة، فيما أكّد كثيرون أن الحرب لم تؤثّر على معظم التعاون العلمي.
تصدرت الاعتصامات الطلابية التي تدعو الجامعات إلى قطع علاقاتها بإسرائيل حركة التظاهرات العالمية بشأن الحرب على قطاع غزة.
غالباً ما يكون للبحوث في مجالات بعينها مثل الفنون والإنسانيات والقانون والعلوم الاجتماعية جانب سياسي، بما أن النقاش حول مسائل السلطة والعدالة كثيراً ما يتناول النزاعات المعاصرة.
لكن العلوم الأساسية مثل الطبّ والهندسة التي تتطلب تعاوناً دولياً تجنبت عموماً التحركات المناوئة لإسرائيل قبل الحرب على غزة، حيث تعدّ إسرائيل رائدة في هذه المجالات لما لديها من جامعات بحثية وحاضنات للتقنيات العالية، وكذلك تسعة فائزين بجوائر "نوبل" في الكيمياء والاقتصاد.
حتى أن بعض القائمين على البحث العلمي حذّروا من أن الأكاديميين الإسرائيليين ليسوا وحدهم من سيعانيون من تبعات تنامي حركة المقاطعة.
قال لوك سيلز، رئيس جامعة "لوفين الكاثوليكية" في مقال صحفي إن أعمال الإسرائيليين تتضمّن "بحوثاً حول مرض باركنسون والتوحد والتنوع الحيوي للتربة، وسيكون لتعطيل هذه الدراسات تبعات كبرى على البحوث العلمية العظيمة القائمة، كما يؤثر على العديد من الشركاء غير الإسرائيليين في هذه التكتلات".
سابقة مع روسيا
سعى ديفيد هاريل، رئيس الأكاديمية الإسرائيلية للعلوم والإنسانيات، لإقناع زملائه في الخارج بوجهة النظر هذه. وأبلغ رؤساء أكاديميات علمية أوروبية خلال اجتماع في برلين الشهر الماضي، أن مقاطعة إسرائيل سترتد عليهم سلباً، وستعرقل تحقيق الأهداف المشتركة الرامية لجعل العالم مكاناً أفضل للحياة، وقال: "مثل هذه الخطوات ستلحق الأذى بالجميع في نهاية المطاف".
يطالب بعض الباحثين منذ زمن طويل بمقاطعة إسرائيل بسبب معاملتها للفلسطينيين، لكن هذا التوجه تضخم كثيراً بعد 7 أكتوبر، حين عبر عناصر من حركة "حماس"، التي تعتبرها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي "منظمةً إرهابيةً"، من قطاع غزة إلى إسرائيل وقتلوا 1200 شخص وأخذوا 250 رهينة، ما تسبب بردّ إسرائيلي، وقتلت إسرائيل من خلال الحرب التي تشنّها للقضاء على حماس أكثر من 37 ألف فلسطيني، ودمرت معظم قطاع غزة، بحسب الحركة.
تستحضر مقاطعة الأكاديميين الإسرائيليين سوابق أخرى سُجّلت في الآونة الأخيرة اتخذت خلالها الجامعات مواقف سياسية. فبعد الهجوم الروسي على أوكرانيا قبل عامين، جمّدت الدول الأوروبية شراكاتها العلمية مع روسيا، فيما رفضت بعض الدوريات العلمية نشر بحوث أعدّها علماء روس أو شاركوا في إعدادها.
في 2022، ألغى معهد ماساتشوستس للتقنية محاضرة كان سيلقيها خبير جيوفيزيائي من جامعة شيكاغو على خلفية موقفه من المعاملة التفضيلية للأقليات، رغم أن ذلك لا يمتّ بأي صلة إلى موضوع المحاضرة، فقد كان سيتحدث عن التغير المناخي.
وُجهت انتقادات أيضاً إلى الحكومة الإسرائيلية لما تمارسه من قمع لحرية التعبير الأكاديمية، ومن ذلك التحقيق مع أستاذة فلسطينية في الجامعة العبرية بتهمة "التحريض على الإرهاب"، وإيقافها عن العمل لفترة قصيرة.
المقاطعة أشدّ في أوروبا
اتخذت هذه الفورة المناهضة للعلماء الإسرائيليين مساراً صعودياً، إذ يشتد عضد المقاطعة في أوروبا، حيث أعلنت جامعات في بلجيكا والنرويج وإسبانيا قطع تعاونها مع المؤسسات الإسرائيلية. لكن في الولايات المتحدة، المقاطعة المؤسساتية لإسرائيل أقل شيوعاً بكثير، إذ تحد منها السياسات الجامعية وقوانين الولايات، على الرغم من أن بعض الباحثين شاركوا في المقاطعة على صعيد فردي.
في مارس، رفض الخبير الديموغرافي فيليب كوهين في جامعة ماريلاند طلباً من "مؤسسة إسرائيل للعلوم" بمراجعة اقتراح بحثي. وكتب في مدونته الإلكترونية: "أؤمن أنه لا يمكن للمجتمع الدولي السماح بتطبيع العلاقات مع دولة إسرائيل في ضوء أفعالها في غزة والضفة الغربية منذ 7 أكتوبر". وقال إنه يشعر بأنه مضطر للقيام بما يستطيعه "من أجل المساهمة في عزل الدولة دبلوماسياً وسياسياً وحتى علمياً. فهي على الجانب الخطأ من التاريخ، ولا بد من أن تكون هناك عواقب لسلوكها".
قبل شهر من ذلك، توجّه أساف بئير من جامعة "بار إيلان" في إسرائيل لحضور مؤتمر دولي عن الفيزياء الفلكية في جامعة نيفادا في لاس فيغاس. بعد 15 دقيقة من بدء محاضرته عن الثقوب السوداء في قسم الفيزياء في الجامعة، قاطعته مجموعة من نحو 10 طلاب مناهضين لإسرائيل، وصاحوا به واتهموه بأنه "مؤيد للإبادة الجماعية".
قال بئير "ظلّوا يصيحون ولم يدعوني أكمل"، وقد حضر عناصر شرطة الجامعة "ولكنني صدمت أنهم بدل إخراجهم من القاعة، أبلغوني بإلغاء الفعالية".
كتب رئيس الجامعة كيث وايتفيلد في رسالة إلكترونية إن "حماية حرية التعبير والحرية الأكاديمية أمور أحرص على الالتزام بها... لن نقبل بأي شكل من أشكال التحامل أو التمييز أو السلوكيات التهديدية أو المضايقات أو التنمر أو الترهيب ضد أفراد مجتمعنا الجامعي".
خوف من التظاهرات
يقارب البعض الاحتجاجات وحركات المقاطعة من منظور يعتبر أن العداء للسامية حول العالم يتنامى. فقد تعرّضت مؤسسات يهودية وأفراد يهود ليسوا على صلة بإسرائيل إلى هجمات على خلفية الحرب بين إسرائيل وحركة "حماس".
لكن برغم أن العديد من الأكاديميين في إسرائيل يشعرون بجفوة الخارج، إلا أنهم يعزون هذا التبدل في المواقف تجاههم، إلى الخشية من التظاهرات والاضطرابات التي تثيرها الجماعات الناشطة الأكثر صخباً، وليس إلى مشاعر مناهضة لإسرائيل أو معادية للسامية. قال إيران توخ، رئيس قسم الهندسة الصناعية في جامعة تل أبيب "لا أحد يرغب بتظاهرة".
في بعض الحالات، تكون المقاطعة رمزية أكثر من أن تكون فاعلة، إذ ينقل باحثون إسرائيليون عن بعض زملائهم الأوروبيين في المؤسسات المقاطِعة قولهم إنهم يرغبون في مواصلة التعاون معاً، ويأملون أن تنقضي المسألة. مع ذلك، تلقي المقاطعة بظلالها على علماء إسرائيليين ممن لهم بحوث قائمة على المنح والتعاون مع زملاء أميركيين وأوروبيين.
إسرائيل شريكة منذ عام 2014 في برنامج "هورايزن يوروب" (Horizon Europe) البحثي البالغة قيمته 95 مليار يورو (102 مليار دولار)، والذي يعدّ مبادرة الاتحاد الأوروبي الرئيسية في مجال البحوث والابتكار، وأكبر صندوق علمي عابر للحدود في العالم يهدف إلى زيادة التعاون الدولي من أجل معالجة المشاكل الدولية. كما أن كثيراً من الإسرائيليين تلقوا تمويلاً من مجلس البحوث الأوروبي.
تهديد مكانة إسرائيل العلمية
وجّهت رابطة رؤساء الجامعات الإسرائيلية رسالة هذا الشهر إلى المفوضين الأوروبيين قالت فيها إن المقاطعة الأكاديمية، بالأخص مطالبة بعض الجامعات بشطب إسرائيل من مشروع "هورايزن يوروب" قد ينتهك القوانين الأوروبية.
وجاء في الرسالة أن هذه الممارسات "ذات التأثير المخيف على الحرية الأكاديمية والمنافسة العادلة والمنصفة للحصول على التمويل، غير قانونية ولا يمكن قبولها".
كان تقرير حكومي إسرائيلي صدر في أبريل حذّر من التبعات التي ستواجهها البلاد في حال استمرّت محاولات عزلها. وجاء فيه: "يمكن للمقاطعة الأكاديمية أن تهدد مكانة إسرائيل العلمية والتقنية في العالم، وتلحق الأذى على المدى الطويل بالأمن القومي وقوة الاقتصاد الإسرائيلي".
وكانت وزارة المالية الإسرائيلية وافقت على خطة تقضي بتخصيص 700 مليون شيكل (189 مليون دولار) على مدى السنوات السبع المقبلة لاستقطاب المواهب الأكاديمية البارزة.
الخوف الأكبر هو تراجع المعرفة العالمية، إذ تقول الجامعة العبرية في القدس إنها حصلت على 11 ألف براءة اختراع عن اكتشافاتها العلمية، فيما يقول معهد "وايزمان" إن علماءه اخترعوا بزل السائل الأمنيوسي وأدوية للتصلب اللويحي ومركبات ذات استخدامات صناعية وطبية. وبحسب المديرين فإن معظم ذلك العمل هو ثمرة تعاون.
قال هاريل: "لا يجب أن يقيّد العلم بأي حدود... إذا ما أخذتم بلداً مثل إسرائيل متفوقاً في عدة مجالات علمية وأضعفتموها فانخفض مستوى هذه العلوم، سيكون ذلك إضراراً بحتاً بالعلم".